رحيل مبارك والقابلية للاستعباد

 

كان حسني مبارك حاكما مستبدا، أسقطه الشعب، بعد ثلاثة عقود مليئة بالخطايا والجرائم السياسية، لكن ومع هذا فإنه بعد خلعه وإبعاده عن الحكم لم يعد له أهمية، ولم ينشغل المصريون كثيرا بإدانته أو تبرئته في القضايا الهامشية التي اختاروها له لامتصاص الغضب الشعبي.

لم يتقبل المصريون حملة التنزيه والمديح التي انطلقت لإضفاء التمجيد على أفعال مبارك بعد وفاته؛ فلا يمكن تجاهل سياساته التي أضرت بمصر والعرب والمسلمين، فأعماله لا يمكن محوها ونسيانها، خاصة أن عواقبها وخيمة وليست شخصية، وهي التي جنت عليه في النهاية.

إن تشييع مبارك في جنازة عسكرية باهتة حضرها لفيف من كبار المسئولين لن تضيف له شيئا، كما أن تشييع الرئيس المظلوم محمد مرسي بالليل سرا لن تنقص منه شيئا، وإذا كانت النياشين لها قيمة في الحياة عند البشر فإنها بلا قيمة عند رب البشر، ولن ينفع مبارك ومرسي غير أعمالهما.

 لن ينسنا الجدل الذي صاحب وفاة مبارك أهم نتائج ثورة 25 يناير عام 2011 وهي أن الشعب المصري يستطيع الإطاحة بالرئيس المستبد الذي لا يحترم شعبه، وأن المنصب لا يدوم لأحد مهما ظن أنه متمكنا ويملك جيوشا من الأجهزة التي تعمل لخدمته وتأمينه.

لقد تمت الإطاحة بحسني مبارك في اللحظة التي كان فيها مطمئنا وأن الدنيا قد دانت له، وظن أنه يستطيع توريث الحكم لابنه لتستمر السلطة في العائلة كما يفعل الملوك، وتحويل الجمهورية إلى ملكية، لكن جاءت نهاية حكمه من حيث كان يستقوي، حيث تخلى عنه جيشه وتركه يسقط أمام الجماهير التي كفرت بسياساته.

قصة مبارك كلها عبر تستحق التأمل، ولست هنا في موضع الحديث عن مصيره في الآخرة فهذا في علم الله، فنحن لا نستطيع الحكم على أحد بالجنة أو النار، فمصيره إلى الله الذي سيحاسبه بعدله، وعند الله تجتمع الخصوم، ويقضي في المظالم التي لا تسقط بالتقادم أو بالوفاة.

خطايا مبارك

عند مقارنة عهد مبارك بالعهد الحالي فإن المقارنة لصالح مبارك، وهذا ما جعل البعض يتعاطف معه، ويقولون إنه ممن حاربوا في أكتوبر، ولم يبع الجزر ولم يفرط في نهر النيل ولم يتورط مع الإسرائيليين على النحو الذي نراه الآن، ولم يقبل بتغيير العقيدة القتالية المصرية، ولم يحدث في عهده انهيار الاقتصاد وشيوع الفقر، وهذا صحيح لكن المقارنة ليست هي أداة التقييم؛ فسياساته الفاسدة هي التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه.

قائمة الخطايا كثيرة لكن سأتناول منها ثلاثا، أولها وأخطرها تشجيع التطبيع مع إسرائيل وكسر حالة العداء العربي للكيان الصهيوني، ففي القضية الفلسطينية حول مبارك مصر من طرف أصيل في المواجهة إلى وسيط، وقاد جهدا كبيرا لجلب باقي حكام العرب للمائدة الإسرائيليية، وباع الغاز المصري لـ “إسرائيل” بأسعار مدعومة، وقام بتوطيد التطبيع على المستوى المحلي فعين الدكتور يوسف والي أحد أعوان إسرائيل في مصر وزيرا للزراعة وأمينا عاما للحزب الحاكم.

لقد قام يوسف والي بدعم وتأييد مبارك بتدمير صحة المصريين، بما يفوق خسائر القصف بقنبلة نووية، فالزراعة تم إفسادها بالبذور الإسرائيلية المهرمنة والمعالجة بالهندسة الوراثية، وأدخل المبيدات والمسرطنات التي نشرت الأمراض الفتاكة بين المصريين وأصبح السرطان والفشل الكلوي وتلف الكبد في كل بيت تقريبا.

ومن خطايا مبارك التفريط في قلاعنا الصناعية وتسليم صندوق النقد إدارة الاقتصاد وبيع القطاع العام الذي بدأ في التسعينيات، وبسببه تم تخريب المصانع والشركات عن عمد؛ لتبرير عمليات البيع والتصفية، وكانت الإضرابات العمالية من أسباب الاحتقان في سنواته الأخيرة قبل ثورة يناير.

كانت أخطر الخطايا هي قبول مبارك الانخراط في الخطة الأمريكية لمواجهة الإسلام باسم “مكافحة الإرهاب”، فضغط على دول الخليج لوقف تمويل المشروعات الخيرية الإسلامية في دول الغرب وأفريقيا، وتبني إجراءات قمعية ضد الحركات الإسلامية في مصر، فاعتقل الآلاف وأعدم العشرات وحاكم المدنيين أمام المحاكم العسكرية.

استغل مبارك دعاوى مكافحة الإرهاب لتبرير السياسات الاستبدادية واعتقال المعارضين وضربهم في الشوارع، وقتلهم في السجون، والتصفيات الجسدية، والحكم بقوانين الطواريء، وتشجيع التعذيب وحماية من يقومون به، حتى إن تحديد يوم 25 يناير كان بسبب فعالية نظمها نشطاء حقوق الانسان ضد التعذيب أمام مقر مباحث أمن الدولة بلاظوغلي، وقد توافق السياسيون على أن تكون هذه التظاهرة هي شرارة بداية الثورة.

جريدة الشعب وقصف الأقلام

مما قيل هذا الأسبوع في مدح مبارك أنه لم يقصف قلما، وهذا كذب صريح، فهو الذي أغلق جريدة الشعب وشرد صحفييها والعاملين بها، وقصف أقلام كتابها بعد أن حبس العديد منهم بمحاكمات غابت عنها العدالة، وبالحبس الاحتياطي.

لقد حاكمت جريدة الشعب حسني مبارك في حينه، وقدمت المستندات والوثائق وأدلة الاتهام أمام الرأي العام، وكان للحملات الصحفية والمعارك القانونية أمام المحاكم دورها في التهيئة لثورة يناير.

محاكمة عصر مبارك أواخر الثمانينيات وفي التسعينيات كانت تتم على صفحات جريدة الشعب التي كانت أبرز صحف المعارضة، واستطاع المفكر الكبير عادل حسين بدعم رئيس الحزب المهندس إبراهيم شكري رحمهما الله خوض الكثير من المعارك الصحفية ضد سياسات الحكم، ونجحت الجريدة في الإطاحة بمسئولين كبار ووزراء مثل زكي بدر وحسن الألفي وفتحت الملفات الشائكة.

تصدت “الشعب” للتطبيع ولجرائم يوسف والي، ووقفت ضد بيع القطاع العام وتبديد أصول الدولة، وبسبب هذه الحملات دخل عدد من صحفيي الجريدة السجن مثل مجدي حسين وصلاح بديوي ومحمد هلال وعصام حنفي وصدرت أحكام بالغرامة ضد آخرين، وكان القضاء يتعرض لضغوط لحماية يوسف والي وإدانة الصحفيين.

واقعة رمزية توضح المناخ العام داخل المحاكم في عهد مبارك حكاها المستشار محمود مكي بعد الثورة وكنا لا نفهمها في حينها، فقد صدر حكم لصالح يوسف والي ضد الزميل صلاح بديوي في محكمة بالإسكندرية بالغرامة بينما تدين الحيثيات وزير الزراعة وتدين دوره في إدخال المسرطنات والمبيدات القاتلة! وقد فسر محمود مكي الذي كان رئيس هذه المحكمة أنه أصدر حكما مخففا بالغرامة ولم يحكم بالبراءة الواجبة حتى لا يلغي التفتيش القضائي الحكم ويعيد القضية أمام دائرة أخرى لإدانة الصحفي!

لكن تظل حماية مبارك لوزير الثقافة فاروق حسني من النقاط السوداء في تاريخه، وهو الذي بدأ مع بداية الألفية ينشر الكتب والروايات التي تطعن في الإسلام، وتتطاول على عقيدة الشعب، على نفقة الدولة، ولم يتبرأ منها مبارك حتى وفاته، وكانت سببا في صدامه مع جريدة الشعب وإغلاقها.

بعد المقال الشهير للدكتور محمد عباس عن رواية مسيئة اسمها “وليمة لأعشاب البحر” خرجت المظاهرات من جامعة الأزهر، استمرت لأيام، وعجزت السلطة عن إخمادها، وحدث انشقاق داخل دوائر الحكم وانقسمت الدولة، فلم يتراجع مبارك، وأصر على حماية وزير الثقافة، وقرر إغلاق جريدة الشعب في مايو 2000 وتجميد حزب العمل الذي يصدرها.

وقد مات عادل حسين وإبراهيم شكري حزنا وكمدا بسبب رفض حسني مبارك تنفيذ الأحكام القضائية بعودة صدور “الشعب” حتى تم خلعه.

قوة الشعب وضعف المستبد

ثورة يناير لم تكن مجرد انتفاضة عشوائية، وإنما كانت انفجارا شعبيا لبركان من الغضب نتيجة الفساد والسياسات المدمرة التي جعلت المصريين يقررون الإطاحة بحسني مبارك فور نجاح الثورة التونسية وهروب زين العابدين بن علي.

لقد اقتنع المصريون أن عزل الحاكم ممكن بالثورة الشعبية، وشجع نجاح ثورة البوعزيزي الشعب المصري للخروج على مبارك، حيث تتشابه الأسباب والدوافع في تونس ومصر، ففي كلا البلدين يعاني الشعب من القمع الأمني والفساد وسياسة الإفقار والخصخصة والانهيار الأخلاقي.

نجحت الثورة المصرية في الجزء الأول وهو إسقاط مبارك ولكنها فشلت في الجزء الثاني وهو تشكيل نظام حكم جديد قائم على الاختيار الشعبي عبر الصندوق الانتخابي، فتنازل الرئيس المخلوع عن السلطة ، ليتسلمها المجلس العسكري  ويمسك بزمام المبادرة.

كانت قوة الشعب جارفة يصعب مواجهتها، فتم استبعاد صلاح أبو إسماعيل وخيرت الشاطر وعمر سليمان الذي تم اغتياله فيما بعد، وأجريت الانتخابات الرئاسية بالإكراه واستطاع الشعب توصيل الدكتور محمد مرسي رحمه الله إلى القصر الرئاسي.

قبل جلوس الرئيس مرسي على الكرسي تم حل مجلس النواب حتى يسهل حصاره والانقلاب عليه، وكان واضحا أن أطرافا داخلية وخارجية تعمل لفتح الطريق لعبد الفتاح السيسي، لكن كانت الطعنات من قوى سياسية ترفع شعار المدنية والليبرالية رافضة للصندوق الانتخابي هي الأشد ضراوة في تفكيك القوة الشعبية، وأجهاض التجربة قبل أن تكتمل.

***

اليوم بعد وفاة حسني مبارك يحاول البعض إشاعة انطباع بأن الثورة كانت مؤامرة وقد فشلت، وأن الثوار أخطأوا عندما طالبوا بخلع رئيسهم، وبالتالي على الشعب أن يقبل بالواقع الموجود، ويستسلم ولا يكرر أخطاء يناير، ولا يفكر أحد في التغيير مرة أخرى!

فليستفد المصريون من أخطاء الماضي وليكن الهدف هو استعادة الشعب لحقه في اختيار حاكمه بإرادته الحرة، وعدم تقديس الحاكم لأنه بشر يخطيء ويصيب، وهذا لن يكون إلا بعد رفض الاستبداد وإدانة المستبدين، والتخلص من عقدة القابلية للاستعباد.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه