ما بعد كورونا: نحو ميثاق أخلاقي عالمي جديد

بعد أن تنتهي أزمة وباء كورونا وما تخلفه في العالم من ضحايا، سواء بالوفاة، أو بالمعافاة، إن شاء الله، كشأن كثير من الأوبئة العالمية التي تخلف وراءها نقاشا كبيرا، وتغيرات جغرافية وسياسية أكبر، فمن المتوقع أن يحدث نفس الأمر بعد كورونا.

وهو ما حدث من قبل في الأحداث العالمية الكبيرة، فبعد الحرب العالمية الثانية، وجد العالم نفسه أمام دمار كبير، بدأت فيه دول من الصفر، فرأينا ألمانيا التي كانت تغزو بلادا وبجيش قوي، لم يعد لها وجود كما كانت من قبل، وبعد إلقاء القنبلة النووية على اليابان، أصبحت دولة تبدأ في كل أمورها من الصفر.

بعد هذه الأحداث الدامية في العالم في الحرب العالمية الثانية، اضطر العالم للتفكير حول إيجاد منظمات تحد من هذا التهور والجنون في استعمال السلاح، فرأينا منظمة كبرى تنشأ كعصبة الأمم، ثم تتحول إلى الأمم المتحدة، ورأينا منظمات أخرى واتحادات كبرى في أوروبا وأميركا، تقوم بغاية وضع حد للانفراد بالقوة، أو التصرف في العالم بمنطق الفردية والجنون.

ونتج عن الحروب التي ملأت العالم الغربي آنذاك: التفكير في مسألة حقوق الإنسان، فخرج الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ثم بعدها معاهدة جنيف لأسرى الحرب، و الحكمة القديمة تقول: الحاجة أم الاختراع، فحاجة الناس لقوانين ومواثيق عالمية تحمي حقوق الإنسان، جعلت الناس تتأمل فيما تفعله الحروب، والدول التي تمتلك القوة، وكم التجاوز في حقوق الإنسان في السلم والحرب، جعلتهم يتجهون لوضع هذه المواثيق، وإنشاء هذه المؤسسات.

نفس الوضع الآن تعيشه البشرية، مع فارق أن الحرب العالمية أصابت بالضرر دولا معينة، الدول التي كانت متماسة مع الحرب، والمتأثرة بالحرب من قريب أو بعيد، كما أن ضحايا الحرب المباشرين لم يكونوا بنفس حجم المتضررين الآن من وباء كورونا، فلا توجد دولة لا يوجد فيها الوباء، ولا توجد فيها وفيات منه، فحجم آثار كورونا أكبر من حجم الحرب العالمية، ليس من حيث عدد الموتى الذين كانوا بالملايين وقتها، ولكن من حيث آثاره الاقتصادية والحياتية، فربما تفوقه كورونا.

عجز المنظمات العالمية:

وفي خلال هذه الأزمة بدت المنظمات العالمية عاجزة عن إلزام المجتمعات الدولية بأخلاقيات موحدة تجاه الأزمة، فرأينا دولا كالصين تخفي المعلومات عن المرض منذ بدايته فيها، ثم رأينا دولا أخرى تقوم بالقرصنة على مستلزمات طبية مصدرة لدول مصابة بالوباء، ورأينا التعامل الطبي والمالي والسياسي والجنائي مع الوباء لا يراعي المنظومة الأخلاقية سواء الدينية في داخل البلدان المسلمة، ولا الأخلاق العالمية المراعاة في البلدان الأخرى.

وقد ثارت نقاشات كثيرة منذ بدأ الوباء، بدت أطراف الاختلاف في التناول فيها متباعدة ومتنافرة، بسبب عدم وجود معيار أخلاقي يحتكم إليه الناس، سواء على المستوى الخلاف الفقهي الإسلامي، أو على المستوى الخلاف الصحي الطبي، والسياسي وغيره.

فرأينا الخلاف بين المشايخ حول إغلاق المساجد أو فتحها للجمع والجماعات، ولا يزال من يصر على أن قرار الإغلاق حفاظا على أرواح الناس هو مؤامرة على الإسلام، بينما أعداد الضحايا تزداد يوما عن الآخر، بين الوفاة والمرض، وفي دول لا علاقة لها بالإسلام، بل هي دول تدور بين الإلحاد، وأديان أخرى، فهل كانت كورونا مؤامرة على الملحدين وغير المسلمين كذلك؟!!

ثم رأينا في الملف السياسي، غابت الأخلاق والمبادئ التي ينبغي أن تجبر عليها الأنظمة، فقد رفضت أنظمة كالنظام المصري إخراج المساجين من السجون، وهم أكثر فئة معرضة للإصابة بالفيروس.

وفي الملف الصحي، رأينا الخلاف حول التعامل مع المرضى، من الأحق بالعلاج إذا وجد شاب ومسن، وعند تعارض الأعمار في استحقاق الجهاز الطبي أيهما أحق؟ وهل تجبر الدول على الإدلاء بالمعلومات عن الأمراض والفيروسات ولا يحق لها إخفاؤها، وهل تجبر الدول التي تكتشف دواء للفيروس على عدم احتكاره؟ وهكذا أسئلة كبرى لا تنتهي، كلها تبدأ وتنتهي من ميثاق أخلاقي تقتضيه توابع وآثار وباء كورونا.

رأينا غضب دول كبرى كأمريكا من منظمة الصحة العالمية، في الوقت الذي أثنت نفس المنظمة على النظام الصحي في مصر، والذي يرى كثيرون فيه مجاملة واضحة على حساب صحة الناس، فهل فشلت المنظمات والهيئات العالمية الموجودة حاليا في مراعاة المبادئ والأخلاق التي تحمي الإنسان؟

واضح أن الإجابة: نعم، وبات واضحا حاجة البشرية والعالم لميثاق أخلاقي عالمي جديد، وللأسف يقوم العالم الغربي بالبحث والوضع، ثم لا تكون وظيفة عالمنا العربي والإسلامي سوى التوقيع والتسليم، فسبقنا الغرب بميثاق حقوق الإنسان، وسبقنا بإلغاء الرق، وسبقنا بمعاهدات أسرى الحرب، وكلها مبادئ أخلاقية أرساها الإسلام وأكدها، ولكن لتخلفنا لم نتقدم بمجرد الاقتراح، بل جئنا رد فعل لا فعلا سباقا.

بات الآن فرض كفاية على هذه الأمة العربية والإسلامية السعي لوضع ميثاق أخلاقي، والتقدم به للعالم، وقد بدأ العالم الغربي بالفعل التفكير في هذه المسائل، ولدينا بصفتنا عربا ومسلمين مراكز بحثية، وباحثون كثر، يمكنهم الإسهام في ذلك، ولو فرادى وجماعات، فكما قام المركز العربي في قطر بوضع معجم تاريخي للمفردات والمصطلحات العربية، يمكنه الآن أن يقوم بهذا الجهد، وهو أهل له، وكذلك مركز دراسات الأخلاق والتشريع التابع لمؤسسة قطر، وفيه باحثون وأساتذة متخصصون في الأخلاق والتشريع. وقد كتب في ذلك بعض مقالات صديقنا الدكتور معتز الخطيب في الجانب الأخلاقي لقضايا فقهية تتعلق بوباء كورونا، والدعوة له ولإخوانه وزملائه كذلك.

فرض كفاية:

يوجد في بلاد عربية وإسلامية مراكز وأشخاص، كما في المغرب، وتركيا، وبلاد لا أريد أن أحدد، لكن ربما احتاج الباحثون أن يكونوا في دولة لا تضيق على الباحث، فلن أستطيع أن أسمي دولا معينة فيها علماء وباحثون لكن حكامهم أبعد ما يكونون عن الالتزام الأخلاقي والمبادئي سواء في السياسة أو في الحكم بوجه عام، وبالطبع فاقد الشيء لا يعطيه، فضلا عن أن يسمح فيمن يفكر فيه.

الأمر هنا فرض كفاية على عموم الأمة، ولكنه فرض عين على المراكز البحثية والباحثين المعنيين بالأمر، فليس مقبولا أن نظل مفعولا بنا، وهناك إسهامات لبعض الوظائف في الميثاق الأخلاقي، فرأينا من قبل موسوعة أخلاقيات مهنة الطب لعدد من الباحثين جمعوا بين دراسة الطب والأخلاق، وتجارب أخرى، لكن الأمر الآن لم يعد في تفاصيل مهنة محددة، بل بات ملحا في البحث عن ميثاق أخلاقي عالمي جديد، والحديث عن الوسائل التي يمكن تحقيق بها هذه الوسائل، وربما بات ملحا على الدول الخمسة التي عقدت منذ أسابيع قمة إسلامية في ماليزيا، أن تبادر بهذا الأمر.

هذه دعوة، يلح فيها الواقع المعيش، ويلح فيها واجب الوقت، تحتاج إلى إنضاج وتفعيل، من كل ذي شأن، ومن كل مهموم بالأمة وقضاياها، لا تحمل الدعوة تفاصيل، بقدر ما تحمل حثًّا على البحث والدراسة، فهل يتم ذلك؟ نرجو.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه