انتصار النكسة

وقل ما شئت عن فساد الضباط ومطاردة الفنانات والراقصات والعربدة والسكر وكل أشكال الانحراف، ويبدو أن تلك كانت هي أمجادهم التي كانت تتغنى بها إذاعة صوت العرب: أمجاد يا عرب أمجاد

 

ظللت أفكر في عنوان مناسب لمقال مختصر عن أكبر هزيمة في التاريخ المعاصر والتي أسموها نكسة 5 يونيو/حزيران 1967 وقد أعيتني الحِيَل خاصةً وأنني عشت في طفولتي لحظات تلك الأيام النحسات، ومشيت وأنا التلميذ الصغير في المرحلة الابتدائية في مظاهرات حشد لها التنظيم الطليعي وكل أجهزة عبد الناصر لنهتف بحناجرنا البريئة يومي 9 ، 10 يونيو إذ أعلن الزعيم الملهم أنه يتنحى ويتحمل نتيجة النكسة كاملة، فتدفقت الجموع على الشوارع لا تطالب بمحاسبته أو محاكمته بل بالبقاء وظللنا نردد وراء الهتيفة: ( عبد الناصر يابن مصر ، مين هيخطب يوم النصر ) ، ثم قرأنا لمحمد حسنين هيكل وغيره تحليلاً قد استاء منه إبليس ونفرُ غير قليل من الشياطين..

حيث قالوا فُضت أفواههم: “إنٌ هدف العدو الإسرائيلي من هزيمتنا هو كسر إرادة الزعيم وتنحيه عن الحكم، وطالما أننا نجحنا في إثناء الزعيم وإبقائه زعيماً لنا وللأمة العربية فقد انتصرنا على العدو”!

وهكذا أصبحت النكسة نصراً دون أن ندرى ليظل الزعيم الملهم حتى لو كان الثمن عشرة آلاف قتيل من الجنود، وألف خمسمائة من الضباط، وخمسة آلاف أسير من الجنود وخمسمائة من الضباط، فمصر ولادة وستنجب غيرهم..

ليبقى الزعيم ولو تم تدمير الأسلحة والطائرات والمطارات فكل ذلك ممكن تعويضه ليستمر الزعيم ولو اُحتلت الأرض فسوف نحررها ولو بعد حين كل شيء ممكن تعويضه إلا الزعيم؛ لذلك ظللنا نهتف (عبد الناصر يابن مصر مين هيخطب يوم النصر) ولم نسألهم فمن المسؤول عن الهزيمة؟!!

صوت أحمد سعيد:

لم أكن أدرك يومها ( كيفما يولى عليكم تكونوا ) ولا ( كيفما تكونوا يول عليكم )

كان صوت مذيع صوت العرب أحمد سعيد يدخل الفرحة على قلبي الصغير وهو يعلن – ووالله مازلت أذكره – وهو يقول أسقطنا ٨٧ طائرة للعدو (هكذا مرة واحدة) وكيف أصبحنا على مشارف (تل أبيب) فأصبحوا هم في (التل الكبير)!

وشاءت إرادة الله أن أتخطى مراحل من سنين العمر وأقرأ وأسمع وأشاهد وأفجع، فكل المقدمات يعاد تكرارها لتؤدي حتماً لنفس النتائج مع اختلاف الأشكال والأنماط، وكلمة السر في كل ذلك تغييب وعى الجماهير.

فعلى مدار سنوات قيل لنا إنّنا نملك أقوى جيشٍ في الشرق الأوسط، ومازالت مشاهد صواريخ القاهر والظافر التي تصل لعمق تل أبيب ماثلة في الذاكرة وموجودة على الإنترنت لمن أراد أن يتذكر، وفي 23  يوليو/تموز 1966، أقيم عرض عسكريّ مبهر شهده عبد النّاصر مع قادة الجيش، وعندما بدأت عمليّة التعبئة في العام التّالي وقد شاهد الملايين من سكّان القاهرة قوّات الجيش وهي تخترق شوارع العاصمة في طريقها للجبهة في مشهد أقرب إلى استعراض عسكريّ منه إلى حشدٍ تعبوي. كان مشهد الجيش مبهراً، وكان يحقّ للمصريّين أن يفتخروا بأنّ جيشهم من أكبر جيوش المنطقة، ودأبتْ وسائل الإعلام كلّها على نقل أخبار الانتصارات التي كان يحقّقها الجيش في اليمن، وكانت تتوعّد بالهزائم التي سيوقعها حتماً جيشنا الجرّار بإسرائيل في المعركة المرتقبة.

لم تكن مستعدة:

كل ذلك رغم أن القوّات المسلّحة المصريّة لم تكن مستعدّة في العام 1967 لخوض حربٍ مع الكيان الصهيونى خصوصاً مع وجود ثلثي حجم القوّة الضّاربة في ( اليمن ) بل إنّ هيئة عمليّات القوّات المسلّحة  أعدّت للقيادة تقريراً عامّاً عن الخطّة《قاهر》 وكيفيّة تنفيذها، وهى خطة دفاعية، ورفعتْه في ١٦  ديسمبر/كانون الأوّل حذّرت فيه من القيام بمواجهة عسكريّة مع إسرائيل ولفترةٍ زمنية طويلة قد تدوم ثلاث سنوات بسبب وجود ثلثي القوّات في اليمن وضعف القدرة القتاليّة للتشكيلات والوحدات ونقص الأفراد والمعدّات والتّجهيزات.

 وكما قال نصاً الفريق الحديدى في كتابه الهام 《 شاهد على حرب 67》

“إنّ مصر اختطّت لنفسها استراتيجيّة دفاعيّة بحتة إزاء إسرائيل، ولم تفكّر في يوم من الأيّام أنْ تعدّ لعمليّات هجوميّة واسعة”

ومع ذلك تم الدفع بهذه القوات لتلقى حتفها وفي صباح ٥ يونيو/حزيران، يوم بدء القتال، عنونت صحيفة «الأخبار»: «بعد انضمام العراق إلى اتّفاق الدّفاع المشترك مع الأردن عبد النّاصر يعلن للعالم والأمّة العربيّة: 《 إنّنا ننتظر المعركة على أحرّ من الجمر》

وكان أكبر استعداد لهذه المعركة المرتقبة قد تجلى في يوم 1  يونيو حيث صدحت أمّ كلثوم بأغنية «راجعين بقوّة السلاح» في سينما قصر النّيل..

 ثم ما تقرر يوم أول يونيو 1967 من إقامة حفل غنائي في أكبر قاعدة جوية مصرية بأنشاص تحييها الفرقة الذهبية بقيادة الموسيقار صلاح عرام.. ثم فجأة وبدون إبداء الأسباب تغير موعد الحفل إلى يوم 4 يونيو أي ليلة النكسة. سهر الطيارون والضباط والجنود في الحفل حتي السادسة صباح يوم 5 يونيو، وشارك في الحفل محمد رشدي وفايدة كامل وماهر العطار وشهرزاد وقدمت الراقصة زينات علوي فقرة جعلت الضباط والجنود فى حالة معنوية يهزمون بها أعتى الجيوش!

وبعد دقائق من انتهاء الحفل ورحيل الراقصة والفنانين إلى القاهرة، كانت الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق قاعدة أنشاص الجوية وتدك القاعدة بالقنابل الثقيلة والصواريخ حتى سوتها بالأرض!

 ولقد كانت البداية في تمام الساعة 8 و45 من صباح ذلك اليوم حيث ضرب الطّيران الإسرائيلي عدداً من المطارات، وكان من نتائج الغارات الإسرائيليّة المتتالية أن دُمر 85 في المئة من سلاح الجوّ المصري، وأصبح 100 ألف جندي في سيناء بلا غطاء جوّي.

وما هي إلّا 36 ساعة حتّى أصدر نائب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة قرار الانسحاب المشؤوم. وطوال يوم ٧ أخذ سكّان القاهرة يشاهدون فلول الجيش زاحفين عليها في البداية ثمّ على شوارع وميادين العاصمة، الشوارع والميادين نفسها التي استعرضوا فيها قوّتهم منذ أيام قليلة خلَتْ. وعلى الرّغم من ذلك، كان المصريّون يسمعون عبد الحليم حافظ يغنّي «يا أهلاً بالمعارك»، وأحمد سعيد في صوت العرب يبشّرهم بأنّ طلائع الجيش على أبواب تلّ أبيب. وقد بشّرت صحيفة «المساء» المصريّين بأنّ النّصر أمسى قاب قوسين أو أدنى.

الجيش الزاحف

وبحلول يوم 8 يونيو كان قد سقط من الجيش العربيّ الزّاحف نحو تلّ أبيب عشرة آلاف جنديّ، أي عُشر عدد جنوده الذين حشدوا للجبهة، و1500 ضابط. كما وقع في الأسر خمسة آلاف جنديّ و500 ضابط (بناءً على ما جاء في خطاب عبد النّاصر الذي ألقاه يوم 23  نوفمبر/تشرين الثاني 1967).

وبالإضافة إلى تدمير سلاح الطّيران، فقد ترك الجنود وراءهم ٨٥ في المئة من عتاد الجيش، من دبّابات ومدرّعات ومدافع. وأمسى الطّريق للقاهرة مفتوحاً، والبلد بلا جيش يحميه.

كانت الدولة البوليسية التي تحصى على الناس أنفاسهم، وكان البوليس السياسي يلاحق من يخطر على باله في منامه أن يفكر في الاعتراض على شيء وكانت نفس القصة قصة الإخوان وقضية سنة 65 واعدامات سنة 1966

أما المخابرات الحربية فبدلاً من جمع المعلومات عن العدوّ أصبح «موضوع الأمن هو الموضوع الأوّل الذي يشغل بال المشير عامر والوزير شمس بدران، وزير الحربية

ووصل الأمر إلى أن شكّل عبد الحكيم عامر تنظيماً داخل الجيش، اسمه الكودي «التنظيم (س)»، بغرض مراقبة ضبّاط القوّات المسلّحة في الوحدات والتشكيلات، والتعرّف إلى آرائهم ونيّاتهم ونشاطهم من خلال تجنيد عدد من الضبّاط الموثوق بولائهم لضمان أمن القوّات المسلّحة، أو في الحقيقة أمنهم الشخصي.

وقل ما شئت عن فساد الضباط ومطاردة الفنانات والراقصات والعربدة والسكر وكل أشكال الانحراف، ويبدو أن تلك كانت هي أمجادهم التي كانت تتغنى بها إذاعة صوت العرب: (أمجاد يا عرب أمجاد.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه