حل حزب البناء والتنمية.. وخطأ التحالف مع الإخوان

الجماعة الاسلامية

 

لم يكن قرار المحكمة الإدارية العليا في مصر بحل حزب البناء والتنمية مفاجئا لأحد، بل كان متوقعا بشدة في ظل موت الحياة السياسية منذ يوليو ٢٠١٣، وانسداد أفق العمل السياسي تماما بعد أن أحكمت السلطة قبضتها على جميع مسارات التعبير وأممت الحياة الحزبية لصالحها ولم يعد في الإمكان الإفلات من تلك القبضة الحديدية قيد أنملة.

المحكمة استندت في حيثيات الحل إلى مجموعة من التهم الجاهزة من عينة تمويل “الجماعات الإرهابية”، وكانت لجنة شؤون الأحزاب السياسية طلبت قبل حوالي ثلاث سنوات إحالة أوراق الحزب إلى الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية العليا لتحديد جلسة طبقا للقانون للنظر في طلب حل الحزب وتصفية أمواله وتحديد الجهة التي يؤول إليها، مستندة في ذلك لعدة أمور منها قيام حزب البناء والتنمية مؤخرا بانتخاب طارق الزمر رئيسا للحزب، رغم إدراجه ضمن قوائم الأفراد والكيانات “الإرهابية” المرتبطة بقطر، والتي تضم تسعة وخمسين فردا واثني عشر كيانا، علاوة على محاكمته في القضية المعروفة باسم “قضية التجمهر المسلح” لجماعة الإخوان بمنطقة رابعة العدوية!

ورغم أن د. طارق الزمر سارع إلى تقديم استقالته من الرئاسة، وقال في بيان الاستقالة الذي وجهه إلى أعضاء الحزب: “أتقدم إليكم باستقالتي من منصب رئاسة الحزب بعد شهر من انتخابي لرئاسة الحزب للمرة الثانية، بعد إدراجي في قائمة إرهاب جديدة لم يدرج اسمي بها إلا كيدًا ونكاية في دورنا الوطني، الذي لا يمكن بحال أن يصفه أحد بالإرهاب”.

إلا أن ذلك لم يحل دون مضي السلطات المصرية في إجراءات الحل والتي انتهت كما كان متوقعا لها.

لكن يبقى السؤال الأكثر أهمية ماذا بعد قرار الحل؟ وكيف ستواجه الجماعة الإسلامية هذا القرار ؟ خاصة وأن الحزب كان يمثل في مرحلة ما واجهة قانونية للتحرك والاجتماع والمشاركة “المحدودة” في المجال العام، وهل يمكن أن قرار الحل منطلقا لمراجعات واسعة داخل الجماعة؟

حل الجماعة الإسلامية!!

في عام ١٩٩٧ فاجأت الجماعة الإسلامية الرأي العام بإعلان مبادرة لمنع العنف من طرف واحد أطلقها قادتها من داخل محبسهم في سجن ليمان طرة بالقاهرة، ثم سارت الأمور في مسارها المعروف والذي أنتج واحدة من أهم المراجعات داخل الحركة الإسلامية إن لم تكن الوحيدة حتى الآن.

ورغم الجهد الذي بذلته الجماعة في ترشيد الأفكار ومواجهة سرديات العنف التي أنتجها العقل “القاعدي” أو “الداعشي” فيما بعد، إلا أن ذلك لم يشفع لاستمرار الجماعة على المستوى الرسمي فنظام مبارك كان قد اتخذ قراره النهائي بعد السماح بوجود الجماعة على الساحة مرة أخرى، وأن أقصى ما يمكن قبوله خروج أعضائها من السجن وإعادة دمجهم في الحياة مرة أخرى، وفرض عليهم تعتيما إعلاميا مكثفا فلم يكن مسموحا لأي منهم الظهور في وسائل الإعلام المرئية نهائيا.

وأذكر هنا ما حدث معي شخصيا عام ٢٠٠٦، فعقب الإعلان عن وفاة الروائي نجيب محفوظ اتصل بي معد برنامج ٤٨ ساعة على قناة المحور يطلب مني مداخلة هاتفية للتعليق على الحدث، فوافقته، ولم تزد المداخلة على ثلاث دقائق، إلا أنها كانت كفيلة بقلب الدنيا رأسا على عقب فتم استدعائي إلى مقر مباحث أمن الدولة في الإسماعيلية، ثم في مقر الإدارة العامة بمدينة نصر بالقاهرة، وتم تحذيري من عدم تكرار الظهور مرة أخرى بغض النظر عن محتوى ما سيقال حتى ولو كان مدحا في نظام مبارك!!

وبعد الانقلاب العسكري في ٢٠١٣ وضعت القاهرة الجماعة على لوائح الإرهاب، والمفارقة أن قرارا مماثلا لم يقدم عليه مبارك رغم سنوات الصدام المسلح بين الطرفين!!

ما يؤكد أن وجود “الجماعة” يمثل عبئا تاريخيا واضحا، وأظن أنه آن الأوان للتخلص من هذا العبء بإعلان حل الجماعة، خاصة وأنها مجمدة واقعيا منذ سنوات، أعلم أن هذا القرار لن يكون سهلا ولكني أراه يمثل ضرورة فهو سيفوت الفرصة على النظام المصري للتحرش بمنتسبي الجماعة الذين تجاوز متوسط أعمارهم الخمسين عاما ويعيشون بطبيعة الحال في مرحلة نهاية العمر، كما أنه والأهم سيعد بداية لتصحيح أوضاعا مغلوطة داخل الحركة الإسلامية، بتخليصها من أسر “التنظيماتية” الذي حولها من “تيار” عريض داخل المجتمع إلى مجرد “كانتونات” معزولة خلف أسوار مصنوعة سواء من الأفكار أو الشكليات.

وقد رأينا كيف فشلت الحركة الإسلامية في مأسسة الحالة “التنظيماتية” حتى في أجواء الحرية التي هبت عقب الإطاحة بمبارك في فبراير ٢٠١١، ما أدى إلى كوارث لا نزال نعاني منها حتى اللحظة، بل وسنعاني منها لسنوات قادمة، وكان من الطبيعي مع غياب “المأسسة” أن يغيب التطوير، وأن يتم ترويج الجمود على أنه نوع من “الثبات” على المبدأ

كما أن الحالة “الجماعتية” التي نشأت مع بداية القرن الماضي تحولت إلى “وحش” التهم الكفاءات، وسحق الإرادة الحرة لدى الإنسان باسم “السمع والطاعة” التي تحولت إلى سيف لقطع رقاب أي مخالف في الرأي أو التوجه، بل إن المفارقة أن معظم الأسماء التي لمعت من داخل الحركة الإسلامية لم تصل إلى تلك المكانة إلا بمغادرة “الجماعة” كالقرضاوي والغزالي وسيد سابق وغيرهم.  

لذا فقد يكون من المناسب – مع تلاشي الخطوط الفاصلة بين “الحزب” و”الجماعة”- حل الجماعة تزامنا مع قرار الإدارية العليا حل الحزب وتفرغ الجماعة لتدوين تجربتها بكل أمانة وصدق لتصبح وثيقة بين يدي الأجيال القادمة.

خطأ التحالف مع الإخوان المسلمين

لا يخفى على أحد أن قرار حل حزب البناء والتنمية، جاء عقابا للجماعة على تحالفها مع الإخوان المسلمين من قبل الانقلاب وأثنائه وبعده!!

وبعد مرور سبع سنوات على الانقلاب أرى أنه من الضروري أن تعيد الجماعة تقييم هذه التجربة تقييما عقلانيا بعيدا عن العاطفة، تقييما سياسيا لا أخلاقيا.

فالجماعة الإسلامية التي امتلكت الشجاعة في وقت ما لتعترف أنها أخطأت، عليها أن تمتلك نفس الجرأة لتعترف أن تحالفها مع الإخوان كان خطأ استراتيجيا فادحا!!

فعلاقة الإخوان بالجماعة عقب فوز الرئيس مرسي رحمه بالرئاسة، كانت علاقة جافة لا تختلف عن علاقة الإخوان بباقي القوى السياسية إذ ظنوا في لحظة ما أن علاقتهم بالسيسي سوف تغنيهم عن علاقتهم ببقية مكونات الطيف السياسي التي طلبت ودها ووصلها في انتخابات الإعادة ثم حل الهجر محل الوصل.

فحزب الحرية والعدالة الحيلولة حاول دون حصول حزب البناء والتنمية على نسبته المستحقة في تعيينات مجلس الشورى والتي تم الاتفاق عليها بين الأحزاب، وكان حزب البناء والتنمية قاب قوسين أو أدنى من رفض التعيينات التي أعلنتها الرئاسة وعدم قبولها لولا وازع من أخلاق حال دون ذلك نظرا لاهتزاز الأرض تحت أقدام الرئيس حينها بفعل نشاطات جبهة الإنقاذ.

ومرة أخرى يحاول نواب حزب الحرية والعدالة تمرير قانون الانتخابات في مجلس الشورى والذي كانت تمنع إحدى مواده معظم أعضاء حزب البناء والتنمية من الترشح لانتخابات مجلس النواب آنذاك لولا تدخل الرئيس مرسي – رحمه الله – لتعديل القانون.

جملة من المواقف شهدها عام حكم الإخوان، كانت كفيلة بتنبيه قادة الجماعة والحزب إلى خطورة الاندفاع في التحالف، وتذكيرهم أن نظرة الإخوان للجماعة الإسلامية كمنافس لن تتغير، خاصة وأن ما حدث في انتخابات مجلس الشعب ٢٠١١ كان لا يزال حاضرا، فقد حاول الإخوان بشتى السبل الحيلولة دون ترشح أعضاء الجماعة، وفي الوقت الذي فرغوا فيه دوائر لأعضاء حزب حمدين صباحي، وشخصيات أخرى كمصطفى بكري، حاول إسقاط مرشحي حزب البناء والتنمية بكل السبل المشروعة وغير المشروعة كما حدث مع د. محمد الصغير في محافظة سوهاج.

 أضف إلى ذلك رفض الإخوان جميع الحلول التي طرحتها الجماعة للخروج من الأزمة السياسية ومنها الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة.

بل إن ما تكشف لاحقا أظهر كيف تعمد الإخوان تهميش الجماعة داخل ميدان رابعة العدوية، ففي وقت كان بعض قادة الجماعة يؤكدون من على منصة رابعة عدم التفريط في الشرعية وأن دونها الأرواح، كان قادة الإخوان يؤكدون لوفود الوساطة استعدادهم للجلوس والتفاوض من أجل مصلحة مصر!! وفق ما قاله المهندس خيرت الشاطر لوزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد عندما التقاه في محبسه ضمن وفد ضم وزير الدفاع القطري خالد العطية الذي نشر تلك الشهادة بعد ذلك.

إن التحالف بين الإخوان والجماعة لم يمنع نائب المرشد إبراهيم منير من التبرؤ من الجماعة الإسلامية – خلال جلسة استماع في مجلس العموم البريطاني – وتحميلها مسؤولية أعمال العنف في عهد مبارك، ورغم اعتذار منير لاحقا، إلا أن حديثه يؤشر لنظرة الإخوان إلى الجماعة والتي عبر عنها بعض منتسبيها في أوقات متفرقة، بل إن هذا التحالف لم يمنع القيادي وجدي غنيم من سب الجماعة الإسلامية بأقذع الألفاظ في تسجيل مشهور!!

إن الجماعة الإسلامية مطالبة اليوم أن تمتلك الشجاعة لتقول إنها اندفعت في ذلك التحالف دون النظر إلى تاريخ الإخوان من انقلابات مماثلة حيث أيدوا الانقلاب العسكري في الجزائر على جبهة الإنقاذ ولا يزال التاريخ يحفظ مقولة المراقب العام محفوظ نحناح: “رحم الله الدبابة التي حمت الديمقراطية”، بل كان على قادة الجماعة أن يجيبوا على ذلك السؤال بصدق: ماذا لو كان الانقلاب العسكري على رئيس آخر هل كان الإخوان سيقفون ذلك الموقف الرافض؟

لكن الوازع الأخلاقي تغلب على الحسابات السياسية الدقيقة، ما حرم الجماعة الإسلامية من لعب دور الوسيط لاحقا للحيلولة دون تفاقم الأوضاع، وانتهى التحالف إلى حالة جديدة من الفصام بل والتنابز!!

لذا فالجماعة الإسلامية مطالبة اليوم بأن تصحح ذلك الخطأ الإستراتيجي، بسرد حقيقة ما حدث، وتحمل المسؤولية الأخلاقية أمام التاريخ والأجيال القادمة، ثم السعي لإخراج “شيوخها” و “كهولها” من السجن الذي دخلوه نتيجة تحالف ما كان ينبغي له أن يتم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه