تديُّن السيسي تمثيل أم حقيقي؟!

 

مسألة تديَّن السيسي، تثار كلما جاء ذكر أيام عينه الرئيس محمد مرسي وزيرا للدفاع، وبعد الانقلاب، وقبله، فهي مثارة كلما طرح الحديث عنه، سواء من المدافعين عنه، أم من الكارهين له، فكارهو السيسي يعتقدون أنه يمثل التدين، وليس حقيقيا فيه، وقد اشتهرت على لسان الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل عبارة أطلقها على السيسي بأنه ممثل عاطفي، فهل كان يطلق عليه التمثيل في تقمصه لشخصية محب الوطن، أم بوجه عام؟

وكلما جاء ذكر السيسي على ألسنة أنصار مرسي وأنه مدعي للتدين، تندر عليهم خصومهم، بأنه كان يبكي في صلاة العصر، وأنه كان يمثل التدين على المشايخ، وعلى الإخوان حتى يقربوه منهم، فيغدر فيما بعد بمرسي. وكذلك محبو السيسي هم يؤمنون بأنه متدين، وأنه مثل على الإخوان التدين لينقذ مصر منهم.

كل يفسر تدين السيسي بما يحلو له، بعيدا عن التفسير الذي نعتقد صحته، وحتى تتضح الصورة، لسنا هنا معنيين بتدين السيسي شخصيا، بل هو لون من التدين نقابله في حياتنا في عدة أنماط ونماذج، سأضرب لكم بعض نماذجها مع الفارق بين جرائم كل نموذج، وأخطاء كل نموذج.

اعدام عبد القادر عودة:

لقد رأينا من قبل أحد الضباط الأحرار وهو حسين الشافعي، عضو مجلس قيادة الثورة، وهو رجل لم يتورع أن يحكم بالإعدام على القاضي والفقيه الكبير عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي، وغيرهما، وكان معه الرئيس محمد أنور السادات الذي كان لا يحلو له إلا أن يُلقب بالرئيس المؤمن، كلاهما حكما بالإعدام على هؤلاء، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أنهم برآء، وقد كتب السادات في مذكراته: (البحث عن الذات) عن براءة أناس في تنظيم الإخوان أعدموا.

وكان حسين الشافعي، المعروف بين رجال الجيش بالتدين، بل بالتصوف، وكان الرجل وقت أن حكم بالإعدام على هؤلاء العلماء، يكتب مقالات في مجلة (منبر الإسلام) التي تصدرها وزارة الأوقاف، في التفسير، وكان وقتها يفسر سورة النساء، وفسر قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا أليما) النساء: 93. ومع ذلك حكم بالإعدام!!

ضابط يصلي:

وترى قضاة حاليين يحكمون بالإعدام، وبأحكام قاسية بالجملة على عشرات ومئات من المظلومين، ووكلاء نيابة، ومع ذلك تجده يحج ويعتمر، ويصلي الفروض، ويصوم النوافل. وكان من اللافت للنظر: أن معظم التسريبات التي أذيعت للواء عباس كامل وغيره، كانت في الخلفية صوت تلاوة القرآن بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وقال له أحدهم في أحد التسريبات، سأذهب لأتوضأ لأصلي صلاة العصر.

وفي أحد المرات التي تم استدعائي لأمن الدولة – وكثيرا ما كنت أستدعى – كنت أجد في غرفة من يستدعونني: سجادة الصلاة والمصحف، وفي إحدى المرات، جاء ضابط ممن يعذبون الناس، وطلب السجادة من الضابط الذي كان يستجوبني، وسأله أولا: ممكن السجادة؟ أم أنك لم تصل بعد؟! وطبيعي هنا هو لا يحتاج للتمثيل أمامي، فماذا يحتاج مني، وهذا الكلام كان في عهد مبارك، في عهد صولة وقوة أمن الدولة، الذي كان يسجل مكالمات المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع.

وإذا انتقلنا من العسكريين للمدنيين، فالنماذج لا تختلف، فسنجد ثروت الخرباوي، ومختار نوح، ومحمد حبيب، وهي أسماء أستطيع أن أحدثك عن عبادتها، وطول ذكرها، وصيامها النوافل، بل عندما كانت ابنتي رحمها الله في غيبوبتها كان من أكثر من يدعون لها اثنان على طرفي نقيض تماما: المهندس خيرت الشاطر وآل بيته فك الله أسره وأسر الجميع، وثروت الخرباوي كما أخبرني بذلك!!

ومع ذلك فلا مانع أن تجد ثروت الخرباوي نفسه الذي لا يترك المسبحة من يده، أن يفتري على خلق الله، ويفتري علي شخصيا، ويطلق الأكاذيب والافتراءات بغير الحق، على أناس أموات أو أحياء لا يملكون حق الدفاع عن أنفسهم أمام افتراءاته، وما يقال عن ثروت، فيقال عشرات المرات عن مختار نوح، في كم التملق للباطل، وكم تزويق الباطل، وكم كتمان الحق، وتبرير قتل الناس، والإعدامات والسجون للبرآء، وهو المفروض بحكم تدينه، وبحكم مهنته المحاماة، أنه لا يقبل بذلك.

استحلال الأعراض:

وأستطيع أن أسرد لك نماذج من مشايخ ومتدينين، يبكي بدل الدمع دمًا، لو فاتته تكبيرة الإحرام في الصلاة، ويصوم النوافل، ولكنه يستحل عرض من يخالفه في جماعته أو دعوته، أو فكرته، أيا كان توجهه، وهناك عشرات النماذج والأنماط لهذا اللون من التدين ستجده، هو في عبادته فعلا يعبد ويصلي لله سبحانه وتعالى.

هؤلاء جميعا بداية من السيسي وانتهاء بأقل نموذج ذكرته لك، كلهم يؤدون عبادة حقيقة لا تمثيلا، بدليل استمرار معظمهم في العبادة، فلا نعلم أن أحدا من هذه النماذج ترك الصلاة لأنه تحول لقاتل أو ظالم، أو معذب، أو حكم بالإعدام على مظلوم، أو ظلم إنسانا لمخالفته في جماعته، أو حزبه، حتى يكون متسقا مع أفعاله، فمثلا يقول: لقد ظلمت وهذا يتنافى مع عبادتي لله، فترك العبادة، هذا لم يحدث من أحدهم. فما تفسير ذلك؟

إنه تفسير واضح، كتب فيه كثيرا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وكتب فيه كثير من علماء الإسلام، سماه الغزالي: التدين المغشوش، وظل مشغولا به في كتاباته في السنوات الأخيرة من عمره، ومن أهم هذه الكتب كتابه: (هموم داعية)، وغيرها التي يعالج فيها هذه الأدواء. وسماه بعض المعاصرين: شيزوفرينيا التدين، ويطلق عليه أحيانا: أصحاب التدين الشعائري.

هي فئة لا مشكلة لديها في أداء التدين الشعائري، يصلي ويصوم، أعمال الجوارح بالنسبة له سهلة، لكن أعمال القلوب يقترف فيها المصائب الكبرى، فتدفعه أعمال القلوب إلى ارتكاب أعمال جوارح من الكبائر التي لا يغفرها الله عز وجل إلا بمغفرة أصحاب الحق.

وهذا اللون من التدين، تدين أداء الشعائر من صلوات وصوم وتراويح، وحج، وصدقات، لا نقلل من شأنه، لكن الله عز وجل شرع هذا التعبد لتكون  له ثمرة، ثمرته أن يتحول لسلوك يمارسه العابد، فإذا كان هناك فصام بين العبادة والسلوك رفضت العبادة، وفي هذا قال تعالى: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) وفي الحديث القدسي وإن كان فيه ضعف يقول: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي.

وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه” وفي حديث آخر: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر”.

التدين المسموح به:

هذا اللون من التدين هو المسموح به فيمن يقتربون من دوائر السلطة، أو في الأماكن السيادية في الدولة، والدوائر المحيطة بها، وكل من يمكن أن يصل ويقترب من هذه الدوائر، وأي تدين آخر إيجابي يجمع بين الشعيرة والسلوك، فليس مرحبا به، لأنه يخلق إنسانا ذا ضمير حي لا يقبل بالظلم، ولا طاعة لمخلوق عنده في معصية الخالق.

وستجد شيوخ يشرعنون لهؤلاء هذا اللون من التدين، لأنهم هم أنفسهم أفراد منه، بل منظرين له، فعلي جمعة، وسعد الدين الهلالي وخالد الجندي وغيرهم من شيوخ السلطان، يمارس نفس الدور، المشيخة أو الدعوة هي بالنسبة إليه  مظهر شعائري يقوم به، بينما السلوك مختلف تماما، فشرعنة الظلم والقتل والفتك بالناس للأنظمة الفاسدة، والتبرير لها، بل لا يختلف في الجرم والذنب عنها.

فهؤلاء متدينون حقيقيون حسب رغبتهم، أو حسب التدين الذي يستريحون له، ويهوونه، ولا يكلفهم ما لا يحبون، ولا يمنع عنهم رغباتهم التي تصطدم بحقائق هذا الدين، الذي لا يفصل بين العبادة والسلوك. والموضوع طويل لو رحنا نستقصي أطرافه، ونماذجه، ولكني أشرت إشارة سريعة، لنقاش كثيرا ما يطرح حول تدين السيسي تمثيل أم حقيقي؟!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه