الهروب إلى الغرب!

لا ينكر أي وطني غيور على مصالح وطنه أهمية الأمن القومي والدفاع عن حدوده، ولكن يبدو أن القوم عندنا يفكرون بطريقة أخرى لا نعلمها ويجهلها الخبراء السياسيون أيضا، حيث وجدنا أن الأمن القومي تقلص في جميع الجبهات والجهات والحدود المصرية، ويريد أن يتمدد فقط ناحية الغرب على الحدود الليبية. وتناسوا أن خطرالسد الأثيوبي لا يدانيه خطر، وهو خطر وجودي وقاتل وكارثي وتأثيره ممتد لأجيال قادمة، وكل ما عاداه يمكن إدراكه والتعامل معه وحله بالسياسة والحوار والتفاوض، والتواصل مع العالم.

فقد بات التعنت الأثيوبي واضحا وصريحا، وجميع المفاوضات واللقاءات فشلت في وقف هذا التعنت، ربما السبب الأكبر هو عدم الوقوف ضد بناء السد منذ البداية حتى يتم وضع قواعد ملزمة للطرف الأثيوبي في البناء وفترة الملء والتفاهم حول حصتنا التاريخية من المياه..

الاتفاقية الكارثية

 ولكن التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ في عام 2015 أضعف موقف مصر التفاوضي، وجعل الجانب الأثيوبي يستمر في البناء، وأخذ الضوء الأخضر دوليا في جلب استثمارات لبناء السد بعد هذه الاتفاقية التى بدأت بمصافحات ورفع الأيدي بعلامة النصر، وانتهت بطلب القسم من رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد بعدم الإضرار بحصة مصر، وعدم منع المياه عنها، في واقعة عبثية لم يشهدها تاريخ العلاقات الدولية.

والغريب أن أثيوبيا اعتبرت لجوء مصر لمجلس الأمن هروبا من التفاوض، وقالت في تبجح على لسان وزير خارجيتها لن تمنعنا أي قوة داخلية أو خارجية من إنجاز سد النهضة، وردت الخارجية المصرية كعاتها أن ‏مصر شاركت في المفاوضات بحسن نية على مدى السنوات الماضية، ووجهت تحد لأثيوبيا لاستئناف المفاوضات فورا، لو أعلنت ‏التزامها بعدم الملء الأُحادي للسد، ولكن هل ستنجح هذه التحركات التى جاءت متأخرة بعد أن أصبح السد واقعا حقيقيا؟!

الخيار العسكري

لا أحد يريد الحرب ولا يتمناها، فهي آخر الطرق التي تلجأ لها الدول لحل مشاكلها، ولكن الحقيقة تاريخيا هناك خلافات بين مصر وأثيوبيا بسبب نهر النيل، وحدثت حروب كثيرة بينهما عبر التاريخ منذ الفراعنة وحتى القرن التاسع عشر.

ومع وصول المفاوضات إلى طريق مسدود هل يكون الخيار العسكري مطروحا؟ حيث يقول العديد من المراقبين إن الحرب ‏العالمية القادمة ستكون على المياه، وقد حاربت مصر الأثيوبيين مرتين بسبب منابع النيل، وكان الفوز للأسف حليف الجانب الأثيوبي بسبب القيادة الأجنبية الفاشلة للجيش المصري، التي استعان بها الخديوي إسماعيل.‏

ففى النصف الثاني من ‏القرن التاسع عشر اتجه الخديوي إسماعيل لإقامة إمبراطورية مصرية كبرى في إفريقيا تسيطر على القرن ‏الأفريقي، ومنابع النيل، لذلك عمل على إقامة جيش مصري كبير بقيادة ضباط أوربيين وأمريكيين من المنتمين ‏لولايات الجنوب، والذين غادروا بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية، وكان الصدام مع الأثيوبيين حتميا فكانت معركتا جوندت عام ،1875 والتي بدأت في ديسمبر/ كانون الأول عام 1874 ‏وانتهت بحلول 16 نوفمبر/ تشرين ثاني ‏1875 بهزيمة الجيش المصري، ولم ينج منهم سوى عدد قليل.‏

معركة جورا ‏

بعد هزيمة جوندت جرد الجيش المصري حملة أكبر قوامها 20 ألف جندي على أثيوبيا عام 1876 بقيادة محمد راتب ‏باشا والجنرال الأمريكي وليام لورينج، حيث تقدم المصريون إلى جورا وأقاموا حامية هناك، وفي 5 و 6 نوفمبر/ تشرين الثاني شن الجيش الأثيوبي، وكان قوامه 200 ألف مقاتل، هجوما على القوات المصرية، وكانت القوات الأثيوبية المهاجمة مسلحة بالبنادق ومدفع واحد، وكان راتب باشا يريد المبادرة بمهاجمة الأثيوبيين، غير أن الجنرال لورينج فضل التحصن في المعسكر الذي كان ‏محاطا بتلال اعتلتها القوات الأثيوبية، وفتحت نيرانها على من في المعسكر المصري.‏

وقد حاول أحد قادة الجيش المصري، وهو إسماعيل باشا كامل، إعادة تجميع الجيش دون جدوى، وفي 8 و9 مارس/ آذار هاجمت القوات الأثيوبية جورا، وفي 10 مارس/ آذار قاد رشيد باشا وعثمان بك نجيب هجوما ‏مضادا ضد الأثيوبيين الذين صدوه، وأنزلوا بالقوات المصرية خسائر فادحة، واستولوا على الكثير من المعدات، وكان سبب هزيمة الجيوش المصرية القيادات الأمريكية والأوربية الفاشلة الذين كانوا لا يعرفون طبيعة المنطقة وصعوبتها.

ولم تسكت مصر، بل إنها قامت أثناء الاحتلال البريطاني بابرام معاهدة تاريخية بشأن حق مصر التاريخي في مياه النيل، واحتفظت بحصة ثابتة من مياه النيل، والحقيقة أن مصر حاليا في ظل زيادة السكان واستصلاح الأراضي والمشاريع المختلفة تحتاج إلى ضعف هذه الحصة، ولكن التعنت الإثيوبي وفشل المفاوض المصري وعدم استخدام أوراق وضغوط في التفاوض جعل الجانب الإثيوبي يستمر في عناده، ولهذا فإن معركتنا الأساسية والمهمة والتي تعتبر مسألة حياة أو موت هي ضرورة إخضاع الجانب الإثيوبي لمطالبنا حتى ولو تم التلويح بالحرب، لأنها ستكون حربا مقدسة من أجل المياه والحياة.

الاتجاه الخطأ

ولكن للأسف طالعنا تصريحات قوية وتهديدا بالتدخل العسكري، ولكن في الناحية الخطأ وهي الغرب، ونسوا أن أزمتنا ومشكلتنا وحياة الأجيال القادمة تتعلق بالجنوب أكثر من معركة الغرب الذي تدفعنا إليها دول إقليمية هدفها تمزيق الدول العربية لصالح الصهاينة، وبكل الوسائل يسعون لحث مصر على الدخول في حرب داخل ليبيا، ووصل الأمر في عملية تسخين الشارع المصري أن أحمد المسماري، المتحدث باسم قوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، قال إن قوات ‏حكومة الوفاق تريد الوصول للأهرامات بمصر، وكتابة اسمها عليها.‏

من المسلم به أن الأمن القومي المصري على الحدود الليبية مهم جدا، ولا ينكره أحد، ولكنّ هناك حلولا لهذا الأمر من خلال مفاوضات وضغوط سياسية تستطيع مصر بها أن تصل إلى ما تريد، خاصة أن المجتمع الدولي يرفض استمرار المعارك في ليبيا، ويطالب بالتفاوض السلمي، وحذر من أي تصعيد للقتال، ولكن تبقى معركة المياه هي الحياة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه