العراق بين ثوابت ومتغيرات دوائر الصراع

 

تفرض دوائر الصراع السياسية والميدانية المتفاوتة بحجم تأثيرها على المشهد العراقي، جملة متغيرات على حساب الثوابت التي تكاد تنحصر في الدائرة الأمريكية التي مازالت تدفع وتزيد من قوة الضغط وبأشكال وصيغ مختلفة على مجمل أطراف الصراع.

استراتيجيا تبقى مساحة النظر الأمريكي مفتوحة وثابتة الى أهدافها الاستراتيجية البعيدة في التعامل مع المعطيات على الساحة العراقية. فهي تحاول الضغط على الحكومة العراقية المنتظر ولادتها بشكلها الجديد بعد تكليف محمد توفيق علاوي رئاسة الحكومة على نهج ما كانت تتبعه مع سابقاتها من الحكومات التي تأسست بعد الاحتلال عام 2003. الأمر لا يختلف من حيث طبيعة مجيء هذه الحكومة من غيرها.

أدوات ضغط:

حماية المصالح الأمريكية والإبقاء على القواعد العسكرية ومحاربة الإرهاب وملفات الفساد وتحريك ملف انتهاكات حقوق الإنسان ومحاكمة قتلة المتظاهرين من قبل بعض الأحزاب النافذة وقادة الميليشيات العاملة خارج القانون وملفات الاقتصاد والديون العراقية وغيرها. كلها أدوات ضغط ماتزال تلوح بها أمريكا مع كل منعطف من منعطفات الحالة العراقية. وبذلك لا تسمح الولايات المتحدة الأمريكية بقبول حكومة خارجة عن طبيعة تخادمها المطلق مع الأهداف الأمريكية لتبقى مساحة التغييرات التكتيكية الجزئية متاحة على سبيل المناورة والتضليل.

تبدو الولايات المتحدة غير ناظرة الى طبيعة وأداء الأحزاب الحاكمة في العراق من حيث خلفياتها السياسية والفكرية على خلاف ما ينظر إليه البعض بعد أن فشل الجميع في أدائه الحكومي سواء الأحزاب بالنكهة الدينية أو القومية أو اللبرالية أو الطائفية. ما دامت الحالة العراقية توفر لمتخذ القرار الأمريكي مساحة المرونة والتحرك في المنطقة عبر البوابة العراقية لحسم ملفات أبعد من حدود العراق.

بالمقابل تحاول الأحزاب السياسية أو الطبقة العراقية الحاكمة التي استأثرت بالحصص والمكاسب التي وفرت لها أجواء البقاء في دائرة السلطة على مدار 17 عاما، تحاول الدفاع والالتفاف حول أهداف بقائها باي ثمن كان وقد أجادت قواعد اللعبة الانتهازية على حساب الشعب العراقي. وتحاول مع المنعطف الجديد الالتفاف مرة أخرى على تشكيل الحكومة المنتظرة من قبل السيد محمد توفيق علاوي الذي يجد نفسه محاطا بالكتل السياسية نفسها التي ما زال الشارع العراقي منتفضا ضدها. الأمر الذي يفسر طلب رئيس الوزراء المكلف من الكتل السياسية دعماً غير مشروط لحكومته المرتقبة، متعهداً في الوقت ذاته بتهدئة التظاهرات التي تشهدها البلاد منذ أكتوبر الماضي، ومحذرا من أن فشل الحكومة يعني فشل النظام السياسي العراقي بعد 2003 بالكامل. الأمر الذي يراه باباً مفضيا الى مزيد من التدخل الخارجي في العراق في جو من الانقسامات بين الكتل السياسية بشأن الحقائب الوزارية.

مطالب الأكراد:

ربما تعطي زيارة رئيس البرلمان العراقي لإقليم كردستان ولقاء مسعود برزاني ملمحا لشكل وطبيعة اختيار الحكومة المقبلة مع مطالب الأكراد بأن تحافظ الحكومة الجديدة على النسبة التي حصل الأكراد عليها من خلال انتخابات عام 2018 مع مراعاة الأوضاع الدستورية التي تخدم الإقليم دون مساس مع التذكير بخصوصية إقليم كردستان وطبيعة علاقاته وتفاعلاته الإقليمية والدولية. هذا الأمر جاء منسجما مع الرغبة الأمريكية بهذا الشأن. ولا يخفى الدور الأمريكي في شمال العراق حيث المثلث العراقي السوري التركي والقضايا لا تنفصل عن بعضها إذ تفرض عناصر وطبيعة الصراع مشتركاتها في هذا المثلث الملتهب.

تحاول أيضا الأحزاب السنية التذكير بان مستحقات إعادة بناء المدن التي هدمتها الحرب على الإرهاب يجب أن تكون حاضرة في منهج وحسابات الحكومة المقبلة. مع المحافظة على مكتسبات انتخابات 2018. يضاف الى ذلك طرح موضوع تأجيل قرار انسحاب القوات الأمريكية من العراق الى ظروف أكثر مناسبة على خلفية القلق من استئثار إيران وأحزابها وميليشياتها على الساحة العراقية الممتد تواصلها الطبيعي وأثرها باتجاه الأراضي السورية مرورا بالجغرافيا السنية بحسب التوزيع السياسي الذي انتهجته الأحزاب والطبقة السياسية الفاسدة.

على طرف مهم تبدو المتغيرات أكثر تعقيدا في طبيعة موقف وأداء وتفاعل الأحزاب الشيعية المعنية أكثر بتوازنات الحكومة واختيارات المكلف محمد توفيق علاوي. حيث تنظر تلك الأحزاب والكتل السياسية الى الحكومة وطبيعة التغيير الجديد الذي جاء من خلال انتفاضة شعبية للمكون الشيعي. أي القاعدة نفسها التي أوصلتهم الى سدة الحكم. وهنا يأتي عامل التعقيد والتشتيت حيث مازالت ساحة التحرير وملحقاتها في بغداد مشتعلة تساندها وتشترك معها اغلب محافظات وسط وجنوب العراق التي تشعر بأن التغيير الحاصل لم يكن مناسبا للفعل الثوري. فثمة متغيرات لا تعدو كونها ذرا للرماد في العيون تجاه المطالب الحقيقية المتضمنة محاربة الفساد وتغيير الطبقة الحاكمة وتنظيم قانون انتخابي جديد ومحاكة قتلة المتظاهرين المدنيين السلميين.

الأحزاب الشيعية داخل الدائرة:

ومن بين تلك الإرهاصات والتداخلات المعقدة تحاول الأحزاب الشيعية عموما البقاء في دائرة المكاسب التي تحققت لهم بعد الاحتلال. فمرة تجد خطاب الأحزاب مدافعا عن الحراك لاتقاء ارتفاع نبرة الغضب الشعبي. ومرة أخرى تجد الأحزاب والميلشيا التابعة لها بمواجهة مسلحة ضد الحراك الشعبي السلمي. وما يزيد قلق تلك الأحزاب هو مجموع وسائل التهديد الأمريكي لهذه الأحزاب وجهات دعمها متمثلة بإيران حيث تداخلت خطوط الصراع على النفوذ بين واشنطن وطهران ما جعل تلك الأحزاب التي حملت ثنائية الميل بين الاتجاهين، عاجزة اليوم عن اتخاذ موقف مع حالة التيه واختلاط زوايا النظر. الأمر الذي يدفع هذه الأحزاب الى التدخل وإرباك خطوط تشكيل حكومة توفيق علاوي بمزيد من الضغط والتهديد المبطن. ومحاولة إطالة الصراع السياسي الذي سيترك أثره حتما على الصراع الميداني لبعثرة الأوراق وجعل الجميع في حالة المواجهة. وهذا ما يعلل الضغط بإصدار قرار لنقض الاتفاقية الأمنية مع أمريكا وانسحابها من العراق تلك الاتفاقية التي وقعتها الأحزاب السياسية نفسها من اجل حمايتها وبقائها في سدة الحكم عام 2008.

تبدو إذن حالة المتغيرات واضحة في جوانب كثيرة من المشهد العراقي وفي جزء كبير منها ما تمثله حالة الصراع الأمريكي الإيراني على النفوذ داخل العراق وما يحصل هو جزء من مخرجات هذا الصراع المغلف بالأضداد النوعية التي تظهر بين فترة وأخرى بأشكال مختلفة، الدينية والطائفية والقومية مع تنوع الشعارات واختلافها بين فترة وأخرى.

فترة مقبلة أذن سيكون المشهد العراقي على موعد مع أداء حكومي لمرحلة تأسست على وقع احتجاجات استطاعت تحريك أطراف الصراع بوتيرة مختلفة. الأمر الذي يضع حكومة محمد توفيق علاوي المرتقبة بين مجموعة خيارات صعبة وضمن مسارات هشة تحمل معها فرص تفكك محتملة أكثر، ربما ستفتح الطريق لخلافات أعمق، خصوصا وأن الجميع قد انتقل فعلا من حالة التنازع الى حالة الصراع.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه