ضحايا “كورونا” في مصر موتى أم قتلى؟

 

 رائحة الموت تحيط بنا من كل مكان، ورغم أننا شعب اعتاد التعامل مع الموت منذ فجر التاريخ واحترام قدسيته واعتباره قدرا غير مؤرق وغير معرقل للحياة، فإن الرائحة التي تحيط بنا تجاوزت التحصينات النفسية التي يتمتع بها المصريون ضد الخوف من الموت، فالرائحة هذه المرة ممزوجة برائحة الفساد والخيانة والإهمال والاستبداد والقهر، هي رائحة تجاوزت مأساة الموت نفسه وأصبحت مأساة أكثر بشاعة لم يعشها الشعب المصري من قبل، وخاصة أن هذه المأساة لا تنال من عموم المقيمين على أرض واحدة وتحت سقف وطن واحد، وإنما اختصت بكل افتراء بالعوام وبسطاء الناس وفقرائهم مستغلة داء الصمت القهري المصابين به منذ عهود، بينما جزء من المجتمع منفصل عنه تماما يعيش نفس الأيام في رفاهية وبحبوحة من العيش مبالغ فيها ورفاهية أسطورية في قصور ومدن لياليها تجاوزت ليالي ألف ليلة وليلة، وتحت حماية ورعاية نظام حاكم يمدهم بكل أدوات الرفاهية من بقايا دماء الشعب الذي يحيط به الموت، ودون حتى أي اعتبار للحظات الاحتضار، فيظل المصري البسيط يضخ من دمه للسادة الجبابرة حتى تصعد روحه للسماء وهم يرقصون على أشلائه.

الدموع يا إخوة أصبحت مشهدا معتادا، لا تحرك المشاعر رغم ما بها ما أوجاع، وانتهى زمن المشاركة الوجدانية في الأحزان التي كانت تميز المصريين وأصبح الإحساس بالمصائب شعورا فرديا دون أي مواساة تهون على صاحبها.

 الموت ليس مؤرقا، ولكن المؤرق هو الوقوف في هذا الخلاء عرايا من أي تحصينات أو حماية في انتظار الموت يخبطنا من أي جهة بينما رفاق لنا نعرفهم أو لا نعرفهم يسقطون كل لحظة أمام أعيننا، ويوارون التراب وهم مثقلون بأحمال الاستغلال والظلم، الدموع تجمدت في الأعين المتحجرة، أتذكر كلمات للشاعر الفلسطيني محمود درويش لأم شهيد من ضحايا زمن الخيانة والغدر فيقول لها:

 يا أمه!.. لا تقلعي الدموع من جذورها

خلي ببئر القلب دمعتين!

 فقد يموت في غد أبوه.. أو أخوه أو صديقه أنا.

لا تظلموا الأقدار

  إذا ما ارتفع صوت ثائر من وسط المأساة يشير إلى المؤامرة والجريمة يخرج عقلاء الأمة ونخبها الانتهازيون من سياسيين وإعلاميين، ليخمدوا هذا الصوت، قائلين في حكمة زائفة “العالم كله يعاني، فلماذا هذا التفكير التآمري“.

كذبتم .. فالعالم مخلوق بكوارثه ولهذا هو يستعد دائما للتعامل معها، وفي الأوطان غير المستباحة تكون سلامة المواطن هي الهدف من كل أنشطة وتحركات الحكومات.

السيول، الزلازل، الأوبئة كوارث لها دائما ضحايا، ولكن لماذا في مصر  دائما يكون عدد الموتى بالنسبة لعدد المصابين الأعلى من بين جميع الدول؟، ولماذا تكون غالبية هؤلاء الضحايا من البسطاء والفقراء؟ أتذكر أن حضرت مدعواً لندوة عن مرض السرطان في مصر، وقام محاضر من المحاضرين الرسميين الحكوميين يلقي محاضرة تفاخر فيها بأن معدل الإصابة بالسرطان في مصر أقل من معدل الإصابة في الولايات المتحدة، فقاطعة طبيب شاب منفعلا متهما إياه بالتحايل في قراءة الأرقام والنتائج، وقرأ علينا أرقاما لا أتذكرها الآن مفادها تأكيد على صحة معلومة ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان في الولايات المتحدة عن مصر ولكن في المقابل ارتفاع نسبة الوفيات بين المصابين في مصر عن الولايات المتحدة، وبالطبع زيادة معدلات شفاء المصابين بهذا المرض في الولايات المتحدة عن مصر وهذه إشارة واضحة إلى تدهور مستوى الخدمات الصحية المقدمة في مصر، والاعتماد على الأقدار والصدف في قياس معدلات الإصابة بالأوبئة.

ليس الموت واحدا كما يقولون  فهناك فرق بين من يموت مستريحا بعد أن حصل على كل وسائل العلاج وفرصة عادلة للعلاج، وبين الذي يموت معذبا بفعل الإهمال والتجاهل والاستغلال.

حكماء النخب والإعلاميون الانتهازيون يستندون إلى عالمية الأوبئة والكوارث في اتهام كل من ينتقد الفساد الحكومي والإهمال بالتفكير التآمري!، ورغم هذه الاتهامات فأنا أوكد أنها مؤامرة.

نعم هي مؤامرة

عندما يموت إنسان بفعل عدم إمكانية حصوله على العلاج نتيجة فقره الذي تسبب فيه وصي أو ولي أمر خالف ضميره وخان الأمانة، هنا تكون الأقدار بريئة من جريمة القتل، وإنما القاتل هو فساد ولي الأمر وخيانته.

لماذا لا أفكر في المؤامرة وكل المشاهد والمقدمات التي نعيشها تؤكد أنها مؤامرة؟، لماذا لا أربط بين ازدياد ضحايا مرض كورونا في مصر رغم التحذيرات المبكرة من قدومه، وبين اختفاء أمصال الوقاية من الإنفلونزا التقليدية من المراكز الطبية في المواعيد المعتاد توزيعها فيها؟، لماذا لا أفكر أن هذا مقصود لكي يستقبل المواطن هذا الوباء بمناعة ضعيفة؟، ولماذا أستبعد هذه الفكرة وقد تأكد أن الصفوة المستغلة ومصاصي دماء الفقراء حصلوا على هذا المصل بصورة أو أخرى؟!

 لماذا لا أفكر بشكل تآمري وصحة المواطن المصري مستهدفة، طوال حقبة الحكم الفاشي بمراحله، من معظم المؤسسات  الدولية الاستعمارية، بمشاركة أنظمة حكم وحكومات وحكام فاسدين لم يصونوا لا الأرض ولا العرض ولا الكرامة وقتلوا النفس التي حرمها الله إلا بالحق من أجل تنفيذ بنود المؤامرة التي  تجلت خطوات تنفيذها مع اتفاقية الجات وحماية الملكية الفكرية، ولم يكن غريبا أن يتوازى صعود الفساد في هذ الفترة مع انتشار الشباك العنكبوتية التي ألقتها الدول الاستعمارية الكبرى على اقتصادات الدول النامية وخاصة الدول المؤهلة أنظمتها للخيانة والعمالة مثل مصر، وذلك من خلال اتفاقيات دولية ملزمة بحجة مسايرة النظام العالمي الجديد.

لماذا لا أفكر بشكل تآمري وقد عاصرت خطط منظمة شاركت فيها شخصيات مصرية من رجال أعمال ومسئولين حكوميين للانقضاض على صناعة الأدوية المصرية لصالح الشركات الدولية ونجحوا بنسبة كبيرة في تدمير أهم قطاع صناعي يتعلق بصحة المواطن، فصناعة الدواء يا سادة من الصناعات الاستراتيجية التي تعتبرها الحكومات الرشيدة دعامة من دعامات الأمن القومي للبلاد؟

 لماذا لا أفكر بشكل تآمري وقد شاهدت تبديد أموال الشعب والضرائب المجموعة من عرق الكادحين، في بناء قصور رئاسية وقرى سياحية وطرق معبدة بأعلى المواصفات العالمية لتوصيل علياء القوم إلى جنان الأرض المشيدة بدماء الفقراء، بينما تعاني المستشفيات والمؤسسسات الصحية من فقر مبالغ فيه في التجهيزات والأدوات والأدوية؟.

لماذا لا أفكر بشكل تآمري وقد شاهدت بعيني مرضى يتم إلقاؤهم خارج المستشفيات وهم يحتضرون لعدم قدرتهم على سداد نفقات العلاج؟.

لماذا لا أفكر بشكل تآمري وقد عاصرت زمن الفقراء يسددون فيه ضرائب ورسوم تفوق دخلهم لبناء عاصمة جديدة يعيش فيها الأثرياء في معزل عن مدن وأحياء المعدمين؟

 لماذا لا أفكر بشكل تآمري وقد سمعت بأذني رئيس الدولة وهو يستخسر تخصيص ميزانية لصيانة السكك الحديدية بعد أن كثرت حوادث القطارات ومات بسبهها المئات من المصريين، ورفضه مشروعات تنمية التعليم بعبارة صريحة  “ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع”، وتصريحه المباشر بأن التعليم لا بد أن يركز على الصفوة المتميزة ليقودوا البلاد، بينما باقي الشعب يعمل وقوداً لمشروعات المتميزين من وجهة نظره؟

 لا أريد أن أعقد الكلمات وأتيه بكم بين سطور غير مفيدة، ولكني أريد أن أشير لكم إلى أن كل الكوارث التي أصابت مصر سواء كانت قدرية أو عامة مشتركة مع كثير من بلدان العالم، إلا أن نتائجها في مصر غالبا ما تكون أكثر بؤسا ومأساوية لأنى أعتقد إلى حد اليقين أنها تتعلق بمؤامرة ممتدة وبخطة مستمرة تسير بخطى ثابتة منذ عشرات السنين، وأتت ثمارها الواضحة بنظام حاكم، يقترب من مصالحه ومصالح الفئات المرتبطة به كلما زاد عدد ضحايا أفراد الشعب، ليخلي الأرض لمشروعات الوافد الجديد، وكأنه سمسار يسعى لإخلاء بناية من سكانها وإلقائهم في الشارع حيث المصير المجهول

  يعرِّف قاموس أكسفورد الفساد بأنه: “سلوك غير صادق أو مخادع من قِبل أولئك الموجودين في السلطة”، وبسبب هذا السلوك أصبحت مصر هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعاني من المبالغة في النتائج السلبية والمدمرة لأي كارثة طبيعية، فحكومات العالم كله تواجه الكوارث الطبيعية والأوبئة بجهود كبيرة واجراءات وتدابير مدروسة واستباقية لحماية شعوبها وتقليل الخسائر بقدر الإمكان، بينما الحكومة المصرية تواجه الكوارث الطبيعية، بتحقيق مصالح وجباية الضرائب والرسوم لها وللمحيطين بها وبتقديم فقراء الشعب وبسطائهم قربان فداء لحياة الصفوة ورجال الحكم والطبقات المستغلة تحت شعار “لا مفر من قضاء الله“.

ضحايا كورونا في مصر ليسوا موتى نالت منهم الأقدار ولكنهم قتلى الاستبداد و الحكم الفاسد المستغل.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه