النص الكامل للرسالة الإثيوبية.. ولماذا تم تحريفها في الاعلام المصري؟!

باللغة العربية فقط، نقلت الوكالة ثناء أحمد على الإثيوبيين الذين أظهروا قدرتهم على تمويل المشروع بمواردهم الخاصة، وهي جملة لم يرد ذكرها أساسًا في النص الأصلي للرسالة باللغة الأمهرية

 

عند نقلها الخبر الرسمي إلى لغة أجنبية، لا تتحرى وكالات الأنباء الرسمية أن يكون النص المنقول متطابقًا مع نص الخبر الصادر باللغة الرسمية للدولة؛ ولكن في حالة الأخبار التي تلامس مصالح دول أخرى، فإن الأمر يتطلب من أجهزة المخابرات والمؤسسات الرسمية والإعلامية في الدول صاحبة المصلحة أن تُطالع بدقة النص الأصلي للخبر الوارد في الوكالة الرسمية، سواء كان هذا الخبر مقروءًا أو منقولًا عن المسؤول الحكومي بالصوت والصورة، وتزيد أهمية الخبر الأصلي إذا كانت الدول المعنية بالخبر في حالة مواجهة مع هذه الدولة.

في احتفال إثيوبيا بالذكرى السنوية التاسعة لبدء مشروع بناء سد النهضة مطلع شهر أبريل/نيسان الجاري، نقلت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية باللغة العربية تصريحًا عن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، يقول فيه: “سنبدأ في ملء سد النهضة في موسم الأمطار المقبل، إن الإثيوبيين أظهروا قدرتهم على تمويل المشروع بمواردهم الخاصة، وأنهم يولون مكانة خاصة للمشروع لأنه رمز للسيادة والوحدة”.

وفي صفحتها الصادرة باللغة الرسمية، وهي الأمهرية، نقلت الوكالة نص تصريحات أحمد مختلفة عن ما نقلته باللغة العربية والإنجليزية، وكانت كالتالي: “ينبغي توحيد الإثيوبيين كجيش واحد لمواجهة كورونا وإكمال السد. نحن نواجه تحديين هامين خلال هذه الفترة الحاسمة حيث نحتفل بالعام التاسع من بناء سد النهضة. أحدهما وباء فيروس كورونا والآخر هو قضية سد النهضة. لمواجهة كورونا وإكمال السد، يجب على جميع الإثيوبيين الوقوف كجيش واحد، والتغلب عليهما كجيش واحد. وباء كورونا يمكن أن يؤخر بناء سد النهضة. يجب ألا نؤخر الاحتفال بالسد بسبب كورونا. بالطبع، إذا عملنا بذراع واحدة، سنتغلب على كورونا وننتهي من بناء السد”.

إعلام أخرس

ورغم خروجه وحديثه المطول عن مواجهة كرونا، لم يرد السيسي على تصريحات أحمد، وكأن الأمر لا يعنيه. ورغم خطورة تصريحات أحمد، فإن وسائل الإعلام المصرية، الرسمية والموالية للنظام، لم تُشر إلى الخبر الصادر في الوكالة الإثيوبية باللغة الأمهرية، لا من قريب ولا من بعيد. واكتفت صحيفة الأخبار الحكومية وبعض وسائل الإعلام الموالية للنظام بنشر رسالة أحمد المقتضبة عن وكالة الأنباء باللغة العربية.

أما الأذرع الإعلامية وأبواق البرامج الحوارية فلم يعلق أحدهم على الخبر وتقمصوا جميعًا دور الشيطان الأخرس، ولم يطالب أحدهم السيسي بالرد على أحمد، ولن يفعل بطبيعة الحال، وهي التي خدعت المصريين طوال السنوات الماضية بالمبالغة في إظهار قدرة السيسي على حماية حقوق مصر في مياه النيل، وحكمته في إدارة أزمة سد النهضة، حتى اعتبرت توقيعه اتفاق مبادئ سد النهضة حلا دبلوماسيا للأزمة، في مقابل رعونة الرئيس محمد مرسي الذي اعتبر انتقاص قطرة مياه واحدة من مياه النيل إعلان حرب يواجه بالدماء.

مغالطة مقصودة

باللغة العربية فقط، نقلت الوكالة ثناء أحمد على الإثيوبيين الذين أظهروا قدرتهم على تمويل المشروع “بمواردهم الخاصة”. وهي جملة لم يرد ذكرها أساسًا في النص الأصلي للرسالة باللغة الأمهرية، ولم تنقلها الوكالة إلى النص الإنجليزي أيضًا. ذلك أن تكلفة بناء السد المعلنة، وهي 4.8 مليار دولار، تفوق قدرات إثيوبيا الاقتصادية إلى حد العجز عن توفيرها محليًا، لأنها تزيد عن 12% من الناتج المحلي للدولة. وقد حذر البنك الدولي الحكومة من اقتطاع هذا المبلغ من موازنة الدولة لأنه سيعطل التنمية في باقي قطاعات الدولة.

بل إن تقارير فنية أكدت أن تكلفة بناء السد وصلت مؤخرًا إلى 8 مليارات دولار، بسبب استنزاف الموارد المالية في علاج الخطأ في تصميمات المشروع والفساد في عمليات التنفيذ. وقد اعترف آبي أحمد بأن الدولة أسندت أعمال السد المعقد لشركة تابعة للجيش الإثيوبي، وصفها بأنها غير ناضجة وتفتقر إلى الخبرة وتتمسك بثقافة عمل غير لائقة، وقال إن العاملين فيها لم يروا أي سد في حياتهم، وهو ما أدى إلى إدخال تعديلات في تصميمات السد نجم عنها التأخير في الانتهاء من بناء السد في 2017، وزاد من نفقات المشروع.

وهي رسالة موجهة للمصريين فقط، لذا وردت في النص العربي للرسالة فقط. وهي من اختراع رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل والأب الروحي للسد، ميلس زيناوي، للتغلب على مقاطعة الدول تمويل السد، وحشد الشعوب الإثيوبية خلف مشروع السد بإظهار المظلومية، واضطراره إلى بناء السد من كد وعرق جبينه للحصول على الكهرباء، وليس لهدف سياسي آخر من شأنه قطع المياه عن شعب مصر أو الضغط عليه ليقبل بتوصيل المياه إلى إسرائيل.

امتناع الدول عن تمويل السد كان متوقعا لافتقاره الشرعيه القانونية التي حجبها الرفض المصري. وهو ما تحقق بالفعل عندما تقدمت مصر بطلب في 2011 إلى الأمم المتحدة والبنك الدولي والصين والاتحاد الأوربي بوقف تمويل السد لعدم إخطار إثيوبيا مسبقًا بالسد، ولآثاره الكارثية. ونجحت بالفعل في استصدار قرار في 23 أبريل/نيسان 2014، بحجب التمويل الدولي عن السد، وكذلك وقف القروض الأجنبية التي تنوي إثيوبيا الحصول عليها لبناء سدود إضافية على النيل الأزرق. ولولا تنازل السيسي عن القرار بتوقيع اتفاق المبادئ في 2015 لما أقدمت إثيوبيا على بناء سد النهضة بهذا الحجم العدواني، ولما زادت سعة التخزين من 14 مليار متر مكعب إلى 74 مليارا.

مخالف لاتفاق المبادئ

إعلان آبي أحمد عن البدء في ملء خزان السد في موسم الأمطار القادم دون تنسيق مع مصر يخالف حتى اتفاق إعلان المبادئ، والذي نص في المادة الخامسة منه على ضرورة الاتفاق على قواعد ملء وتشغيل السد قبل البدء في الملء، وكذلك تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية حول الدراسات الموصي بها في التقرير النهائي للجنة والذي صدر في نهاية مايو 2013، والخاص بدراستي عدم الضرر، واستكمال اجراءات أمان السد وذلك خلال 15 شهر من بداية تنفيذ الدراستين، وهو الاتفاق الذي وقعته إثيوبيا ويفرض عليها الالتزام به.

بدأ إثيوبيا في ملء السد دون تنسيق مع مصر يشبه انفرادها بإعلان البدء في إنشاء السد في أبريل 2011 دون إخطار مصر مسبقًا. فالإجراء الأول، وهو البدء في ملء السد، يخالف اتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاثة في الخرطوم في مارس 2015، ويعطي الحق للسيسي في الانسحاب من المفاوضات ويطالب مجلس الأمن بالضغط على إثيوبيا لوقف البناء في السد لعدم التزامها باتفاق المبادئ، وتهديدها السلم والأمن في إقليم حوض النيل وتلويح آبي أحمد بالحرب ضد مصر.

لم يستخدم الجنرال السيسي حقه في الإنسحاب من المفاوضات بعد مخالفة أحمد اتفاق المبادئ. وهو بذلك يضيع فرصة نادرة لتصحيح خطأ توقيعه على الاتفاق الذي مكن إثيوبيا من العبث بحقوق مصر التاريخية في مياه النيل. أضف إلى ذلك أن تصريحات أحمد هي حنث في القسم، وإهانة واستهتار بشخص السيسي، الجنرال العسكري، بعد أن ردد وراءه القسم بالله العظيم ألا يسبب أي ضرر بحصة مصر في مياه النيل، مع تحفظنا على السابقة العبثية لاستخدام السيسي القسم بطريقة هزلية ساخرة إلى حد الغثيان، في حفظ الحقوق بين الدول، هذا إن كان أحمد يفهم ما يقول.

انسحاب السيسي من المفاوضات فرصة ذهبية لتصحيح الخطيئة التي ارتكبها بتوقيع الاتفاق المثير للجدل، والذي أعطى إثيوبيا الحق في التلاعب بحقوق مصر التاريخية في المياه إلى درجة تهديد حق شعبها في الحياة.

إتراف بالإهانة

أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانا على صفحتها الرسمية على شبكة التواصل الاجتماعي في يوم 7 مارس الماضي لرفض بيان وزارة الخارجية الإثيوبية والذي أصدرته في يوم 6 مارس بشأن موقف جامعة الدول العربية من سد النهضة. وصفت الخارجية المصرية البيان الإثيوبي بعدم اللياقة، وافتقاد الدبلوماسية، والإهانة غير المقبولة. وقالت إن إصرار إثيوبيا على ملء سد النهضة بشكل منفرد في شهر يوليو 2020 دون التوصل لاتفاق مع دولتي المصب يمثل خرقاً مادياً لاتفاق إعلان المبادئ ويثبت بما لا يدع مجالاً للشك سوء نية إثيوبيا في فرض الأمر الواقع. ورغم أن تعليقات الناشطين الكثيرة اتهمت الحكومة بالفشل بل والتواطؤ مع إثيوبيا، لم تُبد الحكومة المصرية أي رد فعل لمواجهة الصلف الإثيوبي يبرر موقفها السلبي ويبرئ ساحتها.

أخشى أن يكون مشاركة الولايات المتحدة والبنك الدولي وانسحاب إثيوبيا من المفاوضات ثم عودتها المتوقعة بعد استهلاك الوقت وانشغال الأطراف في مواجهة وباء كورونا سيناريو آخر لتمكين إثيوبيا من بناء السد وفرض الأمر الواقع.

رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، الفريق سامي عنان، قيم أداء الجنرال السيسي تجاه سياسة إثيوبيا في سد النهضة من منظور الأمن القومي، والذي قال فيه: “إن الحكومة فشلت فشلاً ذريعاً في إدارة ملف سد النهضة، فشل يصل إلى حد الخطيئة، بدأ منذ أن وقّعت مصر على إعلان الخرطوم في مارس/ آذار عام 2015، مؤتمر حسن النوايا، ورفع الأيدي”. وطالب عنان بمحاسبة النظام، وقال في البيان: “يجب محاسبة كل مَن أوصلنا إلى هذا الوضع الكارثي المهين، ويجب إعلام الشعب بكافة الأمور بشفافية كاملة، وعلى الدولة أن تعلن أن كل الخيارات متاحة للدفاع عن الأمن القومي لمصر وحقوقها التاريخية في مياه النيل”.

قبل أربع سنوات، رسمت مجموعة حوض النيل مسارا بديلا للمفاوض المصري لمواجهة التعنت والتلاعب الإثيوبي بالقوت وفرض الأمر الواقع. وطالبت المجموعة، وهي تضم 15 من الأستاذة والخبراء والسفراء ووزراء الري بجامعة القاهرة والمركز القومي لبحوث المياه، بوقف المشاركة في التفاوض العبثي مع إثيوبيا واللجوء إلى محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن الدولي للمطالبة بوقف بناء سد النهضة، وباستصدار قرار يلزم إثيوبيا بوقف البناء في السد حتى إتمام الدراسات الفنية، استناداً إلى اتفاقية الأنهار الدولية التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة عام 1997، خشية أن يؤدي السد إلى أزمة تشعل صراعًا مسلحًا يهدد سلم وأمن الإقليم، فلماذا يسوف السيسي ويهدر الوقت؟!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه