أزمة كورونا وتداعياتها على المشهد الداخلي التركي

 

“العالم عقب هذا الوباء يتجه نحو مرحلة لن يكون فيها أي شيء كما كان من قبل وسنشهد بناء نظام عالمي جديد على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتركيا تدخل هذه المرحلة الجديدة بمزايا كبيرة وبنية تحتية قوية”، بهذه الكلمات لخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رؤيته لعالم ما بعد كورونا.

فـ “الفيروس” نجح في فرض كلمته على العالم حيث تقطعت أوصاله، وبات معزولا عن بعضه، ولولا ثورة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لأطبق الصمت الموحش على الجميع.

تداعيات كورونا لم تتوقف عند “الخارج” فقط بل امتدت إلى “الداخل” التركي، وإلى العلاقة بين الحكومة والمعارضة، في ظل تمتع تركيا بحياة سياسية فعلية، وحيوية حزبية مشهودة.

أزمة جديدة تختبر قوة الدولة التركية:

ثمانية عشر عاما مرت على استلام حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان دفة الحكم في تركيا شهد له فيها الجميع بنجاحه في إحداث نقلة حقيقية في تركيا حتى غدا عام استلام الحزب الحكم علامة فارقة يؤرخ بها في تاريخ الجمهورية التركية.

ومرت تركيا خلال الثماني عشرة عاما الماضية بالعديد من الأزمات التي اختبرت قوة هذه الإنجازات ونجحت فيها الدولة بامتياز، نذكر منها على سبيل المثال: النجاح في تفكيك الهيمنة العسكرية على الحياة السياسية عبر إجراءات قانونية ودستورية متتابعة، وصولا إلى المواجهة الحاسمة في محاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من يوليو ٢٠١٦، كما نجحت الدولة في مواجهة الزلزال الذي ضرب شرق تركيا قبل ثلاثة أشهر مقارنة بما حدث مع زلزال عام ١٩٩٩ الذي خلف أكثر من ١٨ ألف قتيل، كما استطاعت تركيا بناء سياسة خارجية تتسم بالاستقلالية والندية وعدم التفريط في الحقوق المشروعة مثلما يحدث الآن في جدالات غاز شرق المتوسط.

في المجال العسكري اختبرت قوة الآلة العسكرية التركية التي تتحصل على حوالي ٦٠٪ من سلاحها من الإنتاج الوطني، فعقب تطهير الجيش من عناصر تنظيم غولن وتفريغ المؤسسة العسكرية لمهمتها الأصلية بعيدا عن السياسة، نجح الجيش التركي في إثبات كفاءته عبر عدد من العمليات العسكرية في شمال سوريا في مواجهة تنظيمي PKK وداعش الإرهابيين، كما يثبت الآن كفاءة مماثلة في ليبيا في مساعدة حكومة الوفاق الشرعية للتصدي لانقلاب حفتر الذي ترعاه وتموله قوى إقليمية ودولية.

وفي أزمة كورونا كان الاختبار الصعب الذي ينتظر القطاع الصحي في ظل ارتفاع أعداد الوفيات بصورة مفزعة حول العالم خاصة في الولايات المتحدة وأوربا أي في الدول المتقدمة التي يفترض أنها تتمتع بنظام صحي متماسك.

لكن النظام الصحي في تركيا أثبت كفاءة كبيرة في مواجهة الأزمة، لم تأت من فراغ لكن نتاج سياسات متبعة على مدار ثمانية عشر عاما وضعت قطاع الصحة على قائمة أولويات الإنفاق العام، الأمر الذي توضحه بعض هذه الأرقام:

  • تبلغ ميزانية الصحة في موازنة عام ٢٠٢٠ حوالي ٥٩ مليار ليرة تركية.
  • تمتلك تركيا ٩٢٨ مستشفى وأكبر نسبة لأسرة العناية المركزة حول العالم حوالي 40 سريرا لكل ١٠٠ ألف مواطن في حين تبلغ نفس النسبة في الولايات المتحدة ٣٤.٧ وفي ألمانيا ٢٩.٢ وفي إيطاليا ١٢.٥ وفي فرنسا ١١.٦ وهذه النسبة العالية من وحدات العناية المركزية مكنت تركيا من استيعاب حالات الإصابة المتقدمة بالفيروس.
  • تمتلك خطة طموح لإنشاء ١٠ مدن طبية عملاقة، استطاعت تنفيذ ٨ منها بالفعل، آخرها التي افتتحها أردوغان خلال الأيام الماضية في إسطنبول والتي تعد واحدة من أكبر المشافي في أوربا بطاقة استيعابية حوالي ٢٦٠٠ سرير، والتي ستتمكن من تقديم الخدمات الطبية بعد افتتاح المرحلة الثانية منتصف الشهر الجاري لأكثر من ٣٢ ألف مراجع يوميا، وستوفر فرص عمل لحوالي ٤٣٠٠ طبيب ومعاون من أطقم التمريض، فيما أكد وزير الصحة قدرة أسرَّة هذه المدن على التحول لوحدات للعناية المركزة حال الاحتياج إليها، والمفارقة أن هذه المدن تعرضت لهجوم شديد من المعارضة عندما طرحها أردوغان كفكرة قبل عدة سنوات بزعم أن الشعب التركي لن يحتاج مثل هذه المدن العملاقة! الأمر الذي وضع زعيم المعارضة في حرج بالغ عندما تمت مواجهته بكلامه القديم خاصة وأن انتشار الوباء أثبت صحة وجهة نظر أردوغان حيث تساهم هذه المدن بنصيب وافر في علاج المصابين بالفيروس.
  • الإعلان عن إنشاء مستشفيين ميدانيين في إسطنبول بسعة ١٠٠٠ سرير لكل واحد منهما خلال ٤٥ يوما فقط، من المفترض أن ينتهي العمل فيهما خلال الأيام المقبلة، وأعلن أردوغان مؤخرا أنهما سيستمران في تقديم الخدمات الصحية لأهالي إسطنبول حتى بعد انتهاء الأزمة.

إضافة إلى ذلك فإن تركيا تمتلك نظاما للتأمين الصحي فاق نظيره في دول أوربا، استطاع توفير الرعاية الصحية والعلاج للمصابين بالمجان بالكامل سواء في مستشفيات الدولة أو الخاصة على حد سواء.

مواجهة الوباء

إضافة إلى ما تقدم فقد اعتمدت الدولة سياسة لمواجهة الوباء ترتكز على عدة محاور:

أولاً: الشفافية، حيث أظهر وزير الصحة فخر الدين كوجه كفاءة كبيرة في التواصل مع الرأي العام بصورة يومية من خلال إتاحة جميع المعلومات الخاصة بالإصابات والوفيات وعدد الاختبارات ما جعل الإيجاز الصحفي الذي يقدمه كل يوم مباشرة أو عبر حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي جعله محط انتظار الشعب التركي، وحظي بشعبية كبيرة خلال الفترة الماضية، حتى أن مسحا جماهيريا لاختيار أفضل المسؤولين أداءً، احتل فيه كوجه المركز الأول متقدما على أردوغان نفسه.

ثانيا: التواصل الدائم لأردوغان مع الشعب من خلال تصريحات دورية حرص من خلالها على مصارحة الشعب بآخر التطورات ولقائه عبر الدوائر التليفزيونية مع الوزراء والمختصين لتحديد التدابير المستحدثة أولا بأول.

ثالثا: توفير بعض أدوات الوقاية للشعب بالمجان، حيث قررت الحكومة منع بيع الكمامات نهائيا وتوفيرها للمواطنين دون مقابل في الصيدليات

رابعا: تسويق الإنجازات لخلق حالة من التوحد خلف الحكومة وأوضح مثال على ذلك قصة الفتاة ليلى التركية التي تقيم مع أسرتها في السويد حيث رفضت السلطات هناك علاج والدها المصاب بكورونا، فنشرت الفتاة مقطعا على حسابها بتويتر تطلب فيه المساعدة من المسؤولين الأتراك، فما كان من وزير الصحة إلا أن استجاب لها ورد عليها بتغريدة مماثلة أخبرها فيها أن طائرة إسعاف ستصل إلى السويد لتقل والدها مع أخين لها مصابين أيضا بكورونا، هذه القصة رفعت الشعور بالانتماء والفخر بالدولة لدى المواطنين، وأجادت الحكومة في نقل مشاهدها للرأي العام بدءا من إقلاع الطائرة حتى رجوعها كما اتصل أردوغان بالفتاة ليطمئنها على أن والدها سيلقى أفضل رعاية صحية..إلخ، فيما ظهرت الفتاة على العديد من القنوات لتعبر عن امتنانها الشديد. هذه الأجواء خلقت حالة من الوعي لدى المواطنين بقوة دولتهم في مواجهة الأزمة مقارنة بدول أوربية كثيرة.

خامسا: أعلنت الحكومة عن خطة لتحجيم الآثار الاقتصادية للجائحة شملت تسهيلات ضريبية وائتمانية، ومنح المحتاجين ١٠٠٠ ليرة كما أصدرت قرارا يمنع فصل العاملين لمدة ثلاثة أشهر، وأعلنت رفض طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، في موازاة حملة أعلن عنها أردوغان لجمع تبرعات لمواجهة الأزمة بالتعاضد الداخلي حيث وصلت قيمة المساهمات حوالي ملياري ليرة.

هذه التدابير والإجراءات ساهمت في رفع شعبية الحكومة، فيما ارتفعت نسبة التأييد الشعبي لأردوغان حوالي ١٥٪ إضافية.

بطبيعة الحال لم تكن المعارضة لتقف مكتوفة الأيدي دون بناء إستراتيجية مضادة، تثبت من خلالها وجودها وتفسد على الحكومة تلك الأجواء الإيجابية.

المعارضة التركية ومعركة إثبات الوجود

هناك تصريح شهير لقيادي في حزب الشعب الجمهوري يقول فيه: “لو أن لدينا أفضل حكومة في العالم سنعارضها”، ومن هنا فإن الحزب الذي يتصدر واجهة المعارضة وضع استراتيجية لمواجهة الحكومة خلال الأزمة ترتكز على المحاور التالية:

أولاً: التواصل الدائم مع الجماهير وعدم ترك الساحة الإعلامية لحساب أردوغان وأعضاء الحكومة فعمد الحزب إلى عقد مؤتمر صحفي شبه يومي (بغض النظر عن قيمة ما يقال فيه) وخاصة عقب أي كلمة متلفزة لأردوغان، والحزب إذ يفعل ذلك فإنه يستهدف قاعدته الجماهيرية في المقام الأول، إذ يدرك أن تركها للخطاب الحكومي اليومي سيعرضها للتآكل، خاصة مع تذكير الإعلام المؤيد للحكومة بين الحين والآخر بما كان القطاع الصحي قبل استلام أردوغان الحكم، ولا مجال هنا للمقارنة بالمرة.

ثانيا: محاولة خلق كيان موازٍ للدولة ففي الأيام الأولى للأزمة أكد زعيم المعارضة كمال كليتشدارأوغلو أنه “لن ينام طفل جائع في البلديات التي يديرها الحزب”، ثم انطلقت حملة لجمع تبرعات بمعرفة رؤساء البلديات التابعين للحزب لتمويل الإنفاق على المواطنين بعيدا عن الدولة وأجهزتها وبمنأى أيضا عن مؤسسات المجتمع المدني المرخص لها بذلك، الأمر الذي فطنت له الحكومة مبكرا فأوقفت تلك الحملات وجمدت الحسابات البنكية الخاصة بجمع التبرعات، وقالت إن ممارسة هذه الأعمال ليس من مهام رؤساء البلديات، وأحالت رئيسي بلدية إسطنبول وأنقرة للتحقيق، بل إن أردوغان كان حاسما إزاء تلك المحاولة وحذر حزب الشعب الجمهوري بكل صراحة قائلا: ” لا فائدة من وجود دولة داخل الدولة”.

ثالثا: تعويق عمل الحكومة قدر الاستطاعة كما فعل رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الذي رفض إنشاء الطرق المؤدية للمدينة الطبية العملاقة قبل افتتاحها، حيث يدخل رصف هذه الطرق ضمن اختصاص البلدية، متحججا بعدم وجود ميزانية، فكلف أردوغان وزير المواصلات والبنية التحتية بتولي الوزارة إنشاء تلك الطرق، حيث تمكن من إنجازها في فترة قياسية حتى تم افتتاح المرحلة الأولى من المدينة الطبية.

رابعاً: العمل على جر الحكومة إلى معارك جانبية، ولعل أخطرها التلويح بانقلاب عسكري، حيث طالبت رئيسة فرع حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول، جنان كفتانجي أوغلو، في تصريحات متلفزة بانتخابات مبكرة! وقالت إن هذا النظام إن لم يذهب بالانتخابات سيذهب بطرق أخرى!! في إشارة إلى الانقلاب، ورغم أن الحزب لا يملك القوة لتنفيذ تهديده، لكن مجرد التصريحات أشعلت حالة من الجدل داخل تركيا حيث أعاد للأذهان تهديدات مماثلة كان يطلقها أعضاء تنظيم غولن في عام ٢٠١٥ قبل أن يقدموا على محاولة الانقلاب الفاشلة بعدها بعام.

هذا الأداء “المتشنج” يعكس في طياته حالة من الإحباط الداخلي إذ كانت تأمل المعارضة في فشل الحكومة في مواجهة الوباء، وتكدس المستشفيات بالجثث وانهيار الجهاز الصحي، إضافة إلى عجز الحكومة عن احتواء الآثار الاقتصادية للأزمة، لكن الحكومة أظهرت عكس ذلك، واستحقت التضامن الذي أظهره الشعب تجاهها.

لكن الأخطر أن هذه الإستراتيجية عكست تغلغل تنظيم غولن داخل المعارضة لتشابه الأدوات المستخدمة (الدولة الموازية-نشر الإشاعات-التلويح بالانقلاب)

ومن هنا فإن هذا الجدل لا يتوقع له أن يهدأ، بل ربما يتصاعد خلال المرحلة المقبلة وصولا إلى انتخابات عام ٢٠٢٣ أو ربما قبل ذلك!! والتي قد تلعب فيها “كورونا” دورا مؤثراً.

             

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه