“الشيشة” وليس “المسجد” هدف اليمين المتطرف في ألمانيا!

مسكين هذا الإنسان العربي المغترب، فهو يخاف أن يمارس معتقده في المسجد فيقتل، والآن أصبح مهدداً إذا ذهب للترويح عن نفسه في مقاهي الشيشة

 

لم يعد هناك أدنى شك، بعد موقعة ” الشيشة” التي جرت وقائعها مساء التاسع عشر من فبراير/شباط الحالي، في أن اليمين المتطرف أصبح أمرا واقعا لا مفر منه اليوم في الساحة الألمانية. لم تكن رصاصات الغدر التي أطلقها عنصري ألماني متطرف إلا نذير شؤم يذّكر بعودة النازية التي انتهت بنهاية الحرب العالمية الثانية قبل 75 عاما.

تسعة أرواح بريئة راحت بسبب هذا الاعتداء الذي وصفته الشرطة بأنه حادث عنصري، وأكدت أن القاتل له منشورات على الإنترنت تحرض على الأجانب وضرورة التخلص منهم.  

ليس هذا حدثا جديدا ولا مختلفا هنا، فقد شهدت ألمانيا في السنوات الأخيرة تصاعد وتيرة الأعمال العدائية ضد الأجانب بشكل منهجي، زاد من حدتها فتح أبواب اللجوء للسوريين سنة 2015. في وقت لم تتوقف فيه الماكينة الإعلامية المناهضة للأجانب عن بث الكراهية والخوف منهم.  ولا نعرات السياسيين الشعبويين توقفت عن التسخين ضد الأقليات العرقية خاصة المسلمين والعرب في ألمانيا.

وهنا يبرز سؤال عن مدي تغلغل العنصرية في المجتمع الألماني ومستقبل ألمانيا في ظل تلك الظاهرة البغيضة؟

قبل عدة سنوات قتلت خلية سرية تتكون من متطرفين ألمان أطلق عليها خلية” تسفيكاو” النازية ثمانية أتراك ويوناني وشرطية ألمانية في الفترة من سنة 2000 إلى سنة 2007، ولم يكتشف أمرها في حينه، وكانت من الخطورة الشديدة التي أظهرت مدى تغلغل اليمين في بعض القطاعات الحساسة في الدولة عندما أظهرت التحقيقات أن هناك تعاونا بين عاملين في أجهزة حساسة وأعضاء الخلية، وذلك بهدف غض النظر عن مرتكبي الجرائم العنصرية التي ارتكبها أعضاء في الخلية.

منذ استحداث ظاهرة الإسلاموفوبيا بعد أحداث 11 سبتمبر، بدأت الأحزاب اليمينية الألمانية في استغلالها بشكل جعلها تخلع رداء السرية والخجل وتعلن عن أهدافها المعادية للأقليات في العلن، وسارت في ذلك بشكل منهجي ساعدها في ذلك صعود اليمين المتطرف في كل أوربا، والحوادث التي ارتكبها مسلمون في أنحاء متفرقة من العالم.

اليمين واقعا

عندئذ وصلت الأحزاب اليمينية  إلى الكثير من برلمانات أوربا،  وفي ألمانيا حقق حزب البديل نتائج طيبة بحصوله على 49 مقعدا في البوندستاج،  وأصبح رقما واقعيا في السياسة الألمانية،  حتي أنه قبل أيام قليلة أيضا حصل على النسبة الأكبر في انتخابات برلمان ولاية “تورنجين”  وفجر فضيحة كبرى، عندما تحالف مع الحزب المسيحي الديمقراطي حزب المستشارة ميركل لتزكية رئيس وزراء للولاية، فيما اعتبر مخالفة كبيرة لقانون الأحزاب الألمانية التي تمنع  التحالف مع الحزب النازي،  وكان من نتيجتها استقالة كارينباور من رئاسة الحزب المسيحي الديمقراطي خليفة ميركل ووزيرة الدفاع،  لكن الدرس الذي خرج به المراقبون من ذلك الحدث هو أن أحزاب اليمين المتطرف، لاسيما البديل، أصبحت قاب قوسين أو أدني من  المشاركة الحقيقة في رسم السياسة الألمانية عن طريق النجاحات التي تحققها في الانتخابات استغلالا لظاهرة العداء ضد الأجانب،  حتي أن  استبيانا للرأي ظهر أخيرا يرى فيه أغلبية  الألمان  أن اليمين المتطرف سيتمكن من المشاركة في الحكم سنة  2030 .

تتفاوت حدة العنصرية في ألمانيا بين ولايات الشرق والغرب، فالشرق يفوق الغرب بنسبة 10 مرات في العنصرية، ومعظم حوادث الكراهية تقع في ولايات الشرق، وهي المكان المفضل لتظاهرات حركة بيجيدا العنصرية المناهضة للمسلمين في ألمانيا، وفيها أيضا تحقق أحزاب اليمين المتطرف أفضل النتائج لاسيما حزب البديل.

كل الدوافع وراء عمليات القتل والتفجيرات هي الكره للأجانب أو من يصنف في نظر النازيين الجدد” كأجنبي”. وعلى رأس هؤلاء العرب والمسلمون والأتراك والأكراد واليهود وغيرهم، وكثيرا ما اكتشفت الشرطة بحوزة أعضاء الخلايا التي يتم ضبطها قوائم بأسماء عشرات الأشخاص مع عناوينهم وأرقام هواتفهم، وأغلبيتهم من الألمان الذين ينتمون لكافة تيارات المجتمع الألماني وسبق أن عملوا أو كانت لهم مواقف ما ضد اليمين الألماني المتطرف.

في العام 2018 ذكرت إحصائية رسمية صدرت من وزارة الداخلية الألمانية أن جرائم العنصرية ضد اللاجئين في النصف الأول من عام 2018، زادت بشكل كبير ووصلت إلى 700 حالة.

أيضا أفاد استطلاع أجرته مؤسسة” فورسا” في أبريل من العام الماضي، أن نصف الألمان تقريبا 49% يرفضون فكرة الهجرة إلى ألمانيا، ويجب أن تتوقف نهائيا، في حين أن 38% يعتقدون أن” الإسلام “يشكل تهديداً لقيم المجتمع الألماني التي تنتهج الديمقراطية بغض النظر عن المعتقدات.

إن أكثر الأشياء التي تثير حنق الألمان هو اعتماد بعض الأجانب على المساعدات التي تقدمها الدولة دون البحث عن عمل أو اللجوء إلى إنجاب الكثير من الأطفال للحصول على إعانات سخية تكفل لهم العيش من دون عمل، لذلك نجد أن نسبة 87 % من الألمان، يطالبون الأجانب بضرورة الاندماج في المجتمع الألماني، وتعلم الألمانية، وإيجاد عمل، ودفع الضرائب، لهذا ليس غريبا إذن أن نجد أن ثلث الألمان تقريبا يؤيدون الشعارات العنصرية ضد الأجانب.

المستشارة الألمانية في كلمتها المقتضبة عن الحادث سمت الأمور بمسمياتها الحقيقية، فقالت إن العنصرية “سم” وأن الكراهية “سم”. وقال الرئيس الألماني إنه مع الأقليات ضد التطرف والعنف، ومع أن البعض مازال يرى في نبرة السياسيين هدوءا لا يتوافق مع جسامة الحدث، فإنه يجب الأخذ في الاعتبار أن أحد أهم الأشياء التي تخيف السياسيين الألمان هو الصورة السلبية لألمانيا في الخارج، خاصة وأن هناك من لا يزال يرى ألمانيا فقط من خلال ماضيها النازي.

رفض ثقافة الشيشية:

قد يسأل أحد ما ولماذا هذه المرة تم الاعتداء على قهوة شيشة وليس على مسجد؟

قد يكون ذلك مقصودا، فالمسجد دار للعبادة والاعتداء عليه يكون بسبب كره المعتقد، أما هذه المرة فالإرهابي أراد أن يعطي إشارة لرفض الثقافة الدخيلة والتي بدأت تغزو ألمانيا، ومقاهي الشيشة أصبحت تجمعا للقاءات الشباب، وهي ليست مكانا فقط للعرب والمسلمين، إنما كثيرون من الألمان المراهقين يرتادون مقاهي الشيشة أيضا، ويلفت النظر ما أتى على لسان المهاجم من أن هناك عرقيات في ألمانيا تصعب عودتهم إلى بلادهم، لذلك تجب إبادتهم هنا!

الغريب أن الشيشة أنعشت تجارة التبغ في ألمانيا بعد ركود طويل، وإفلاس العديد من مزارع التبغ إثر وقف الاتحاد الأوربي دعمها له عام 2009، لكنها عادت لتزدهر بفضل الاستهلاك القوي للتبغ في المقاهي العربية والتركية التي تقدم الشيشة، فهي تشتري أكثر من 96 في المئة من الإنتاج. ويتراوح ثمن الكيلو من 3 إلى 5 يوروات، وأشهر الولايات التي تزرع التبغ هي بافاريا، ويشتهر ورق التبغ الألماني بالقليل من النيكوتين والكثير من السكر.

ومن المعروف أيضا أن مقاهي الشيشة تخضع للتفتيش وقياس نسبة غاز أول أكسيد الكربون الناتج عن حرق الفحم، والذي إذا زادت نسبته عن الحد المعروف يسبب التسمم، وقد وقعت عدة حوادث تسمم ألحقت الضرر بسمعة المقاهي العربية التي أصبحت خلال السنوات الأخيرة القِبلة المفضلة للشباب في المدن الكبرى. لذلك تتم مراقبة مراكز التهوية بالمقاهي بشكل دائم.

في النهاية مسكين هذا الإنسان العربي المغترب، فهو يخاف أن يمارس معتقده في المسجد فيقتل، والآن أصبح مهدداً إذا ذهب للترويح عن نفسه في مقاهي الشيشة، وإذا فكر في الابتعاد عن ألمانيا والذهاب في إجازة إلى أرض الوطن قد يقبض عليه بسبب أرائه السياسية، فما عليه إذن إلا البقاء في المنزل، وعندها ستطالبه السلطات الألمانية بالخروج من العزلة وضرورة الاندماج في المجتمع!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه