التّقطيع على أنغام الموسيقى

ذريعةٌ لمهاجمة الإسلام والمسلمين

“احذروه فهوَ يكرهُ الموسيقى”.. هكذا صرخَ فولتير مهاجمًا متطرّفي الكنيسة في عهده.

لايزال محاربو الإرهاب والجريمة يؤكّدون يومًا بعد يوم بأنَّ الإرهاب يتنافى مع الاستماع للموسيقى، وبأنَّ من يحبّ الموسيقى ويدمنُ سماعَها لا يصبحُ إرهابيًّا عادةً، وقد استخدم هذا الدّليلُ “الذّريعةُ” سبيلًا لمهاجمة المسلمين؛ كون شريحة واسعة منهم تتبنّى موقفًا شرعيًّا يحرّم سماع الموسيقى، ومن ثمّ استخدمت هذه الحجّة وسيلةً لمهاجمة الإسلام نفسه فكرةً وتطبيقًا.

ولكنّ الموسيقى التي قال عنها بيتهوفن إنّها “وَحْيٌ يعلو على كلّ الحِكم والفلسفات”؛‏ لم تكن حاجزًا مانعًا ولا ساترًا رادعًا من الجريمة ولا رعب الانتقام. ولسنا هنا في مقام تقييم الموسيقى أو الحكم عليها، أو إثبات أيّ شيءٍ حولها من الإيجابيّات أو السّلبيّات، وبعيدًا عن الدّخول في جدليّة الحلّ والحرمة؛ فإنّ المرءَ يقفُ مشدوهًا أمام الإغراق في ساديّة الجريمة وبشاعتها من عدد من مدمني الموسيقى وغيرها من الفنون.

إنّ قدرة بعض أكابرِ المجرمين على الجمع بين رقّة الموسيقى وعنف البطش في الموقف ذاته؛ يثبت فشل نظريّة ابن عبد ربّه الأندلسي الذي قال: “وقد يتوصَّل بالألحانِ الحِسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعثُ على ‏مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام، والذَّبّ عن الأعراض والتّجاوز ‏عن الذنوب”.

فكم أهينت الأخلاق على أنغام الموسيقى، وانتهكت الأعراض على وقع النّغم الرّخيم، وأذِلّ الإنسان على صوت ما عُرف بأنّه غذاء روحه.

طغاةٌ يعشقون الموسيقى

أيّة متعة كانت تخامر نيرون وهو يحمل قيثارته ويعزف عليها الألحان التي كان يعشقها، بينما هو يحرق روما كلّها؟! فكيف كان يتلذّذ هذا الطّاغية بالعزف وهو يدمّر ويحرق مدينة بأسرها؟!

وكيف يمكن الجمع بين كون نيرون من المهووسيين بالموسيقا والفنون وأنّه ارتكب جرائم في غاية البشاعة ليس أكبرها قتله لأمّه “أغربينيا” التي مكّنت له من الوصول للحكم؟!

ولم يختلف كثيرٌ من الطّغاة المشهورين عن نيرون في جمعهم بين الموسيقى والإجرام، فإنَّ هتلر كانَ مغرمًا بالموسيقى، وكذلك كان كيم إل سونغ؛ الزعيم السابق لكوريا الشمالية، والزّعيم الإيطالي موسوليني، والرّوسي ستالين، والصّيني ماو تسي تونغ، ورادوفان كاراجيتش؛ أحد كبار مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة والمعروف بجزّار ‏البوسنة‏؛ هؤلاء جميعا كانوا من عشّاق الموسيقى والشّعر، بل كان بعضهم شعراء، ومع ذلك فقد دُمّرت دولٌ وأبيدت شعوبٌ على أيدي مرهفي الحسّ، ورقيقي المشاعر، ومحبّي الفنّ والشّعر والموسيقى هؤلاء.

وكذلك هو حال بشّار الأسد فهو مدمنٌ على سماع الموسيقى لا سيما أغنيات الفنّان البريطاني فيل كولينز؛ فقد قال عنه إد شولينبرغ؛ المشرف السابق عليه في فترة وجوده في لندن: “لقد أحبّ لندن، أحبّ الموسيقى. وكان فيل كولينز ممّن أحبّهم، وقد أمضى الكثير من الوقت في الاستماع إليه للاسترخاء”

“سلّملي عليه”

وكذلك لم يكن الجنود التنفيذيّون للجرائم أقلّ سوءًا في هذا الجمع المتناقض؛ فأذكر جيّدًا حينَ استدعيتُ مرّة إلى أحد الفروع الأمنيّة في سوريّا، وتمّ اقتيادي للانتظار في غرفةٍ بائسةٍ ضمن قبو الفرع كانت ملاصقةً لغرفة تعذيبٍ يتفنّن فيها عددٌ من الجلادين بتعذيب أحد الشّبّان الذين كان يمزّقني صراخه مع كلّ سوطٍ ينزل على جسده، وكانت حفلة التّعذيب هذه على وقع صوت فيروز، وكان من أغنياتها التي كانت تنبعث في أثناء الجلسة “سلّملي عليه”، وكانت كلّما كرّرت هذه الكلمة ينزل السّوط على جسد الشّاب؛ والجلّاد يقول له “يللا سلّملي عليه”، ويطلق ضحكةً فاجرةً تختلطُ بصراخ المعتقل الذي يقطّع نياط القلب والرّوح على وقع “الصّوت الملائكيّ”، كما كان يحلو لإعلام النّظام السّوريّ تسميته!!

وهذه السّاديّة الباطشة كانت منهجا مطّردًا في عموم أقبية التّحقيق في المخابرات السّوريّة؛ التّعذيب على وقع صوت فيروز صباحًا وصوت أمّ كلثوم ليلًا، ولست قادرا إلى الآن على فهم الرّابط بين استمتاع هؤلاء الجلاوزة بهذه الأصوات الجميلة؛ واستمتاعهم في الآن نفسه بسلخ جلود المعتقلين بسياط الظّلم والقهر والإذلال.

التّقطيع على أنغام الموسيقى

وفي هذا السّياق الإجرامي، جاءت التسريبات المرعبة التي تقول بأنَّ طبيب التّشريح السّعودي طلب من رفاقه في فريق اغتيال جمال خاشقجي الاستمتاع بالموسيقى وهو يقطّع الجثّة المغدورة؛ وهل يمكن لعقلٍ أن يتخيّل كيف يمكن لبشر أسوياء أن يستمتعوا بالموسيقى على وقع تقطيع جثّة قتلت غدرًا وظلمًا وغيلة؟!!

وما هي القدرة النّفسيّة التي يحملها هؤلاء في نفوسهم البعيدة عن البشريّة حتّى يتمكّنوا من التّرنّم بالموسيقى الهادئة؛ وهم ينشرون مفاصل وأعضاء إنسان أزهقوا روحه بكلّ وحشيّة وصلَف؟!!

تلازُمُ ما لا يلزم

الأصل في الفنون كلّها، ومنها الموسيقى، أنَّها لتهذيب النّفس وتشذيب الأرواح، لكنَّ هذا لا يعني مطلقًا أنَّ من يدمنها محفوظٌ من الجريمة إنسانيٌّ في تعامله وتوجّهاته وسلوكه وأنَّ من يهجرها غارق في رذيلة الإرهاب؛ كما حاولت المنظومات الإعلاميّة للأنظمة الاستبداديّة إقناعنا بذلك على مدى عقود.

وكما أنَّه لا يجوز ربط الجريمة بالموسيقى استنادًا إلى الأمثلة السّابقة وغيرها، فإنَّه لا يجوز ربط الإرهاب بهجر الموسيقى والعزوف عنها، كما يحلو لعدد غير يسيرٍ من الكتّاب أن يطيلوا الدّندنة بهذا الرّبط المجحف غير المنطقيّ وغير البريء.

فلا فرقَ مطلقًا بين المجرم الذي يتفنّن في تعذيب النّاس وانتهاك كرامتهم باسم الإسلام وهو يقول بحرمة الموسيقى عن المجرم الذي يعذّبهم ويقتلهم على وقع أنغام الموسيقى؛ فلا ذاك متحجّرٌ والسبب في تحجّره وإجرامه هو امتناعه عن الموسيقى، ولا هذا مرهفٌ قد شذّبت الموسيقى روحه ونفسه فمنعته من الجريمة.

إنَّ تقطيع الجثث وإحراق المدن وتدمير الحواضر وتعذيب المعتقلين على أنغام الموسيقى، يرضي ساديّة الوحش المجرم، وربّما يقنعه بجمال جرمه، ويحوّل الجريمة في عين فاعلها إلى ضرب من التسلية الممتعة، لكنّه يزيد من وجع الضّحيّة، ومن غضب الإنسان الذي تتأبّى فطرته الجمع بين القبح والجمال، وبين الرّقّة والتوحّش، ويزيد من يقين الشّعوب بوجوب التّخلّص من هذه الكائنات السّاديّة التي لا تمتّ إلى البشريّة بصلة.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه