إبراهيم عيسى: سطحية أم تسطيح؟

 

وإبراهيم عيسى أيضا “له ما له وعليه ما عليه”!، له ما جمع من المال والشهرة الزائفة، وعليه أوزار التزوير والتزييف والتحريف والتصحيف، وركوب متن المعارضة الكرتونية المصطنعة للوصول إلى النجومية؛ التي مكنته من تخريب وعي الجماهير والتكريس لحكم العسكر، وأهم شيء مما يقع عليه هو أنّه تركنا حائرين أمام ما يقدمه في برنامجه المتهافت ذاك: أهي سطحية مصدرها ضحالة ثقافته أم تسطيح مصدره سوء قصده وفساد نيته؟ وكلا الأمرين معروف عنه معهود عليه!

الاستطالة الهوجاء

   ولو يعلم هذا وأمثاله ممن يستطيلون على القمم الشماء أنّهم بهذه الاستطالة الهوجاء يستنفرون الجيل للتعرف عليها وقراءة سيرها لأغمدوا أقلامهم وألسنتهم؛ إبقاء على الغفلة واستدامة للنسيان، وإنّها لفرصة مواتية – إذ رأينا هذا القليل الضئيل يتصعلك حول حمى الكبار – أن نكشف عن بعض ما غَشَّاه بشرحه العليل وغطاه بسرده الكليل، وسوف نتجنب قدر طاقتنا الإسهاب الممل والاقتضاب المخل.

   بداية .. لا يختلف اثنان – ولو كان أحدهما إبراهيم عيسى – في أنّ خالداً كان سيفاً من سيوف الله، ولا في استحقاقه عن جدارة لقب سيف الله المسلول؛ فهل يمكن لعاقل أن يزعم أنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن على حقّ عندما تمسك به قائداً لجيوشه رغم اعتراض عمر رضي الله عنه على أدائه؟ فكيف إذا علمت أنّ أداء خالد الذي أقره عليه أبو بكر كان موافقاً تمام الموافقة للاستراتيجية القتالية التي رسمها القرآن الكريم لهذه الأمّة؟!

   ففي سورة القتال (سورة محمد) التي تُعَدُّ من أوائل ما نزل في المدينة يقول تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد 4)، أي: فاضربوا الرقاب ضربا واحصدوا الرؤوس حصداً، حتى إذا أكثرتم في عسكرهم القتل فعندئذ شدوا وثاق الأسرى، وعندها يكون المنّ أو الفداء بحسب الحال، ويستمر الأمر على هذا النحو إلى أن تضع الحرب أوزارها بتحقق المقصد الشرعي من الجهاد، والآية رسمت بإيجاز استراتيجية القتال في مراحل المواجهة الأولى؛ حيث يلزم لكسر شوكة عسكر الكفر الإثخان دون اتخاذ الأسرى وما يترتب عليه من المن والفداء، ثم بعد استباب الأمن تتغير الاستراتيجية إلى شد وثاق الأسرى والتخيير بين المن عليهم وبين قبول افتدائهم، وكلمة “بَعْدُ” في سياق الآية تعطي “حتى” الغائية تراخياً يَقْصُر ويمتد بحسب الحال، ولعل آية الأنفال تؤيد هذا السياق؛ فقد قال تعالى في التعقيب على أخذ المسلمين للأسرى يوم بدر: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (الأنفال 67).

   هذه الاستراتيجية القتالية الفذّة اتبعها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؛ حيث طبق المتقدم منهما شقها الأول وطبق المتأخر شقها الثاني، فأمّا أبو بكر فأثخن في عسكر الردة ثم فارس والروم، ولم يعط فرصة لفلول موتورة من تلك القوى المتربصة لتلتف عليه وتوقف زحفه، وكان خالد ذراعه الأيمن في تنفيذ هذه الخطة، وأمّا عمر فقد جاء بعد انكسار شوكة القوى العظمى بأسرها؛ لذلك توجه إلى الجهاد الهاديء الذي يؤخذ فيه الأسرى ويخير الإمام بين المنّ والفداء؛ لغلبة المقاصد الدعوية على المقاصد الجهادية؛ ومن هنا جاء قرار عزله لخالد حيث كان على حدّ تعبيره: “إنّ في سيفه رهقاً”([1]).

الوصف بالوحشية:

    وليس في ذلك شائبة مما وصفه ابن عيسى! من الوحشية؛ لأنّ خالداً لم يقتل مدنيين ولا خلقا عاديين لا يتأتى منهم القتال، وإنما قتل المقاتلة في ميدان المعركة، ولم يقل أحد من خلق الله مؤمنهم أو كافرهم إنّ هذا يوصف بالوحشية، إنما يوصف بالوحشية والدناءة والخسة ما تفعله الجيوش المعاصرة من قصف للمدن والقرى لا يفرق بين جيوش محاربة وشعوب مسالمة، وليس فيها جميعا من سلم من ذلك، على اختلاف الأيدولوجيات وتفرق المذاهب، ومن لا يزال إلى الآن غارقاً في الغفلة فليراجع تاريخ الحروب المعاصرة بما فيها الحربين العالميتين الأولى والثانية.

    ومن هنا نستطيع أن نقول إنّ تاريخ الإسلام – ولاسيما في العهود الأولى – كان خاليا من جرائم الحرب التي وقع فها القادة العسكريون أبناء الحضارة المعاصرة بأجمعهم، بل إنّ رؤساء الدول التي تُعَدُّ في حياتنا المعاصرة من أحتى الديمقراطيات لم يسلموا من هذا الوصم الوخيم، يقول نعوم تشومسكي: “أعتقد من وجهة النظر القانونية أنّ هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية بأنّهم مجرمو حرب أو على الأقل متورطون بدرجة خطيرة في جرائم حرب”([2]).

    أمّا الجهاد الإسلاميّ فقد كان نظيفا سالماً من الجرائم، وهذا هو الذي هيأ له أن يكون سببا لدخول الناس في الإسلام طوعا لا كرها، لأنّ القوة إذا سلمت من المقاصد الدنيئة انضمت إليها القدوة، وبالقدوة والقوة تُفتح البلاد وتُفتح معها قلوب العباد، يقول غوستاف لوبون: “إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار الإسلام، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارًا في دياناتهم، فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانيةِ الإسلامَ، واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدالة الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى”([3]).

نعي عثمان بأسلوب رخيص:

   وقد نعى “ابن عيسى!” على عثمان بن عفان رضي الله عنه بأسلوب رخيص لا ينتهجه في الحديث عن الكبار الأوائل إلا الصغار الأراذل، وزعم – وكم بالمزاعم من سماجات – أنّ عثمان لم يكن يلق بالحكم والسياسة، ومع ذلك تمسك بهما وتعلق بتلابيبهما، ثم لم يكتف بذلك حتى ترك نفسه للقتل بلا هدف ولا غاية! هذا خلاصة ما انتهى إليه في حلقة من برنامجه السخيف: “له ما له وعليه ما عليه”.

    ولن أتعرض للحديث عن عظمة عثمان بصفته  صحابيا رشيدا واقتصاديا وسياسيّا سديدا، كما أنني لن أتطرق للكلام على الطريقة المبهرة التي تم بها اختيار عثمان، فلهذا وذاك مقال لا يتسع له المقام، ولكنني سأقف فقط عند شاهد العظمة في موقف عثمان الأخير، فعثمان رضي الله عنه لم يتمسك بالخلافة حبا فيها ولا رغبة في الملك؛ وإلا لما تركهم يقتلوه، وقد كان بالمدينة من يفتدونه بأرواحهم لو شاء، وعلى رأسهم عليّ والحسن والحسين رضي الله عنهم، وقد عرضوا عليه ذلك كما عرضه عليه غيرهم، ولكنه أبى وأصدر أمره بذلك؛ خشية الفتنة التي يعلم هو كما يعلم غيره من المسلمين أن شررها تطاير على أيدي السبئية أجداد “تمرد” في طول البلاد وعرضها، وآثر – إذ تحتم إراقة الدماء – أن يكون دمه هو المراق، أمّا الخلافة فليس من حقه أن يتنازل عنها، لأنّها عقد بينه وبين الأمة؛ ولا يصح فصم العقد من جهته دون رضا الأمة، وهذا حكم فقهي في ميدان السياسة الشرعية لا يعرفه ابن عيسى ولا أضرابه.

    وعلى هذا المعنى جاءت كلمته: “ما كنت لأنزع قميصا سربلنيه الله” وليس على معنى التمسك بالحكم والتعلق بالكرسي، وإنّما على معنى أنّ الخلافة هذه تقلدها بمقتضى الشريعة الإلهية التي تقضي بأنّه لا يملك سلطان العزل إلا من يملك سلطان التولية وهو الأمة([4])، وهل يقبل عقلا أن نحمل عبارته على معنى التمسك بالسلطة باسم الحق الإلهي المقدس وهو الذي فدى الأمة بنفسه؟([5]).

التعريض بمحمد مرسي:

    ويلوح لي أنّ ابن عيسى يُعَرِّضُ بهذا الحديث عن عثمان رضي الله عنه بمحمد مرسي رحمه الله تعالى، فإنّه ليعلم علم اليقين أنّ مصر لم يحكمها في حياتها المعاصرة أفضل ولا أعقل منه، وأنّه لم يكن ضعيفا ولا عاجزاً ولا مستمسكا بالمنصب، وإنّه ليعلم علم اليقين أنّ الفتنة كانت أشد وأعنف مما يصفه والواصفون، ولكنّه لا يتصرف وفق ما يعلمه؛ لأنّ مصلحته الشخصية ليست في مصلحة الأوطان ولا الشعوب، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل في كل من يُكْرَى بالمال والشهرة ليخرب الدين والمعتقدات وثقافات الشعوب.

   وأخيراً أنصحه بأن يكتفي في برنامجه هذا بالحديث عن المطربين واللاعبين؛ فهذا أقصى ما يمكن أن يتحدث فيه، على خوف ألا يُقسط في حديثه عنهم؛ بسبب ما يملأ صدره العريض من الهوى والضغائن ومما لا تستطيع حمالاته أن تحمله تجاه خلق الله. 


([1])  الروض الأنف – دار إحياء التراث العربي – بيروت – ط: الأولى (7/ 159) ، تاريخ الطبري – دار التراث – بيروت – ط: الثانية –  (3/ 278)

 

([2])ماذا يريد العم سام؟ – نعوم تشومسكي – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – مصر – ط أولى 1998م – صــــ29

([3]) حضارة العرب لـ: غوستاف لوبون – ترجمة عادل زعيتر – مؤسسة هداوي ط 2012م – صــــ 134

([4]) راجع: النظرية العامة لنظام الحكم في الإسلام – د. عطية عدلان – ط أولى 2012 دار اليسر – القاهرة صـــ105

([5]) راجع: فقه الدولة في الإسلام د. يوسف القرضاوي – ط خامسة دار الشروق ص 66

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه