اشتباك سياسي في السودان لإثبات حالة “كورونا”

 

منذ أن أصبح الدكتور “أكرم التوم” وزيراً اتحادياً للصحة في السودان بدا كما لو إن لديه هدفٍ وحيد، وهو نهش جثة “النظام المعزول” نظام البشير البائد، فقط لا أكثر، إذ باتت تؤرقه إلى حد ما أشباح ذلك النظام، وقد أفلح أيضاً في اعتقال الأضواء إلى جانبه، وكان الانطباع الأول بأنه شخصية عملية، أقرب إلى رفاقه الأطباء والمرضى في الأرياف البعيدة.

 لكنه ربما لم يتصور اطلاقاً أنه سوف يصبح الوزير الأكثر أهمية، في هذه المرحلة المعقدة، والمطلوب الأول بشدة كذلك لطمأنة القليل من السودانيين الذين يهتمون بصحتهم، في زمن “جائحة الكورونا” .

الخرطوم تتداعى

نهار الجمعة الماضية ظهر “أكرم التوم” وزير الصحة الاتحادي في مؤتمر صحفي، تأخر لأكثر من ثلاث ساعات، وتم الترتيب للمؤتمر على عجلٍ بعد أن ضربت له مواعيد مشوشة بتسريب خبر تفشي وباء العصر، إلى السودان. كانت الأجواء ملبدة بالغيوم، وفي تلك الساعة أصبحت الخرطوم أشبه بروما في أيامها الآخيرة، المدينة تتداعى والساسة يريدون أن يذهبوا إلى مسرح “الكولوسيوم”

تحدث الوزير كثيراً في ذلك المؤتمر حد أنه تبرع بالارشادت الطبية، وقال أنه ” لن يصافح أي مسؤول في الحكومة، ولن يسلم على الصحفيين” لتأكيد بيان مطلوبات الوقاية المعلومة بالضرورة، لكن أكثر ما تركه بعد ذلك، حالة من اللغط أعقبت الاعلان عن وفاة أول سوداني بـ”الكورونا” حيث اندلع الخوف وتفشي الخبر، وبرز سؤال “المليون دولار” : هل ثبت بالفعل أن المتوفي مُصاب بـ”الكورونا” أم أن الأمر لا يعدو أن يكون ضرب من الاستعجال للاستحواذ على أكبر قدر من الأضواء وتدفق المعونات الخارجية؟ خصوصاً وأن أسرة الراحل نفت حديث الوزير مرة واحدة، وفاقمت الشكوك من جانب أخر !

حالة جدل معملية

في ما يخص تفاصيل قصة الحالة الأكثر جدلاً الأن في بلاد النيلين، قال الوزير أنهم تعرفوا على حالة المريض، وأن المصاب في الخمسينيات من العمر، توفي يوم أمس، أي قبل يوم من نهارات الجمعة الحزينة، التي أطل فيها الوزير على الشعب السوداني، قائلاً : ” لقد تم عمل فحص أول، لكن سرعان ما تدهورت حالة المريض، وتم التواصل مع جهات الاختصاص وإدخاله إلى عنبر العزل بمستشفى الخرطوم، وقدمت له الرعاية الخدمة الصحية، بعدها ظهرت العينات سلبية، وتدهورت حالة المريض، الذي تردد على عدد من المستشفيات مع أسرته إلى أن توفي بمستشفى خاص بالخرطوم” وقال إن وزارة الصحة تواصلت مع أسرة المتوفى وتم أخذ عينات من الجثمان وتقديم إرشادات للأسرة، لافتاً إلى أن الفحص استمر حتى ليل الخميس، وأظهرت الفحوصات أن سبب الوفاة فيروس كورونا، وذهب إلى أن فرق العمل باشرت تحضير عنبر الإيواء لإدخال الأسرة. وهو الأمر الذي نفته أسرة الراحل، بعد ساعات قليلة من رصد أول حالة قِبل الوزارة، وقال شقيقه أن المشار إليه لم يتوفى بمرض الكورونا، وليس هنالك أي حجر صحي تم لمنزل الأسرة، أو عيات أخذت منهم، وانهم قد رفعوا العزاء مساء الجمعة بصورة عادية .

من المهم الإشارة إلى أن الوزير لم يقل أنه تم حجر الأسرة، كما أن الراحل مر بخمسة مستشفيات لم تتخذ أغلبها التحوطات اللازمة بعد تفشي الخبر وهى ” الجودة، فيصل، الراقي، يستبشرون، سوبا”  بل أن مستشفى يستبشرون، يملكه وزير الصحة الأسبق “مامون حميدة” الذي كان معتقلاً بتهمة الانتماء للنظام السابق،  أصدرت بياناً قالت فيه أن المريض حضر إلى السودان قادماً من الإمارات في الرابع من مارس الجاري، وتساءلت إدارة المستشفى” لماذا لم يتم حجر المريض بالصورة العلمية؟ وهل من المعقول أن كل من يعملون في وزارة الصحة لم تصلهم معلومة ان الحجر الصحي للحالة المشتبه بها 14 يوماً وليس أقل من يوم كما تفضل مركز الوزارة المعني بالأمر؟ ومضت المستشفى في “توليد التساؤلات” : لماذا لم تحضر الوزارة أو منسوبيها  الينا لتقصي الحقائق وأخذ عينات مباشرة أخرى للتأكد؟ كما تساءلت عن صحة “العينة” التي جعلت من بلادنا دولة “كورونية” سيما وأنه بعد الوفاة لم يتم أخذ عينة لتأكيد الحالة، وفقاً لبيان المستشفى ؟

بالعودة لحالة المريض الذي أغمض جفونه للمرة الأخيرة نهار الخميس، لم تتوقف الشائعات رغم أنه لم تظهر حالات أخرى رسمية حتى منتصف مطلع هذا الأسبوع، فيما تراوحت ردود الأفعال، بين مصدق ومكذب لغاشية “الكورونا” وكان صوت أسرة الفقيد هو الأعلى، حيث هدد شقيقه بمقاضاة الوزارة، ورشحت معلومات عن تفاصيل أمراض كانت تلازم “المرحوم” لم يتعافى منها، إذ ألمت به وعكة، فذهبت به الأسرة إلى مستشفى “الجودة” جنوب الخرطوم، وبعدها تم تحويله إلى مستشفى الخرطوم، وحُجر عليه لمدة يوم واحد عقب عمل الفحوصات اللازمة المرتبطة بفايروس كوفيد ١٩ فجاءت سلبية، كما تم تشخيص الحالة بأنها التهاب رئوي لا يستدع الملاحظة الطبية .

تحوطات رغم التقصير

ولاية كسلا، شرق السودان، أيضاً دخلت على خط الأزمة، وكشفت وزارة الصحة هنالك عن خارطة تحركات الراحل وأسرته، وذلك بعد أن تم تبليغ الوزارة أن زوجة المتوفي تمتد أصولها إلى كسلا، فتم توجيه فريق لتقصي الحقائق، خلص إلى أن الحالة المعنية لم تظهر عليها أعراض واضحة حتى السادس من مارس الجاري، وأنه تم أخذ عدد “3” عينات للمتوفي، 2 منها سالبة قبل الوفاة، وواحدة موجبة بعد الوفاة.

 كما قام فريق كسلا الصحي بتنوير الأسرة عن كيفية اتباع اجراءات السلامة للمخالطين، وأفادت صحة كسلا أنه لم تظهر أي أعراض أو علامات للزوجة حسب إفادة شقيقها، وقالت أنها ستقوم باتخاذ الاجراءات الصحية اللازمة للحد من تفشي المرض، وأنها بالفعل قامت بتجهيز مركز عزل في حالة ظهور أي أعراض أو علامات للمخالطين، فيما أصدر القطاع الصحي بالمؤتمر الشعبي المعارض بياناً حول إعلان الكورونا في السودان، انطلق البيان من نفي مستشفى “يستبشرون” لصحة الحالة الموجبة، ونبه الشعبي إلى أنه قام بزيارة للمستشفى التي حدثت فيها الوفاة، لكنهم فوجئوا بأن العمل يسير فيهة بصورة طبيعية لم يتم عزل لأي جزء منها، بل لم تزرها وزارة الصحة، كما أن الطاقم المعالج لم يتم عزل أحد منه.

ولم يفوت “المؤتمر الشعبي” هو فرصة التشكيك في الحالة، مطالباً بتحري “المصداقية و المهنية و الدقة في اتخاذ القرارات التي تجلب الضرر للبلاد” . لكن وزارة الصحة الاتحادية في السودان عادت يوم السبت برواية تفصيلية، أكدت فيها أنها بعد وفاة المرحوم وبموافقة أسرته تم أخذ عينة أخرى ( بالمنزل) وتم فحصها بواسطة خبير فيروسات بالمعمل القومي للصحة العامة بغرض التحقق وكانت النتيجة موجبة لفيروس كرونا المستجد .

هنا يتضح أن حالة المريض تحولت إلى حالة اشتباك سياسي، كل يريد أن يثبت وجاهة منطقه، لم الشعب السوداني بدا مثل “الأطرش في الزفة” لا يعرف بالضبط حقيقة ما يجري، وربما كان ضحية أيضاً لتضارب التصريحات، أو على حو أكثر دقة، ضحية لتسيس “الكورونا” رغم أن الحكومة السودانية إتخذت جملة اجراءات احترازية لمنع تفشي المرض، وهى احترازات دعائية في المقام الأول، لأن القطاع الصحي في البلاد شبه مُنهَار .

ضبط الأزمات لا حلها 

الشارع أيضاً التقط خلاصات مؤتمر الوزير “أكرم التوم” بمزيد من الاهتمام والحرص، حد ارتفاع أسعار “الكمامات” وأدوات التعقيم في الصيدليات، والبحث عن أماكن ذهب إليها “ضحية الكورونا” الوحيد حتى الأن في السودان لتجنبها، لكن أكثر الناس بدا غير عابئاً بما يجري، حتى في ظل التحوطات الرسمية.

 فتوالت الشكوك خلال الساعات الماضية شيئاً فشيئاً، بأن في الأمر مبالغة تقريباً، سيما ولم تثبت حالة جديدة بعد، بشكل جعل وزير الصحة، رجل الدفة المطلوب حالياً، بين جنة الذين ينظرون إليه كترياق للكورونا القاتلة، ومن يرون أن الرجل يخلط الطب بالسياسة، إلى درجو أنه استهزأ بالكورونا أول الأمر، ووصفها بالصغيرة مقارنة بالانتصار على حكومة عمر البشير!

بالمرة الاتهامات لم تنقطع تلاحق الوزير السوداني، بأنه يعلن عن الأوبئة من باب الاحتفاء بها، ويبدو عاجزاً عن مكافحتها في الوقت نفسه، وهو بذلك كمن يعمل على إعادة إنتاج منهجية سياسية قديمة تتعلق بضبط الأزمات لا حلها .

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه