الوباء الصامت

 

غالباً ما يصاحب الأوبئة ضجيج يملأ كوكب الأرض، ضجيج إعلامي في الدرجة الأولى يوجه الناس جهة الهلع والخوف وأخذ الحيطة والحذر ويمكّن الحكومات من تمرير أجنداتها المؤجلة بهدوء وصمت.

الوباء الحقيقي ليس ذلك الذي يفتك بالجسد بل الذي يفتك بالعقول. والذي يساعده الوباء الطارئ على تحقيق أهدافه بيسر وسهولة

كورونا آخر الأوبئة، قلب موازين القوى على وجه الكرة الأرضية وفرض الحصار على البشر وأخرج الأوبئة النتنة من دواخلهم. وأقصد هنا أصحاب رؤوس الأموال الذين يمكن اعتبارهم أوبئة متنقلة على شكل بشر باستثناءات بسيطة ظهرت في مدن أوربية تحديدا تبرّع أصحابها بالملايين لمساعدة حكوماتهم على مواجهة خطر الوباء العادي! ومنهم المافيا الإيطالية التي خطف منها أصحاب رؤوس الأموال العرب اللقب وتوجوا به أنفسهم والواقع أنّ الوباء يخجل من اتهامه بالتشبه بهؤلاء.

الوباء الصامت 

في خضم مواجهة الحكومات لوباء كورونا وضعت في حسابها القضاء على فئة من البشر وهم كبار السّن الذين يعانون من وباء أخطر من كورونا وهو وباء الوحدة.

هل جرّب أحدكم مرض الوحدة؟ في الدول الكبرى لا يكتفي هذا المرض بإصابة كبار السن بل يتعداهم أحيانا ليصيب فئات عمرية متفاوتة. وقد كثرت أخبار الوفيات بأمراض غريبة بين النازحين السوريين على وجه الخصوص من فئة الشباب قبل جائحة كورونا بزمن قصير.

البعض يضع اللوم على السوشيال ميديا، فهي رائعة تمنح الناس الشهرة والتفاعل مع الآخرين والمعرفة، لكن عندما تغلق هذا الجهاز الذكي تكتشف أنك وحيد لا يوجد حولك أحد، لا يمكن للبشر أن يستعيضوا عن التواصل المادي وكيمياء الجسد بما هو روحي فقط. البشر يملكون أجهزة بيولوجية تحتاج الحب والملامسة كما تحتاج الطّعام وهذا مالا تستطيع مواقع التّواصل والشّهرة والصّداقات الافتراضية توفيره بالمطلق.

كثيرون من فئة الشّباب يرون أنّ الفيس بوك تحديداً يزيد أمر الوحدة سوءاً ويكرِّسها بشكل بشع حين يرى أحدهم صور أصدقائه السّعداء وحين يرى الجائع صور الطّعام على موائد الآخرين من أصدقائه، وحين يرى المحروم الحريّة التي يتمتع بها الآخرون.  ما يوجد بين أيديهم هو يفتقده بشدة.

هناك شيء خفي لا ننتبه له وهو محاولة الجميع الظهور على الفيس بوك بأفضل صورة وأنهم يعيشون حياة مثالية، قلائل من يعترفون بأنّهم يعيشون وحيدين ومهزومين ومكتئبين.. هذه الفئة لا تجد تفاعلاً على الفيس بوك ولا أحد يمرُّ على منشوراتها ليترك إعجاباً والاعجاب هو أحد الأهداف لأيّ منشور!

الصّحبة

كثيرا ما يتضايق الزّوج أو الزّوجة من الشّريك وقد يصلان مرحلة الشّجار والاختلاف والخصام وقد يفكران بالانفصال لكن حين يموت أحدهما يدرك الآخر أهمية وجوده في حياته.  خاصة الزّوجات اللواتي لا يعملن خارج البيت أو اللواتي يعملن لكنهنّ لا يعرفن شيئاً عن سير حياتهن،

لا يقدن السّيارة، لا يحملن البطاقة البنكية، لا يدفعن الفواتير، لا يصلحن الأشياء التي يخرّبها الزّمن وسوء الاستعمال في المنزل، ولا يقمن بالتّسوق أيضاً! بعض السّيدات يرين أنّ هذه الأشياء خاصة بالرّجل وأنّه يمارس بها نوعاً من الحماية لهن، ولا يدركن أنّ الزمن قد يأتي بالأسوأ حين يفرقهما الموت!

“لم يسبق لنا أن فعلنا شيئاً منفصلين كنّا دائماً معا” هذا ما قالته لي امرأة عجوز توقفت حياتها بالمطلق بعد وفاة زوجها ووجدت نفسها مضطرة للجوء إلى دار العجزة، الدار التي تؤمن لها الحماية وتقوم بالنيابة عنها بكلّ المهام التي تحتاج لمواجهة العالم الخارجي المهام التي كان يقوم بها زوجها!

أصعب ما في مرض الوحدة الاستسلام له وعدم عمل شيء تجاهه، يتفتق ذهن كبار السّن عن أشياء يحافظون فيها على استمرارية الحياة وهو إيجاد هدف لحياتهم، عدم وجود هدف يُعجِّل قدوم الموت.

هل هناك علاقة بين وباء الشّعور بالوحدة وتدهور الصّحة العقلية؟

الوحدة تؤدي للاكتئاب والاكتئاب يجعل المرء معزولاً عن مجتمعه..

هناك دراسة حديثة ربطت بين الشّعور بالوحدة والصّحة العقلية، وأنّها قد تؤدي إلى الإدمان، وطرحت الدّراسة حلاً قد يكون مستحيلاً لبعض كبار السّن ممن يعانون من أمراض تحد من حركتهم ألا وهي الرّياضة!

الرّياضة مهمة جداً للحفاظ على الصّحة العقلية

إذا كان المرء يعاني الاكتئاب فكلاهما سيغذي الآخر، عندما تشعر بالحزن لا ترغب في الخروج أو فعل أيّ شيء، تبقى في المنزل ليتغذى عليك الشّعور بالوحدة وهو ما يجعلك أكثر حزناً وأقلّ رغبة في الخروج ويترسخ لديك الشّعور بالوحدة أكثر يأكلك على مهل وبمتعة.

الخيارات محدودة جداً أمام الكبار المتروكين من الأبناء لمواجهة العالم بمفردهم. فهل كانت الجائحة الموازية “جائحة الكورونا هي الحل”

يبدو للمتأمل فيما جرى للبشر خلال الأشهر الأربعة الماضية والتي توازي دهراً بالنّسبة لمن وقع تحت الحجرين “الصّحي والوحدة” أنّ كورونا رسول شيطاني قلب موازين الحياة رأساً على عقب كما زاد من عزلة الكبار وترك الوباء الصّامت يقضي عليهم بوحشية كحل وحيد لا بديل له.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه