من تجليات الغضب الشعبي الهادر العابر للحدود

تسقط أمريكا أحياناً في بئر ممارسات متخلفة من بقايا ميراث عنصري قديم يأبى الزوال، لكن منظومتها الديمقراطية وقيمها لا تسقط.

 

الاحتجاجات الشعبية الغاضبة الهادرة في أمريكا وخارجها على خلفية مقتل المواطن الأسود جورج فلويد على أيدي شرطي أبيض عنصري، وقبلها مظاهرات فرنسا التي تزعمتها حركة السترات الصفراء وبدأت في مايو 2018 وتواصلت لأشهر طويلة وامتدت لتشمل فكرتها الاحتجاجية دول أوربية أخرى، وغيرها من أشكال التظاهر والرفض بهذا البلد أو ذاك في الغرب الحر، تؤكد أن دولة الديمقراطية لا تعني العدالة المطلقة، فهذه الدولة الفاضلة لم تظهر بعد على الأرض، وقد لا تظهر أبداً.

مع هذا، ففي ظل الديمقراطية يتحقق قدر كبير من العدالة والقانون، وعندما تحدث انتهاكات يكون مرجعها سلوك فردي، أو خلل في قوانين ونظم وأوضاع سائدة، وعندما يتكرر الظلم، ويستفحل خطره، ويحدث تنبيه شعبي هادئ أو صاخب، فإن مؤسسات الحكم، وآليات الديمقراطية، والرقابة الشعبية، تتحرك بفاعلية للعلاج.

وهذه ميزة عظيمة تعكس عملية تجديد وتصحيح ذاتي داخل النظام الديمقراطي الدستوري الذي هو كيان مرن قابل للتعديل والإصلاح بديمومة لا تتوقف تحقيقاً لمصالح المجتمع وتعزيزاً للدولة ودورها في خدمة مواطنيها.

ضد العنصرية:

في الولايات المتحدة خرج الغاضبون على العنصرية الكريهة، وعلى الرئيس ترمب أيضاً وبعض تصريحاته العدوانية التي تساهم في تغذية هذا الفيروس، ومارسوا حقهم الطبيعي والإنساني في الاحتجاج السلمي المشروع، ولا نتحدث هنا عن ممارسات عنف وفوضى وسلب ونهب مارسها خارجون أو جماعات متطرفة منتهكين قواعد التظاهر المنضبط.

 والدولة وحكومتها ومؤسساتها وهياكلها والقوى المدنية والناعمة لم تتجند لسحق المتظاهرين، وإهالة التراب عليهم، بل تعاطفت مع الأمريكي القتيل على أيدي الشرطي المجرم، وأكد الجميع على الحق في التعبير السلمي والتنديد بالجريمة الشنيعة..

 والمعارضة والنخب الحريصة على سلامة الدولة والمجتمع انتقدت الخلل في العدالة الجنائية ودعت لإصلاح جهاز الشرطة المعطوب بممارسات بغيضة لعناصر متطرفة فيه ضد سود وملونين ومهاجرين.

وترمب المنفلت، الذي يتأرجح في مواقفه بين وجه رئاسي لديه مسحة ديمقراطية، ووجه آخر فيه نزعة تفضيل أدوات القوة ووصفات الاستبداد في القمع، تتم مواجهته بشدة لكي يضبط بوصلته السياسية الوطنية، ولتذكيره بأنه رئيس منتخب يخدم أكبر ديمقراطية في العالم، وأن ما يريده من إجراءات للسيطرة تتشابه مع وسائل الحكومات الفاشية لا تستقيم في السياق الأمريكي المحكوم بقيم الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والمصان بأبواب الدستور ونصوص القوانين وتراث واسع من الممارسات الداعمة لحرية الرأي والتعبير والحق في التظاهر السلمي.

تسقط أمريكا أحياناً في بئر ممارسات متخلفة من بقايا ميراث عنصري قديم يأبى الزوال، لكن منظومتها الديمقراطية وقيمها لا تسقط، بل يحافظ الجميع عليها،حكومة ومعارضة، وكلهم مؤمن بالنظام الديمقراطي الليبرالي والدفاع عنه، ولو ضد الرئيس نفسه إذا دفعته الحماقة إلى شبهة التعدي عليه، فالربيع الأمريكي، مجازاً، هو لمزيد من التمسك بالديمقراطية وتدعيمها والبحث في جوهرها عما يرتفع بشأنها، وتصريحات رجال الإدارة وحكام الولايات والمشرعين والمرشح الديمقراطي المحتمل للرئاسة تصب في اتجاه التعزيز للحريات المدنية وحكم الديمقراطية والتصدي لأي عدوان على الحقوق العامة للمواطنين.

وليس هناك أكثر دلالة من أن وزارة الدفاع ترد على دعوة ترمب باستدعاء الجيش للشارع، بأن الجيش لا ينزل الشارع، ولا يواجه المدنيين، الجيش له مهام دفاعية ضد العدوان الخارجي، وإذا استدعت الكوارث الكبرى استنفاره، فإن الاحتجاجات الشعبية على العنصرية ليست كارثة، بل حراك طبيعي يتطلب المساندة لا المواجهة.

على النقيض التام من هذا، فإن دولة الاستبداد لا علاقة لها بالعدالة ولا تعرفها من الأصل، لا مؤسسات أو قواعد أو قيم أو أخلاق تحكمها حتى يمكن الاطمئنان إلى وجود العدل أو إقامة العدالة فيها، هى دولة بلا حقوق مصانة لأفرادها، الحقوق ما يقرره الحاكم المطلق، أو الحزب الوحيد المهيمن على السلطة، وهو بدوره محكوم بالزعيم الملهم صاحب السلطات الهائلة والممسك بالدولة كلها في يديه.

في خدمة الحاكم:

القانون غائب في دولة الاستبداد والظلم أمر معتاد، وهو ممارسة عامة، ولا يملك أحد تغييره، أو التخفيف من قسوته، وإلقاء الضوء عليه ليس يسيراً، فلا مؤسسات منتخبة بحق تستمع وتراقب وتحاسب، وإذا وجدت فهى توضع في خدمة الحاكم وتحت إمرته، ولا مؤسسات رقابية، أو محاسبة شعبية، أو قوى ناعمة تدق ناقوس الخطر من الغليان والمفاسد، والسلطة إما تلغي كل وسائل الرقابة والمحاسبة، أو تسيطر عليها تماماً، ومع تراكم الانتهاكات والمظالم وانسحاق الفرد وتهميش المجتمع قد يحدث الانفجار وكلفته ضخمة لمن يقوم به، كما حصل في الربيع العربي حيث دفع الثائرون المخلصون أثماناً باهظة لأجل تغيير نظم حكم غير سوية.

والقوى الشعبية التي لا يزال لديها حلم ونَفَس وتتصدى للديكتاتوريات تسدد كُلَفاً ضخمة في ربيع العرب الممتد منذ 2010، حتى 2020، والذي لم تغلق صفحته بعد، طالما بقيت مخلفات التاريخ الإنساني في الحكم الفردي والمطلق والسلطوي وسياسات القمع والقهر، وطالما أن تضحيات الشعوب ورغبتها في التغيير يتم الالتفاف عليها وتفريغها من مضامينها في بناء دولة ديمقراطية حرة عادلة، لا استعادة القديم المستبد الغاشم.

 مهما كانت بعض المظالم في دولة الحريات، أو الخلل في نظام العدالة، ففيها وسائل التنبيه والتحذير، ومؤسسات وأجهزة تلتقط الرسائل وتتحرك لسد النواقص وإصلاح الخلل، والمواطن كرامته مصانة، ويندد ويهتف ثم يعود لبيته بأمان واطمئنان، ولهذا يزداد نموذج هذه الدولة قوة وتماسكاً.

بينما في دولة الاستبداد التي يحتكرها فرد، وحوله مجموعة منتفعين، الكلام فيها محرم، والصراخ جريمة، والخروج للتعبير السلمي إرهاب، والمطالبة بالحقوق مؤامرة وخيانة.

وبالتالي، كيف يتم ضمان سلامة هذه الدولة كياناً ووظيفة وشرعية، ولمن تكون؟، إذا كانت لمواطنيها، وهم يشعرون بذلك حقاً، فلن يمسها أحد بسوء، وإذا كانت لجماعة محدودة توجهها لمصلحتها فقط، فهم بذلك خطر عليها عندما يقومون باختطافها وتفريغها من محتواها وأدوارها التي أُنشئت من أجلها، ومن أسف أنها تحمل عوامل التداعي في داخلها دون أن يقترب منها أحد، والمخاطر عليها مصدرها الأنظمة نفسها التي تستبد بها وتحرم مواطنيها منها.

ضد الدولة:

لا نجد أمريكياً في الاحتجاجات يقف ضد دولته، خلافه فقط مع الإدارة التي اختارها لخدمته، ولم نجد فرنسياً رافضاً للدولة، إنما الغضب على سياسات القسوة الاقتصادية، وفي خضم صخب المظاهرات لا تتوقف الحياة، وتبقى الدولة قائمة تمارس وظائفها في حماية جميع أبنائها المستفيدين من خيراتها بعدالة، إنما في ممالك ومزارع أنظمة البؤوس تتعثر الحياة بمجرد هتاف مجموعة من الأشخاص، وتخرج ماكينات الدعاية لنشر التلفيقات عن المواطن العميل والخائن، وفي ظل هذه الفوبيا الجاهزة حتماً تظهر الدولة الهشة، والمفتتة، والضائعة، واللادولة.

الاستجابة السريعة للمطالب الجماعية أو الفردية العادلة فيه حفاظ على هيبة السلطة، وجدارتها باستمرار تمثيل المواطنين، وفيه عدم تعريض المجتمع والدولة للمخاطر، والسلطة موجودة من الأصل لتلبية المطالب العامة لمواطنيها وخدمتهم والسهر على راحتهم.

 هى لم تأت للغياب عنهم، أو مناكفتهم، أو تحديهم، هى خادم مستأجر لفترة من الزمن مقابل سلطات وصلاحيات وامتيازات، وإذا تقاعست أو تلكأت أو تخاذلت أو عاندت فلن تكون جديرة بمواصلة أداء الخدمة العامة، وتفقد لياقتها وشرعية وجودها، ولأن الديمقراطيات لا تعرف انقلابات عبر الدبابة، أو إسقاط أنظمة عبر حشود الشوارع، فإن الصندوق هو الوسيلة الوحيدة الآمنة للتغيير، والذي لم تُحترم نتائجه في تجارب عربية وليدة، ولم يحصل على فرصته في تجارب أخرى وحل محله السلاح، وفي نوع ثالث هناك من يسعى للتمرد على إفرازاته في لعب ساذج بالنار.

تنفيذ القانون:

ضغط الجمهور دفع جهاز الشرطة والإدعاء العام للتحرك سريعاً لتنفيذ القانون والبدء في إجراءات تحقيق العدالة ضد قاتل فلويد، وغالباً هناك تفكير داخل الإدارة والمؤسسات في وجوب التصدي للخلل في العدالة الجنائية، وإصلاح الشرطة، وفي احتجاجات فرنسا بادر ماكرون بإلغاء قرارات أثقلت كاهل الطبقات العاملة والفقيرة، ومطالب الجمهور عموماً هى أوامر عليا تستجيب الحكومات المنتخبة لها فوراً.

أما في ربيع العرب، فإن التربص السلطوي حاصر المحتجين، وكال الاتهامات الشنيعة لهم، واستخدام القوة ضدهم، والاعتقالات، ولم تبدأ النظم المهتزة في الاستجابة للمطالب إلا بعد فشلها في القضاء على الانتفاضات حيث كانت خرجت عن سيطرة أجهزتها الأمنية.

 وإذا لم تكن النتائج مبشرة، فالجيد أن الشعوب فرضت معادلة جديدة في التغيير، وهى تغليب إرادتها، وهو ما لم يكن موجوداً من قبل، كان التغيير يتم عبر الانقلابات المباشرة، أو انقلابات القصر، أو وفاة رأس النظام، اليوم ينام المستبد وعيناه مفتوحتان، وهو قلق دوماً من هبة شعبية مباغتة تهدد نظامه، بينما ترامب ينام في البيت الأبيض مطمئناً، رغم سوءاته، فلن تُطيح به الغضبة الشعبية في الشوارع، مصيره رهن الصندوق السحري، بعد أقل من خمسة أشهر من الآن.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه