مساندة رجال الأعمال أولى من تصيد سقطات بعضهم

وهذا يذكرني أيضا برجل الأعمال العصامي الراحل سيد جلال حين احترق أحد مصانعه بمنطقة شبرا الخيمة في الأربعينات من القرن الماضي، فقام بصرف كامل أجور وحوافز العمال طوال الوقت.

 

  قبل عدة سنوات وفى الأتوبيس الواصل بين نويبع وشرم الشيخ جلس بجواري محصل الأتوبيس كبير السن للدردشة، لقتل الفراغ نتيجة قلة المحطات التي يتوقف فيها الأتوبيس لطول المسافات بين مدن جنوب سيناء، بعد أن عرف هويتي الصحفية من خلال كارنيه النقابة الذي أبرزته للحصول على خصم بالتذكرة كان معمولا به وقتها.

وأخذ الرجل يقارن بين أوجه الرعاية التي تقدمها الشركة الحكومية التي يعمل بها وقتها للمحصلين والسائقين، وبين ما كان يجده عندما كان يعمل سابقا في شركة أتوبيسات رجل الأعمال محمد سالم، قبل أن يقرر نظام يوليو تأميم شركات النقل الجماعي الكبيرة.

وذكر السائق أن محمد سالم كان يقدم رعاية طبية للعاملين لديه، بالفحص الطبي لدى أشهر الأطباء حينذاك والذين كانت قيمة الكشف لديهم خمسة جنيهات كاملة، وهو مبلغ كبير حتى أننا كنا نتباهى بذلك بين معارفنا.

وكان محمد سالم يقيم استراحة للسائقين والمحصلين بالمدن التي تربطها رحلات أتوبيساته بالقاهرة، بحيث يجد السائق والمحصل مكانا لائقا للنوم وشخصا مخصصا لخدمتهم وإعداد الطعام والمشروبات لهم، كما كان يقسم عمال الشركة مجموعات تحضر كل منها يوما للإفطار معه في شهر رمضان على مائدة إفطاره بمنزله.

وقال المحصل من بين حكاياته أنك كنت تستطيع ركوب أتوبيسات شركة محمد سالم، وتشرب فنجانا من القهوة دون أن يتساقط منها شيئا على ملابسك، وهنا تدخلت وقلت له تقصد يشرب زجاجة مياه غازية، لكن فنجان قهوة مسألة صعب تصديقها، فرد الرجل بل فنجان قهوة، ” عارف ليه يابيه؟ لأن الشركة كانت ترسل مفتشين للكشف على الطرق التي تسير فيها الأتوبيسات، فإذا وجدت عيوبا بالطريق قامت الشركة بإصلاحها على نفقتها. وطبعا هذا أوفر للشركة لأنه يطيل العمر الافتراضي للأتوبيسات ويقلل من تكاليف الصيانة وشراء قطع الغيار.

  رعاية العاملين وأسرهم بورش دمياط

تذكرت تلك القصة خلال الضجة التي أثارها بعض رجال الأعمال المصريين، حول حتمية عودة العمال للمصانع رغم مخاطر كورونا ولو اقتضى الأمر وفاة بعضهم، فهذا في رأى أحدهم أفضل من إفلاس البلد بسبب توقف النشاط الاقتصادي، وقيام البعض منهم بخفض رواتب العمال إلى النصف واستعداد آخرين للاستغناء عن جانب من العمالة تقليلا للنفقات.

وهذا ذكرني أيضا برجل الأعمال العصامي الراحل سيد جلال حين احترق أحد مصانعه بمنطقة شبرا الخيمة في الأربعينات من القرن الماضي، فقام بصرف كامل أجور وحوافز العمال طوال الوقت.

وما قام به محمود العربي صاحب شركة أجهزة كهربائية الذي يقيم مطعما لتوزيع الغذاء المطبوخ على الفقراء بمنطقة الموسكي بالقاهرة، حين علم بأن مدير المطعم قد قام بخفض الكميات اليومية الموزعة، وعندما استدعاه برر المدير بأنه علم أن الشركة تمر بأزمة سيولة حادة فأراد تقليل النفقات، فعاتبه العربي وطلب منه توزيع المقررات الغذائية كاملة فلعل ذلك يأتي بالفرج.

وهو نفس الموقف الذي اتخذه العربي حين نصحه البعض خلال تلك الأزمة المالية، التي كان يمر بها بتقليل عدد العمالة بالشركة لخفض النفقات، لكنه قام بإجراء معاكس، إذ زاد من حوافز العاملين لديه، والتوسع في مبيعات التقسيط لهم، مما دفع الكثيرين منهم لشراء منتجات الشركة وبيعها لجيرانهم وأقاربهم، الأمر الذي زاد من المبيعات لتعود الحركة والسيولة مرة أخرى للشركة.

وهذا محمد نجيب راغب صاحب شركة ملابس جاهزة بمنطقة الموسكي، ينصحه أحد أصدقائه خلال أزمة سيولة حادة مر بها كغيره من التجار خلال فترة كساد بالأسواق، بالتقليل من عدد العمالة لديه، إذ لا شيء يفعله هؤلاء وسط توقف المبيعات، وكان رده عليه: ” مين عارف دا رزق مين، ما يمكن ربنا بيرزقنى علشانهم ” ورفض التخلي عن أحد منهم.

وخلال طفولتي بقريتي الشعراء التابعة لمحافظة دمياط المشهورة بصناعة الأثاث، شاهدت كيف كان أصحاب ورش الأثاث من نجارة ودهانات وغيرها يقدمون أوجه الرعاية لأسر من يعملون لديهم، ففي الأعياد كانوا يشترون ملابس لأولادهم إضافة الى ما يسمى بالفطرة، وتشكل بلح جاف ومكسرات وكعك العيد، وبعيد الأضحى يشترون لهم اللحم، حتى في شم النسيم يشترون لهم الفسيخ كهدية من صاحب الورشة.

  ركود ما قبل كورونا عمق المشكلة  

ولا شك أن تلك الإسهامات من قبل رجال الأعمال مع العاملين لديهم تنعكس في زيادة معدلات الولاء لمكان العمل والحرص عليه، وفى هذا السياق ذكر محصل أتوبيس شركة محمد سالم، أن السائقين والمحصلين كانوا يعملون في الأعياد بشكل مستمر، حين كان يعمل على خط القاهرة الزقازيق.

فكلما وجدنا ركابا بالقاهرة قمنا برحلة للزقازيق، وكلما وجدنا ركابا بالزقازيق قمنا برحلة للقاهرة حتى تتوقف حركة الركاب بالمواقف، دون أن تطلب منا الشركة شيئا من ذلك، ويروى أن أحد الركاب طلب النزول بالطريق للتبول، لكنه قام بالهروب لعدم دفع الأجرة فتركت الأتوبيس وجريت وراءه في مزارع الأرز وسط الوحل، كي أعيد لصاحب الشركة القرش صاغ قيمة التذكرة.

ورغم كل ما سبق فإنما قاله رجل الأعمال رؤوف غبور رئيس إحدى مجموعات إنتاج وتجارة السيارات، من إنه يعتذر عن التبرع، له وجاهته إذ برر الرجل ذلك بأن الشركة مطالبة بدفع ملايين الجنيهات شهريا دون وجود إيرادات بسبب الكساد الذي يعم الأسواق، وكذلك عدم معرفة المدى الزمنى الذي ستستغرقه أزمة كورونا، وقال أيضا إن مكاسب رجال الأعمال لم تكن كبيرة قبل أزمة كورونا.

وهذا أمر صحيح بشهادة مؤشر مديري المشتريات الذي يعده بنك الإمارات دبى شهريا، والذى أشار لوجود ركود بالأسواق المصرية خلال الربع الأخير من العام الماضي، وهو الأمر الذى دفع البنك المركزي المصري للقيام بمبادراته للتيسير خلال النصف الأول من ديسمبر الماضي أي قبل ظهور كورونا، والتي شملت مبادرة للمتعثرين بالتنازل عن نصف المديونية، ومبادرة لإقراض الأنشطة الصناعية وأخرى للعقارية بقيمة فائدة أقل من السوق.

  تأخر بصرف ما تم خصمه مسبقا من الأجور

ولهذا يجب تفهم حرص رجال الأعمال على الإسراع بعودة عجلة النشاط الاقتصادي للدوران مع أخذ الاحتياطيات الصحية الكاملة، وبوجود طبيب بكل مصنع لمتابعة الحالة الصحية للعاملين، ومراعاة إجراءات التباعد الجسدي فيما بينهم وتقليل الكثافات بالعنابر وتعقيم العنابر ووسائل النقل بالشركات.

بل إن تلك الاجراءات الوقائية أفضل بكثير مما توفره شركات المقاولات الحكومية للعاملين لديها من ضمانات صحية، مع دعوة الحكومة المصرية لعودة النشاط بقطاع المقاولات بطاقته الكاملة، حيث لا تتوافر الشروط الصحية المناسبة بأماكن المبيت وأماكن تناول الطعام ووسائل الانتقال، بينما تستطيع الشركات الخاصة إيجاد ظروف عمل أفضل، حرصا على العاملين لديها وحرصا على سمعتها.

مع الأخذ في الاعتبار تضرر العاملين خاصة من العمالة غير المنتظمة من المكوث بالمنازل دون دخل، وهي العمالة التي يزيد عددها عن 15 مليون شخص، ولا يحظى غالبيتهم بتأمينات اجتماعية أو صحية تحميهم خلال فترة تفشى الوباء.

ولهذا لا يجب الوقوع في شرك إيقاع فتنة بين رجال الأعمال والعمال، فكلاهما جناحان للنشاط الاقتصادي ولن يستطيع الحركة إلا بوجودهما معا، ومصلحة كل منهما في التعاون مع الآخر، وتذكر أن القطاع الخاص يقوم بتشغيل غالب العمالة بمصر ، حيث يقوم بتشغيل ثلاثة أضعاف من تشغلهم الحكومة بجهازها الإداري وشركاتها ومؤسساتها .

كما أن تعثر بعض الأعمال وخروجهم من السوق سيعود بالضرر على العاملين لديهم، لذا يجب التفكير فى كيفية مساندتهم ضريبيا وتأمينيا ومصرفيا ومرافقيا حتى يعبروا أزمة كورونا غير المعروف مداها الزمنى، فحتى الحصول على جزء من الراتب خلال فترة التوقف الحالي يعد أفضل من التعثر التام لتلك الشركات .

بدلا من اللوم

وبدلا من تركيز اللوم على رجال الأعمال، علينا تذكر أن الجهات الرسمية لم تقم بواجبها تجاه تضرر العاملين من أزمة كورونا، رغم أنهم لن يكلفوا الحكومة شيئا، فهناك حساب بوزارة القوى العاملة يتضمن حصيلة تم اقتطاعها خلال السنوات الماضية ومنذ عام 2003 من خلال المقاولين والشركات، التي تقوم بتشغيل العمالة غير المنتظمة من أجور هؤلاء العاملين وتوريدها لذلك الحساب لإنفاقها على مساعدات وخدمات لتلك العمالة غير المنتظمة.

 وهناك صندوق بوزارة القوى العاملة أيضا منذ عام 2002 يتضمن اقتطاعات من أجور العاملين بالقطاعين العام والخاص المنظم، للصرف منها على العاملين فى أوقات التعطل الجزئي والكلى لتلك الشركات، فعلى تلك الصناديق صرف حقوق العاملين مما لديها من أموال في ظل تقاعسها عن القيام بدورها حتى الآن للتخفيف من معاناتهم واكتنازها تلك الأموال بلا رحمة.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه