وقائع الرحيل الغامض لـ”قدح الدم” مهندسة التطبيع والمرأة اللغز في السودان!

فما الذي جعل حياة هذه المرأة من الأهمية جداً لإسرائيل؟ بل كأن في موتها موت لمحاولات تطوير علاقة وليدة مع الخرطوم؟ لا يزال من يقف خلفها في بلاد النيلين لا يمتلك الشجاعة للمجاهرة بذل

 

ربما لا توجد امرأة سودانية في الآونة الأخيرة تحولت إلى لغُزٍ مُحيرٍ مثل السفيرة نجوى قدح الدم،التي ظهرت فجأة في الحيز العام واختفت أيضاً فجأة بملابسات مرض الكورونا، قبل أن يهرع الناس للتعرف عليها، بعد رحيلها المباغت أيام عيد الفطر. فنهضت إثر موتها حكايات مثيرة للجدل، واستفهامات حول دورها في تطبيع العلاقة بين السودان وإسرائيل، ومع ذلك فقد قُبرت معها بعض أسرارها، كما يبدو .

خيبة أمل نتنياهو

يوم الثلاثاء الماضي كانت هنالك طائرة إسرائيلية تُحَلق في الأجواء السودانية، بينما نجوى تحتضر في إحدى مستشفيات الخرطوم. المسار غير المعتاد للطائرة في ظل الإغلاق الكامل لفت الأنظار، ليتضح بعد ذلك أن الطائرة جاءت بفريق طبي متكامل لإنقاذ قدح الدم، ولكن دون فائدة، إذ عادت الطائرة بخيبة أمل مريرة، لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتجرع مرارتها .

 فما الذي جعل حياة هذه المرأة من الأهمية جداً لإسرائيل؟ بل كأن في موتها موت لمحاولات تطوير علاقة وليدة مع الخرطوم؟ لا يزال من يقف خلفها في بلاد النيلين لا يمتلك الشجاعة للمجاهرة بذلك، بإستثناء نجوى طبعاً وبعض الرجال الذين هزمتهم الشروخ !

شخصية مفتاحية

لكن نجوى التي تم اعدادها تقريباً للقيام بهذا المهمة الصعبة ضمن أخرين، كانت هى الأكثر ظهوراً في مسرح التطبيع المتهالك، ولعل أول اختراق قامت به، هو إنهاء القطيعة بين السودان وأوغندا بعد عداء طويل، على خلفية حرب جنوب السودان.

 وقتها نجحت المهندسة قدح الدم في طي الخلافات بين البشير وموسيفيني، واستدرجت الأخير حتى زار منزل أسرتها في مدينة أم درمان، بل كانت المفاجأة المدهشة أن نجوى متزوجة من رجل ألماني (أحمد نورمان) وحاصلة بالضرورة على الجنسية الألمانية، كما عملت في وكالة ناسا، وقرر موسيفيني بعد أن رأى فيها ما رأى أن يستبقيها مستشارة له، بعد ذلك عينها البشير سفيرة في الخارجية السودانية، ومستشارة له أيضاً، وتحولت إلى شخصية مفتاحية، تقوم بأدوار سياسية واجتماعية، أخرها المساهمة في اطلاق سراح أسرى سودانيين من صفوف الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو.

عوض عن ذلك تمتاز بقدرات مهولة في التواصل مع العالم الخارجي، وقد انفتحت على الطيف السياسي والاجتماعي السوداني أخيرا، إلى درجة أن نعيها شق على قوى سياسية يمينية ويسارية معاً، بشكل جعل الكثير من الأصوات والكتابات تتجاوز عن أدوارها الخفية، وحقيقتها الغامضة، وهى التي لم تكن تُعرف قبل سنوات قليلة، وباتت تعرف الأن بأنها مهندسة التطبيع، والشخصية المؤثرة والخطيرة التي يصعب تجاهلها في معترك السياسة الخارجية لعدة بلدان، منها إسرائيل وأوغندا والسودان.

من هى قدح الدم؟

في ذم ومديح قدح الدم كانت ثمة حلقة مفقودة، فهى وإن كانت امرأة عصية على العبور السهل أو الغياب، لا بد أنها ارادت أن تُظهر معدنها السوداني الأصيل، تسفر عن وجه طفولي مفعم بالحيوية، وثقافة أم درمانية خالصة، ومرونة في التعامل مع المختلفين معها، كما أن جدها “قدح الدم” انتزع هذه التسمية لبسالة عرف بها ضد الاستعمار البريطاني، حيث قاتل تحت لواء الثورة المهدية، حتى توشح جسده بالدم، وأطقلت عليه النسوة قديماً ذلك اللقب كناية عن فدائته، لكن ذلك لم يكبح ملاحقة الاتهامات لها، بأنها ليست كما تبدو إطلاقاً، وتتحرك بولاء مزدوج، يراعي مصالح دولة عنصرية ومحتلة ومعادية لحقوق الانسان، وهى إسرائيل التي تريد أن تنقض على السودان، وهو في ضعف يسهل انتياشه حالياً، بل إن إسرائيل، باتت تتحدث بلسان أمريكي، وتشترط التطبيع معها مقابل رفع السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، ولكن بحيلة قيامها بدور الوسيط فقط، مما جعل رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان يخضع للابتزاز الإسرائيلي، فطلب خدمات قدح الدم، التي تشير كل المعلومات إلى أنها صاحبة اليد الطولى في الجمع بين البرهان ونتنياهو بعنتيبي فبرايل/ شباط الماضي، وفتح جسر للتواصل بينهما.

إشهار الاختراق

أمس الأول لم يكتم نتنياهو مشاعره، وقد فجع في رحيل نجوى بصورة جعلته يطنب في مدحها، أو رثائها، حد أنه نعتها بالشجاعة والتفرد وبعد النظر والتقدير الصحيح لصلحة بلادها، وقال إنها “أوشكت على إحداث الاختراق الأصعب بالوصول إلى تطبيع كامل بين الخرطوم وتل أبيب” وهو بذلك ينفض بعض الغبار الذي علق بالرؤية لمن كان ينظر للراحلة في الماضي ببراءة، وإن كانت خسارة نتنياهو لا تعوض بعد رحيل من أفنت سنوات غير معلومة من عمرها، لمعالجة قضية خطيرة وشائكة ومختلف حولها، مثل التطبيع مع تل أبيب، كانت على الأقل سوف تمنح نتنياهو فرصة نادرة، وانجاز تاريخي يعينه على الفوز بالانتخابات الإسرائيلية، وهو ما جعله يتحسر على رحيلها .

من سيخلفها ؟

قبل نعي رئيس الوزراء الإسرائيلي غرقت الدوائر السودانية في جدل كبير حول قدح الدم، وما يكتنف سيرتها، وإذ ما كانت تعمل على ملفات سرية، وتحظى بدعم أيضاً في الداخل، ما يعني أن أحدا ما سيخلفها لا بد، ويفتل على جديلة التطبيع، لكنه بالضرورة لا يمتلك شجاعة لإشهار ذلك، فهى قد نجحت جزئياً، لكنها أخفقت في عدم تسريع الخطوات، وأخفقت أيضاً في تقديم نموذج رائع للتطبيع، حيث ينظر أهل السودان إلى إرتيريا التي طبعت باكراً مع إسرائيل، باعتبارها نموذجا غير مغرٍ، حيث لا زالت إرتريا في حصار وضيق سياسي ومشاكل أمنية واقتصادية، حتى أنها للمفارقة، تحصل على الخبز والفلافل من مدينة كسلا، في شرق السودان .

محاولة تسميم نجوى

ولعل أكثر ما يؤرق المظان ويفتح مغاليق جديدة لاستنكاه حقيقة نجوى، هو تعرضها لأكثر من محاولة إغتيال، كما رشح من معلومات، أخرها بالسُم في دولة مجاورة للسودان، فضلاً عن تقارير صحفية تحدثت عن موتها الغامض في السودان بغير الكورونا، فهى قد لزمت سرير المرض منذ منتصف رمضان دون أن يعلم أحد بذلك، أو تتمكن أسرتها من علاجها، ما يعني أن هنالك يد خبيرة ومدربة ظلت تطاردها، لإخماد أنفاسها ربما، أو على الأقل، هى اليد التي تحيط بما صُنعت له قدح الدم .

التهافت للخارج

وإن كانت نجوى نافحت عن مصالح بلادها، ووجدت نخبة سياسية مغرمة بالتهافت للخارج، فقد انطلى عليها ربما ذلك الحوار من مسلسل سبارتاكوس عن التحالف بين روما والقراصنة الصقليين ضد سبارتاكوس” السياسة مهنة عملية، إذا كان لدى المجرم ما تريده فعليك أن تتعامل معه” وهى قد تعاملت مع إسرائيل بغير حرج، ولم تحصل على ما تريده، حتى العلاج، والحماية الكافية!

فكيف سيقنع أنصار التطبيع بعد ذلك بأن إسرائيل سوف تسقي اللبن العسل من يجثو تحت ركبتها؟.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه