رمضان وهموم الأمّة

 

تستقبل الأمّة شهر رمضان المعظم وهي مُثْقَلة بالهموم، مُثْخَنة بالجراح، مُحَمَّلة بالأعباء العِظام والتحديات الجِسام، وهي إذ تعاني هذه المعاناة تنظر أمامها وحولها فلا ترى إلا أبواباً موصدة، حتى المساجد التي تتلمس في رحابها الاسترواح قد أحكم غلقها؛ فلا جمعة ولا جماعة، ولا أصوات تضج خلف الأئمة بالتأمين، بل من المرجح حتى الحين ألا يكون للمسلمين في عامهم هذا طواف ولا وقوف؛ فأين السبيل؟ وكيف الخلاص؟ هذا موجز لما نتعرض له في هذا المقال.

    وعندما يكون الحديث عن هموم الأمّة؛ فإنّه لا ينحصر في عرب أو عجم، ولا ينحسر عن سَهْلٍ في أرض الإسلام أو أَكَم، ولا يخطئ أحداً من أهل القبلة إلا من أجرمَ أو ظَلَم، فكل من لم يتلبس من هذه الأمة بظلم أو إجرام أو موالاة للظالمين المجرمين؛ فهو داخل في الحديث عن هموم الأمة مشمول بالخطاب، وبما يرتب على هذا الخطاب من تبعات ومسئوليات، بل إنَّك لن تُتَّهَمَ بالغلو أو المزايدة – إلا مِنْ قِبَلِ الغلاة والمزايدين – إذا زعمت أنّ كافة الخلق الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام على وجهها الصحيح داخلون في هذا الهمّ؛ فَقُلْها إذاً ولا تَخْشَ؛ فإن زايد على الحقّ المزايدون – وإنّهم لجهال سمجون – فلا تزد على الصدع بهذه الآية: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107).

    وعندما يكون الحديث عن رمضان فإنّ كافّة المسلمين يعلمون علم اليقين كم هو شهر عظيم في قدره وفضله، في قدره ومنزلته وشرفه، وفي فضله وخيره وآثاره، ولا يذهب عن حسّهم ووجدانهم أنّه الشهر الذي شرف بأن يكون هو الظرف الزمانيّ المشتمل على أعظم حدث في تاريخ هذه الإنسانية: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة 185)، كما لا يغيب عن مشاعرهم وضمائرهم وأشوقهم وأذواقهم أنّه الشهر الذي يذوق المؤمن فيه طعم العبادة ولذة الطاعة وحلاوة المناجاة، وأنّه من بين شهور السنة اصطفاه الله ليكون محلا لعبادة الصيام وشعيرة التهجد والقيام، لكن الذي ربما ينساه الكثيرون – بما قد يقلل من استفادتهم به – أنّ رمضان للمسلمين بمثابة (محطات التموين) للسائرين، يتزودون منها في طريقهم للآخرة، وفي طريقهم لبناء حضارتهم، وفي طريق نضالهم لخير الخليقة كافّة؛ حيث إنّهم كما أخبر الرحمن: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران 110).

الجراح:

    أمّا الجراح فليست بخافية؛ وكيف تخفى وهي تنزف دوماً فلا تَرْقَأ، وتُنْكَأُ أبداً فلا تشفى ولا تَبْرَأ، فَمَنْ للأسرى في سجون الطغاة، قد ضاقت عليهم على كثرتها وكثرة ما فيها من زنازين؛ لدوام الدخول فيها وانعدام الخروج منها، ومن للمُهَجَّرين من بيوتهم وحياتهم إلى العراء أو الشتات؛ لا لشيء إلا لإعادة تقسيم المقسم وتمزيق الممزق، ومن لأوطان تهدمت فلم يبق فيها حجر على حجر ولا أثرٌ موصولٌ بأثر، قد خربت عواصمها ونهبت خزائنها ويبست مرابعها وتلفت مهاجعها، ومن لدين قد تداعت عليه كلاب الأرض؛ تنهش وتمزق، ثم تصول وتجول بما في أفواهها وبين أضراسها من مزع.

    فَلْنَفْرَغْ للهموم وَلْنَفْزَعْ للتحديات؛ ولْنَرْفعْ من اللبنات الصغيرة قِمَمًا شامخة، ولْنُخرجْ من النواة اليابسة نخلا يافعا باسقا، فإنّنا قادرون إن شئنا على تفجير فلق الصبح من غسق الليل، بشرط أن ندرك ما معنا من إمكانيات إدراكا صحيحا كاملا، وندرك أيضاً كيف نوظفها التوظيف الصحيح، الذي يعظم من فوائدها ويضخم من نتائجها وعوائدها، مع تَوَفُّر الهمة وصدق العزيمة وإخلاص النية؛ والسنة الكونية الماضية لا تزال تهتف بالعاملين: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة 120).

    ولنبدأ من حيث وُضِعَتْ أقدامنا دون إرادة منَّا ولا تدبير، من حيث وجدْنا أنفسنا مع سائر خلق الله على رأس منعطف حاد في مسيرة الإنسانية، ها نحن جميعاً سكانَ الكوكب الأرضي وأبناء الحضارة المعاصرة، ها نحن على اختلاف الملل والنحل وتفرُّقِ الغايات والعلل نجتمع على حقيقة واحدة، حقيقة استقرت على أرض الواقع استقرار سفينة نوح على الجوديّ، ألا وهي “إفلاس الحداثة” وعجزها عن مواجهة الطبيعة، فلقد عَرفت الحضارة المعاصرة قدرها واعترفت بعجزها أمام تحدي القدرة الإلهية، وانهارت الهياكل الفكرية التي بنيت عليها النظم المعاصرة كافة، فما عاد أحد في أي شبر من الأرض يجرؤ على الجهر بموت الإله أو حتى بانعزاله وانشغاله بنفسه بعيدا عن الكون وساكنيه، وما عاد الإنسان سيدا على الطبيعة قادرا على خطم أنفها وحطم قواها، وكأنّ أبناء الغبراء يخشون وعيد السماء: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)) (غافر 83-85).

    ومهما تباينت الرؤى واختلفت التوقعات عن شكل النظام العالميّ القادم بعد انقضاء هذه الجائحة؛ فإنّ هناك شيئاً لا يُختلَف عليه ولا يُمارَى فيه، وهو أنّ فطرة الإنسانية قد تغيرت وأن قناعات الناس قد تبدلت، وما عاد من السهل إعادة العقول النافرة من المنظومة الفكرية المعاصرة إلى الحظائر التي أجبرت على العيش فيها بكافة أساليب الإجبار، العنيف منها واللطيف، لقد انتفض الإنسان داخل كل إنسان، وأفاق ابن آدم من سكرته وراح يتلمس سبيلا غير سبيل المجرمين، وسواء أدرك المتربصون به ذلك أو لم يدركوا فلا سبيل إلى السيطرة على الثورة إذا شبّ لهيبها من الأعماق.

    وإذا كنّا نحن المسلمين نؤمن بأنّ الإسلام دين الإنسانية فإنّ فرصتنا في الخلاص وتحقيق الخير لنا ولها مواتية ومهيأة، وإذا كانوا قد حبسونا في أزماتنا وأغلقوا دوننا ألف باب وأسدلوا بيننا وبين الناس ألف ستار وحجاب؛ فإنّ الله قد فتح لنا أوسع الأبواب، باباً لا يملك أحد غلقه بقرار ولا فرمان، إنّه باب الفطرة الْمُسْتَنْفَرَة والعقل الْمُهْتاج، إنّ كل مسلم – وليس الأمر حكرا على أحد – مطالبٌ اليوم بأن يقدم الإسلام للناس فكرا وسلوكا ومنهجا وأخلاقاً، وأن يجادل عنه باللتي هي أحسن، وأن يفعل ذلك وهو واثق بأنّ التحول الحضاريّ القادم سيكون المستقبل فيه للمعذبين اليوم في الأرض، وإِنْ بعد حين.

غلق المساجد

    وها نحن على مشارف رمضان، وعلى مقربة من الخير العميم رميةً بحجر، فهل نستطيع أن نقلب النقمة إلى نعمة؟ هل نستطيع أن نحول سلبية غلق المساجد إلى إيجابية واقعية وليست خيالية؟ وأن نستلهمَ من سلوكنا هذا درسا كبيراً في صناعة التحول الحضاريّ، وأن نكتسب بهذا السلوك منهجاً وثّاباً قادرا على صناعة الفجر عبر تحويل النِّقَم إلى مِنَنٍ ونعم؟ لا ريب أنّنا سوف نحرم هذا العام من خير كثير، فلا تهجد ولا قنوت ولا اعتكاف ولا دعوات، إنّنا لم نألف هذه العزلة ولم نتعود هذه الفرقة، إنّها بالفعل نقمة بل وكارثة لا يدرك وقعها إلى من ذاق في سابق أيامه حلاوة العبادة في رمضام!!

     لكنّنا في غمرة العمل وسكرة العبادة كنّا نرى خرقا لا نملك له رتقاً، والآن قد آن الأوان لإعادة البناء من جديد، إنّ مُكْثَنا في البيوت – وإن كان صعبا على الكثيرين منّا – هو – وَرَبِّ الناس – خيرٌ ونفعٌ ومصلحة؛ إذْ لَطَالَمَا رأينا في أولادنا وأهلينا الحاجة إلينا؛ دون أن يكون عندنا سعة في الوقت والجهد لتلبية حاجاتهم، وهذه الحاجات ليست من نوع الحاجات التي يمكن أن توكل إلى غير الأبوين أو يفوض غيرهما بعبئها ومسئوليتها، وإنّنا والله لفي حاجة إلى إعادة بناء الأسر من جديد، وإنّها بلا ريب فرصة عظيمة؛ فلنتهجد مع الأهل والأولاد والأسرة والعائلة، ولنجتهد في غرس معاني التقوى والخشية والإنابة والخشوع والإخبات في الجيل القادم، ولتكن دارُ كل واحد منّا دارَ الأرقم لأهله وعائلته.

    لا أقول إنّ إعادة بناء الأسر انطلاقا من القيام والتهجد في البيوت هي الحل لما نحن فيه من أزمات، ولا يقول بذلك أحد، وهي وإن كانت جزءا من الحل فليس المقصود بها الأثر المجاور فقط، وإنّما المقصود الأثر الأكثر تعديا وسرياناً، وهو الأثر النفسي والمنهجيّ، الذي نوجزه في هذا السؤال: كيف نُحِيل النقم إلى نعم؟ وكيف نفجر الصبح من غسق الليل؟ وكيف نُخْرِج من النواة اليابسة نخلة باسقة؟ ونَبْني بضم حصاة إلى حصاة درجة في سُلّم الصعود؟

حالة كونية:

    إنّ رمضان شهر لا يُوقِف أثرَه ولا يُعِيق مدَّه شيء، إلا عند من لا يتهيأ له، إنّه حالة كونية قبل أن يكون حالة شرعية؛ ألا ترى أنّ الله تعالى جعل فيه ليلة أفضل وأخير من ألف شهر؟! ألا ترى أنّ الملائكة تتنزل فيها بالتدبير من لدن اللطيف الخبير؟! ألم تعلم أنّ الشياطين في رمضان تصفد؟ وسواء كان ذلك حقيقة أو مجازاً، وأيّا كان المعنى الذي يحلو لك أن تحمل عليه خبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّ الذي لا خلاف عليه هو أنّ رمضان له خصوصية روحانية، يزيد من روعتها تفتح أبواب الجنان وانزواء شؤم النيران.

    فلننطلق – إذاً – ولنتخذ من رمضان زاداً لنا على الطريق، ولنحرص على الفرصة السانحة، فرصة الدعاء واللجأ إلى رب الأرض والسماء؛ فإنّ آيات الصيام عرجت على الدعاء وقطعت السياق للإشعار بإهميته: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة 186)، ولنتعلم من رسول الله ومن أدعية القرآن كيف تدخل على الله وكيف نحسن التضرع إليه والتوكل عليه.

    إنّ معنا ما لو تعلم قيمته الأمم لجالدتنا عليه بما تملك من سلاح، إنّنا أصحاب منهج ربانيّ تنتظره البشرية كلها على لهفة وشوق، وإنّ هذا المنهج لهو الموافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها، فلنكن أهلا لحمله علما وعملا وسلوكا وخلقا، وإذا كانت المساجد قد غُلِّقت مؤقتاً فلتكن بيوتنا: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس 87).

   فَلْنَسْتَبْشِر وَلْنَنْشُر البشرى في حواضرنا وبوادينا؛ وَلْنُيَسِّرْ على الناس أمر دينهم وأمر دنياهم، كما قال رسول الله: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا).    

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه