الصعود التركي الإقليمي.. الأزمة الليبية نموذجا

 

في نوفمبر عام ٢٠١٨ انعقد في مدينة باليرمو الإيطالية اجتماع  استغرق يومين حول الأزمة الليبية ضم أطراف الصراع خليفة حفتر وعقيلة صالح من جهة، وفائز السراج وخالد المشري من جهة أخرى إضافة إلى دول أخرى كروسيا وفرنسا ومصر والجزائر وتونس وقطر والبعثة الأممية برئاسة غسان سلامة ..إلخ.

 الاجتماع كان يمثل في حقيقته حلقة من حلقات الصراع الإيطالي الفرنسي حول نهب الثروة الليبية، ورغم فشل الاجتماع في الخروج بنتائج ملموسة، إلا أن الحدث البارز حينه هو انسحاب الوفد التركي من المؤتمر بسبب المعاملة غير اللائقة التي تلقاها خلال الاجتماعات، وتعمد تهميشه مما دفع نائب الرئيس التركي، فؤاد أوقطاي،-الذي كان يترأس وفد بلاده- إلى إعلان انسحاب الوفد.

وبعد أقل من عامين من واقعة الانسحاب في باليرمو، وبينما كانت أطراف إقليمية ودولية تتأهب لدخول قوات حفتر العاصمة طرابلس بعد إحكامه السيطرة عليها، تفاجأ الجميع بتركيا تقتحم الساحة الليبية بقوة عبر تحركات استراتيجية من العيار الثقيل. لتجبر الجميع على اللجوء إليها أملا في هدنة ووقف لإطلاق النار لطالما رفضهما حفتر وتعامل معهما باستعلاء في موسكو وبرلين وغيرهما.

إدارة أنقرة للأزمة لا يمكن فصلها عن الصعود التركي الإقليمي الذي بدأت إرهاصاته منذ فترة، كما أن تنامي هذا الصعود مرتبط بنجاح تركيا في تحقيق كامل الأهداف في ليبيا.

كيف تحقق الصعود التركي؟

تنبأت مراكز التفكير الغربية بالصعود التركي منذ وقت مبكر، فصموئيل هنتغنتون في دراسته المهمة عن صدام الحضارات أشار إلى إمكانية صعود تركيا لكن بمعالجة “تمزق الهوية” الذي تعاني بفعل الهوية المفروضة، والهوية الفعلية الموجودة في وعي معظم الأتراك. الأمر الذي شغل المجتمع لفترة ليست بالقصيرة بقضايا جانبية استهلكت كثيرا من الجهد والوقت

وفي دراسته المهمة “مائة العام القادمة” الصادرة عام ٢٠٠٨ أشار جورج فريدمان إلى وجود ثلاث قوى تتنازع صدارة العالم الإسلامي وهي تركيا ومصر والسعودية، مرجحا تتصدر أنقرة نظرا لقوتها الاقتصادية.

لذا فالصعود الإقليمي التركي لم يكن وليد اللحظة، أو فجائيا، بل هو هدف عمل عليه أردوغان مع حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه الحكم عام ٢٠٠٢ عبر آليات وخطط متعددة داخليا وخارجيا.

ترتيب البيت التركي من الداخل:

كانت الفوضى تضرب أطناب الدولة التركية عندما تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم فالاقتصاد منهار والتضخم وصل إلى نسب قياسية، والبنية التحية بكل مفرداتها من مياه وكهرباء وطرق ومواصلات متهالكة، وقطاعات الصحة والتعليم خارج الخدمة. فكان لابد من إصلاح كل تلك الفوضى للوصول بتركيا إلى وضعها الحالي، حيث تمكنت من مواجهة العديد من الأزمات وأظهرت صلابة ملحوظة، وآخرها أزمة كورونا التي أثبتت امتلاك تركيا منظومة صحية تضاهي بها مثيلاتها في أوربا إن لم تتفوق عليها.

لكن مواجهة تحديات الخارج كانت تقتضي ما هو أكثر من الخدمات التي هي موجهة إلى المواطن التركي، إذ كان لابد من إعادة تنظيم الدولة عبر تطهيرها من التنظيمات السرية والإرهابية، وإصلاح التشوهات التي خلفها النظام البرلماني والتي مكنت الطبقة العسكرية من تنفيذ عدة انقلابات عسكرية فيما مضى.

فكان فشل محاولة الانقلاب العسكري في ١٥ يوليو ٢٠١٦ فرصة مواتية للتخلص من تنظيم غولن المتغلغل في مفاصل الدولة الإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية والإعلامية.

ثم كانت التغيير الأهم -والذي يعد واحدا من أهم منجزات أردوغان – هو التحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي في مغامرة خاضها أردوغان بجرأة يحسد عليها ونجح في تمرير المشروع عبر استفتاء شعبي.

ذلك التحول الذي عالجه الإعلام العربي بخفته المعهودة، واستغله لترويج فكرة “السلطوية” التي يسعى أردوغان إلى تعزيزها!! لكن الدوائر الغربية كانت تقرأ المشهد وتدرك الآثار المهمة التي سيخلفها النظام الرئاسي على إعادة ترتيب الدولة التركية، فالمؤسسة العسكرية على سبيل المثال في النظام البرلماني كانت مستقلة تماما تحت رئاسة هيئة الأركان، لكن في النظام الرئاسي صارت تابعة لوزارة الدفاع التي تتبع رئيس الجمهورية مباشرة.

كما أن تغييرا آخر مهما ربما لم يلتفت إليه كثيرون، وهو التغيير المتعلق بالبنية الجيوثقافية لمواجهة تمزق الهوية الذي أشرنا إليه من قبل، وذلك عبر إعادة تموضع الإسلام كمعرف أصيل للهوية التركية عبر سلسلة من الإجراءات كان يهدف من ورائها إلى مواجهة التغول العلماني وإحداث حالة من التوازن داخل المجتمع، وإعادة الاعتبار للتاريخ والتراث، الأمر الذي تبناه الخطاب الأردوغاني بقوة خاصة في الفترة من بعد ٢٠١١.

الخروج من الحبس داخل الأناضول:

ظلت السياسة الخارجية لتركيا متأثرة بالمبدأ الذي وضعه مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك “سلام في الداخل سلام في الخارج” لكن صانع القرار في أنقرة أدرك أن سلام الداخل لن يتحقق إلا بمواجهة الأخطار في الخارج، والقضاء على التشوهات الجيواستراتيجية التي صاحبت تأسيس الجمهورية وقادت إلى خطر تقسيم الدولة نفسها.

كان من المستحيل أن تلعب تركيا دورا إقليما مؤثرا دون أن تخرج من الأناضول للقضاء على المؤامرات والتحديات التي تهدد أمنها القومي وتؤثر على استمرارها كدولة موحدة ومستقرة وذلك عبر العسكرية والدبلوماسية.

ففي الوقت الذي توقع فيه كثيرون انكماش الدولة التركية على نفسها عقب فشل محاولة الانقلاب، إذ بها تفاجئ الجميع بإطلاق عملية عسكرية في أغسطس ٢٠١٦ ضد تنظيم داعش في مدينة الباب، ثم توالت عملياتها العسكرية في شمال سوريا لإفشال المحاولات الأمريكية المدعومة من الإمارات والسعودية لتأسيس كيان انفصالي على حدود تركيا بواسطة تنظيم PKK الإرهابي كمقدمة لقضم الجنوب الشرقي التركي في وقت لاحق، كما كان مخططا أن يؤدي ذلك الكيان دورا جيواستراتيجيا خطيرا ويتمثل في  فصل تركيا عن عمقها العربي السني عبر دولة تمتد من البحر المتوسط غربا إلى الحدود الإيرانية شرقا مقتطعا أراضي من سوريا والعراق إضافة إلى تركيا بطبيعة الحال، والمفارقة أن الإمارات والسعودية أنفقتا أموالا طائلة لتمويل التنظيم وفروعه في سوريا في وقت كان خطابهما الرسمي يؤكد على وحدة الأراضي السورية والعراقية!!

العمليات العسكرية التركية لمواجهة أخطار التقسيم امتدت إلى شمال العراق وأهمها عسكريا واستراتيجيا هي تلك التي أطلقتها أنقرة منذ أيام في ذروة انشغالها بالأزمة الليبية، حيث لم تقتصر على القصف الجوي المتبع عادة بل تجاوزته إلى الاقتحام البري بواسطة القوات الخاصة وتمشيط القرى التي يستخدمها التنظيم الإرهابي كملاذ لعناصره، ونفذ الطيران التركي عملية نوعية في مدينة السليمانية على بعد أكثر من ٣٠٠ كم من الحدود التركية العراقية استهدفت تجمعا لقادة من التنظيم.

توظيف القوة العسكرية في عملية الصعود الإقليمي لم تتوقف عند العمليات بل تعدتها إلى نشر قواعد عسكرية في مناطق الصراع الاستراتيجية في الخليج ومنطقة القرن الأفريقي.

كما لعبت الدبلوماسية هي الأخرى دورا حيويا بتعزيز الوجود التركي في مناطق التماس والتأثير في البلقان وشرق أوربا والاتحاد الأوربي والقوقاز والبحر الأسود وأفريقيا ومحاولة مد جسور التعاون مع الدول العربية غير الخاضعة للهيمنة السعودية الإماراتية خاصة في منطقة المغرب العربي

ومن هنا كان لابد وأن يؤثر هذا الصعود في الاستراتيجية التي اتبعتها تركيا لمعالجة الأزمة الليبية ومدى انغماسها أو ابتعادها عنها.

ليبيا في الفكر الاستراتيجي التركي

البحر الأبيض المتوسط واحد من أهم بحار العالم إن لم يكن أهمها على الإطلاق إذ ظهرت على ضفتيه الحضارات الإنسانية الكبرى اليونانية والرومانية والإسلامية، ويعد نقطة التقاء بين أوربا وأفريقيا وبين أوربا وآسيا، لذا عمدت الدولة العثمانية إلى بسط سيطرتها على معظم أجزائه حتى صار بحرا عثمانيا مغلقا، ومن هنا عمد الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى إلى حرمان الجمهورية التركية وريثة العثمانيين من الحدود البحرية الطبيعية وحصرها في مساحة بحرية ضيقة تكفي بالكاد للسياحة!!

لكن التخطيط الاستراتيجي التركي عمد إلى الإفلات من ذلك الحصار خاصة مع ظهور ثروات شرق المتوسط، والتي جرى تقسيمها على مدار أربع سنوات تقريبا بين مصر واليونان وقبرص الجنوبية وإسرائيل دون الالتفات إلى تركيا وقبرص الشمالية “التركية”، حيث ظلت أنقرة تراقب الموقف من بعيد ريثما تعيد ترتيب قوتها البحرية وتدعيمها لمواجهة تلك الفوضى.

ومن هنا كان اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق في طرابلس لفسح المجال أمام استفادة تركيا من البحر المتوسط، والحصول على حق التنقيب عن الغاز والنفط.

لكن تنفيذ الاتفاق كان يتطلب القضاء على المخاطر التي تهدد حكومة الوفاق وإنهاء مغامرة حفتر وداعميه، وليس فقط منعه من السيطرة على العاصمة طرابلس، فكانت اتفاقية التعاون الأمني والعسكري بين أنقرة وطرابلس.

الأهداف التركية في ليبيا:

يمكننا حصر الأهداف التركية في ليبيا في الآتي:

  • تدعيم سلطة ونفوذ حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج.
  • القضاء على أي تهديد يمكن أن تمثله قوات حفتر عبر دفعها في المرحلة الأولى تجاه الشرق تمهيدا لإخراجها نهائيا من معادلة القوة.
  • مواجهة الرياض وأبو ظبي ومعهما القاهرة في إطار مواجهة أشمل تخوضها العواصم الثلاث ضد أنقرة التي نجحت في مواجهتهم في أزمة الحصار على قطر وفي شمال سوريا والعراق بضرب تنظيم PKK الإرهابي، لكنهم كانوا أسرع منها في الإطاحة بنظام البشير في السودان الذي كان يتأهب لشراكات إستراتيجية مع تركيا كانت ستعزز مكانة الأخيرة في البحر الأحمر.
  • مواجهة التمدد الروسي في المنطقة والذي يأتي ضمن إطار أوسع لا يمكن فصله عما يحدث في سوريا، أخذا في الاعتبار عدم رغبة تركيا في تحويل الصراع إلى مواجهة شاملة مع الروس إذ يجمع البلدين مصالح اقتصادية واسعة عبر مشاريع الغاز والتسليح والسياحة، لذا فالطرفان حريصان على سياسة الباب المفتوح مهما بلغت حدة الخلافات بينهما.
  • الدفاع عن حق تركيا في التنقيب عن الغاز والنفط واقتسام ثروات شرق المتوسط وهذه واحدة من أهم الأهداف التي تسعى أنقرة إلى تحقيقها، إذ تمثل فاتورة الطاقة عبئا كبيرا على الميزانية وتؤدي إلى خلل دائم في الميزان التجاري

قرأت تركيا منذ وقت مبكر وبعناية فائقة التغيرات الإقليمية والدولية، فالولايات المتحدة تنسحب من المنطقة، والاتحاد الأوربي يعاني تصدعات كبيرة عقب خروج بريطانيا منه، وأزماته الداخلية قد تتفاقم إذا ما قررت دول أخرى اقتفاء أثر بريطانيا ومغادرة التكتل، وروسيا تعاني من أزمات اقتصادية قد تؤثر مستقبلا على بقائها في المنطقة، كما تحاول تركيا استغلال ورقة حلف الناتو للحد من التغول الروسي من ناحية، وتعزيز العلاقات الثنائية على المستوى الاقتصادي من ناحية أخرى.

أما النظام العربي فيعاني موتا سريريا منذ عام ٢٠١١، ودخل مرحلة الفوضى الشاملة، وانهار تماسك العديد من وحداته السياسية كما في اليمن والعراق وسوريا إضافة إلى الأزمات الضخمة التي تعاني منها مصر.

وفي حلف الناتو تطرح تركيا نفسها كثاني أكبر قوة برية داخله، ومع عودة الروس للمنطقة تسترد أنقرة مكانتها الاستراتيجية داخل الحلف التي تمتعت بها خلال الحرب الباردة كخط دفاع عن الحلف في طرفه الجنوبي، وهي المكانة التي فقدت أهميتها مع انتهاء الحرب الباردة والاتجاه، ومع ظهور الانتقادات الفرنسية العنيفة لدور الحلف واتهامه على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالموت السريري، تصدت له تركيا وهاجمته بشدة.

لحظة تاريخية تراها تركيا مواتية وتحاول الإمساك بتلابيبها لمواصلة الصعود عبر البوابة الليبية ذات التاريخ والثقافة المشتركة فهل تنجح أنقرة؟

دعونا نتابع.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه