الحوار الاستراتيجي ومراحل تطويع الحالة العراقية

لا يخرج الوضع في العراق عن دائرة وصفه بأنه مرحلة من مراحل تطويع الحالة العراقية لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية في العراق بقصد الاندفاع الى مراحل أخرى متقدمة يكون العراق فيها جزءا وقاعدة انطلاق أوسع للمشروع الأمريكي الاستراتيجي العالمي.

تبدو الولايات المتحدة الأميركية عازمة بكل جهدها على استغلال الظروف العالمية الكبرى، التي يبدو أنها حاضرة فيها صانعا أو شريكا أو موجها. وهذا من طبيعة قوة المرونة والقيادة والسيطرة الناتجة من القوة الاستراتيجية والاقتصادية التي تمتلكها. برغم بروز منافسيها أكثر في هذه المرحلة ممثلين بالجانب الصيني والجانب الروسي.

في المعادلات الحاكمة لسير الأحداث في العراق منذ احتلاله عام 2003. هو موضوع تداول المشاهد التي لا تكاد تختلف عن بعضها إلا من حيث المسميات مع بعض الإضافات التي تتطلبها كل مرحلة عن طريق إعادة صياغتها وتأهيلها من جديد.

من المرحلة التأسيسية للوجود الأمريكي في العراق حتى عام 2008. كان حديث المقاومة العراقية السنية بحسب مسميات الجانب الأمريكي. مختلطة بالعامل الموازي وهو تنظيم القاعدة بحسب الحالة الأمريكية أيضا، التي يبدو أنها بحاجة الى خلق العدو الموازي لخلق حالة الخلط الذهني للرأي العام. وهذه من أعقد السياسات التي لا تستطيع إدارةَ توازناتها إلا الدول العظمى. يوازي ذلك في المرحلة نفسها أي ما بين 2003-2008 وجود حكومة عراقية ضعيفة غير قادرة على تفسير وجودها خارج كونها أداة لشرعنه وجود الاحتلال الأمريكي لتثبت سياساته على قاعدة المواجهة المشتركة بين القوات الأمريكية والحكومة العراقية من جهة، وما دونهما يمثل الجهة الثانية تحت مصطلح جامع اختير له عنوان الإرهاب.

معاهدات الإذعان:

ووفق تلك الأجواء السابقة جاءت الاتفاقية الأمنية بين واشنطن وبغداد تلك الاتفاقية التي اعتبرت شكلا من أشكال معاهدات الإذعان غير المتكافئة التي حملت الكثير من عدم التوازن لصالح الولايات المتحدة الأمريكية من نواح عديدة منها، بقاء وبناء العديد من القواعد العسكرية الأمريكية وفورية التدخل العسكري الأمريكي بمواجهة أي تهديد للمصالح الأمريكية. ومنها ما هو متعلق بالرد على أي دولة تستغل أرض العراق لتنفيذ عمليات في المحيط الإقليمي والدولي.

مقابل ذلك أخذت الحكومة العراقية وصفا داخليا ودوليا آخر باعتبار اتساع مساحة استقلالها المعلن في إدارة شؤونها الأمنية والسياسية ومواجهة الملفات الإقليمية والعالمية باعتبار نظام دولة يتحمل واجباته والتزاماته الدولية.

هنا برز تحديان على المشهد العراقي: التحدي الأول هو التحدي الداخلي المتمثل بعودة الإرهاب تحت مسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي وجد الفرصة سانحة لتنفيذ مخططه في أرض العراق مستغلا فرصة ضعف وفساد المؤسسة الأمنية والعسكرية العراقية التي تشكلت تحت الإشراف الأمريكي ومن خلال تجميع ميليشياتي بدائي، بعضه ينتمي إلى احزاب حاكمة والبعض ينتمي الى أجندات إقليمية ودولية. بينما ظهر التحدي الخارجي بزيادة التدخل الإيراني في العراق على قاعدة ملء الفراغات المتعددة والمواطن الهشة سياسيا وميدانيا. وقد لعبت الأحزاب العراقية الحاكمة الدول الكبير في هذا التدخل باعتبار المرجعية الفكرية والتنظيمية تعود في كثير من مرجعياتها الى أيران التي تجد نفسها أمام طموح ربما جاء وقت استغلاله وتنفيذه مع فرصة تطويق السياسة الداخلية العراقية وعدم ترك فرصة مؤاتيه لعراق قوي كانت تعاني عبر عقود من هذا المنافس الإقليمي الصلب. إضافة الى الحاجة الاستراتيجية لإيران باستغلال الأراضي العراقية للوصول الى ما هو أبعد من ذلك على محور بغداد دمشق بيروت والبحر المتوسط.

العوامل الاقتصادية كان لها الحضور القوي جدا. إذ العراق الجهة التصريفية الأكثر ميزة لإيران المحاصرة بموجب قرارات أمريكية ودولية على خلفية الملف النووي الإيراني وعدم وضوح التعاطي والاتفاقات الثنائية والدولية. دوافع إيرانية كثيرة ربما أغرت الجانب متخذ القرار الإيراني في فترة انشغالات دولية وإقليمية بعدة ملفات مفتوحة على بعضها.

الحراك الإيراني:

الولايات المتحدة الأمريكية تبدو غير متجاهلة للتحرك الإيراني داخل العراق وحجم ما كان يلحق بالحالة العراقية سوءا باعتبار تحول العراق الى ساحة متاحة لصراع إيراني أمريكي وميدان لحرب لا تهدأ مع عدو معلن تحت مسمى الإرهاب الذي وجد العراق ساحة متاحة أيضا. وهذا ما أشرنا إليه في بداية المقال بأن معطيات وأدوات الصراع تكاد تتكرر بمسميات مختلفة مع بعض الإضافات وإعادة الإنتاج.

ومع تفجر حالة وضوح الصراع الأمريكي الإيراني حين أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي في مطار بغداد مع مطلع هذا العام. هنا أصبح الأمر واضحا والتحرك الأمريكي الجديد بانت ملامحه.

ومع جملة المعطيات الموجودة على الأرض في العراق من بروز التنظيمات المسلحة التابعة لإيران تحت مسمى المقاومة ضد الأمريكان التي تذكرت اليوم هذا الدور بعد سبعة عشر عاما من الاحتلال. ما يدل على حالة تغليف المقاصد بالمصطلحات التي يحرص الجميع على إعادة إنتاجها. 

وصولا الى ما نحن فيه نعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد مهدت اليوم لإجراء حوارها الاستراتيجي مع العراق فيما يخص الاقتصاد والأمن بعدما انتهت من تشكيل الحالة السياسية العراقية بعد مخاضات ثلاثة ولدت في أخرها حكومة مصطفى الكاظمي رجل المخابرات العراقية الذي دخل مكشوفا أمام الهيمنة الإيرانية والذي قضى شوطا من حياته في الولايات المتحدة الأمريكية. الأمر الذي يراه الكثيرون غير كاف لمواجهة الحالة الإيرانية وتوغلها في القرار الحكومي العراقي عن طريق الأحزاب العراقية الموالية لها.

أمر يدفع مرة أخرى الى البحث عن فكرة ماذا سيأتي به هذا الحوار الاستراتيجي المرتقب وما بجعبة الطرف العراقي لكي يقدمه لأمريكا أو بما سيلتزم به من تعهدات أمنية واقتصادية خصوصا وان الحالة الاقتصادية العراقية تشكو من الضعف الذي وصل الى العجز عن تسديد رواتب موظفي الدولة، بسبب اختلال سوق النفط العالمي وحالة الفساد المستشري في أجهزة الدولة ووجود البعض من المال العراقي في البنك الفيدرالي الأمريكي بما سمي بقانون حماية الأموال العراقية بوجه الدائنين. وما هو الخيار العراقي أمام أدوات الضغط الإيراني الذي ما زال يمتلك أطرافا مسلحة متعددة الأسماء ومتباينة القوة وقد ظهرت آثارها بمواجهة الشارع العراقي المنتفض نفسه.

 مجموعة معطيات وتحديات تواجه الأطراف الثلاثة في معادلة الحسم على الأرض العراقية. وكل طرف حتما يعرف قوة المقابل. وما له وما عليه.

وإلى حين انعقاد الحوار الاستراتيجي. نعتقد أن الولايات المتحدة لن تغادر العراق وهذا ما أوضحه أحد كبار مستشاري الرئيس الأمريكي حول توقعات ما سوف يطرح في جلسة الحوار. بأن أمريكا لا تنوي مغادرة العراق أبد وإذا طلب الجانب العراقي ذلك، فعليه أن يواجه اقتصاده وحدة وليس هناك أي مساعدة أمريكية.

نعتقد أن ملفات حمراء كثيرة ستكون على طاولة ذلك الحوار الاستراتيجي المرتقب هذا الشهر. قد لا يستطيع الطرف الضعيف حملها وحسمها. فظروف الإذعان عام 2008 لم تغادر الحالة العراقية وإن اختلفت المسميات.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه