الابتلاء وشماعة الفاشلين

إن الله استخلفنا في الأرض لنعمرها

جائتني رسالة من أخ كريم تحمل موعظة لأحد الدعاة – وقد جاءتني بالطبع من مئة مصدر آخر مثل بقية رسائل المواعظ – والرسالة تتحدث عن الابتلاء وأهميته واعتباره الأصل في حياة المسلمين فلابد من إمراضهم وافقارهم وتخويفهم وتعذيبهم وتشريدهم  لاختبار إيمانهم ويستشهد بحديث شريف صحيح وهو ما وقع لخباب بن الأرت  من عذابات تفوق الوصف ، ثم غضب رسول الله منه – لأنه اشتم رائحة اليأس من كلام خباب كما يحكى هذا الداعية – وهو ما تجسد في ردُ  رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما طلب خباب منه  الدعاء  وقوله له إنكم قوم تستعجلون ، فقلت بل التركيز على مثل هذا الخطاب هو الذى يدعو إلى الاحباط واليأس ويصد الناس عن دين الله ويخوفهم من الاقتراب منه أو الانحياز  له.

إنني أؤمن يقيناً أن الله لم يخلق الخلق ليعذبهم ولا ليعنتهم ولا ليعسر عليهم وهو القائل في محكم التنزيل (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وهو القائل سبحانه (يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفاً)، وهو القائل (مَّا یَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِیمࣰا)

هناك فرق كبير بين العقوبات المترتبة على المخالفات أو عدم الأخذ بالأسباب وتلك الأشياء القدرية

وقد علمت يقيناً أن الله استخلفنا في الأرض لنعمرها ونجعلها تضج بالحياة والحركة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلُ في الأرض خليفة) وقال صلى الله عليه وسلم (إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها) فيدعو إلى العمل والاجتهاد ليس إذا تحققت أشراط الساعة فحسب بل إذا قامت بالفعل، فكيف تستجيب أمةُ كسيحة عليلة مبتلاة بالخوف والجوع والفقر والمرض لنداء ربها وتقوم بواجبها في نشر دينه والجهاد في سبيل تبليغ رسالته وإقامة الحق والعدل في ربوع الدنيا

هناك فرق كبير بين العقوبات المترتبة على المخالفات أو عدم الأخذ بالأسباب وتلك الأشياء القدرية الخارجة عن نطاق القدرة والواقعة رغم الأخذ بكل الأسباب (وإذا أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فقد توقى الضراء وهي التي أصابته ولم يصبها ولم يسع لها وليس مطلوباً منه أن يفرح بها بل أن يصبر عليها

ومن نماذج العقوبات ما حدث يوم أحد وقد سماه الله فشلاً (حتى إذا فشلتم) وقال (أَوَ لمٌا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أَنٌى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم)

هذه سنة الله الماضية حتى على الرسل والأنبياء لقد أخرج الله آدم وزوجه من الجنة بسبب خطأ غير متعمد (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً) ونزع الاطمئنان عن كليمه موسى في لحظة تأديب (فخرج منها خائفاً يترقب) بسبب قتل خطأ ( فوكزه موسى فقضى عليه)  وجعل الحوت يلتقم يونس بسبب (وذا النون إذ ذهب مغاضباً   )

وكما أسلفت فقد هُزم الصحابة في أحد في وجود رسول الله بسبب خطأ ودفعوا الثمن غالياً بسبب المخالفة وماكشفته من إرادة بعضهم للدنيا (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة)

وقد يُبتلى من يريد الآخرة بمن يريد الدنيا فيدفع الثمن مضاعفاً ولكنهما لا يستويان فهل يستوى حمزة بن عبد المطلب -هو وأمثاله – بالتارك لموقعه الباحث عن عَرَض من أعراض الدنيا التي يريدها!!

ويمصمص الجميع الشفاة ويذرفون الدموع ويطمئنون أن ما حدث لهم إنما هو ابتلاء بسبب صلاحهم وخيريتهم

ولكن تكمن المسؤولية في إحسان الظن بعد التجربة ورغم نتائجها والدخول لذات الجحر لِيُلدغ منه مرات ومرات وإسلام القياد لمن لا يحسن في الأمر شيئاً والانخداع بكلمات المعطلة عقولهم الغارقين في الوهم اللذيذ المتوهمين الثبات على الحق المتهمين لغيرهم بالتساقط على الطريق واللافت للانتباه أن معظم آيات الابتلاء وردت في سياق التدافع والجهاد والغزوات، قلت وحتى في حديث خباب فالسياق سياق إعداد لفئة خاصة انتقلت من الكفر إلى الإسلام وستحمل أمانة الدعوة إلى العالمين فلابد من إعدادها  إعداداً خاصاً والاطمئنان إلى أهليتها لهذه المهمة الجسيمة .

إن الخلط بين الأشياء القدرية الخارجة عن نطاق القدرة البشرية والواقعة لانقطاع الأسباب كما في قصة أصحاب الأخدود أو بعد الأخذ بكل الأسباب المتاحة والمباحة لحكمة يعلمها الحكيم الخبير ( لإعداد فئات خاصة لمهام يحملونها أو رفع درجات لبعض خلقه أو لتمييز الصفوف وإظهار أهل الإيمان الحق من المنافقين أو غير ذلك مما قد نعلمه أو لا نعلمه) مع بقاء الأصل العام بامتنان الله على خلقه بالعافية والاستمتاع بالطيبات من الرزق والتقلب في نعم الله مع شكر المنعم وأداء حقه ، الخلط بين ما سبق وبين ما يحدث من مصائب مترتبة على أخطاء الناس واعتبار ذلك من الابتلاء الدال على الصلاح المكفر للذنوب الرافع للدرجات إنما هو تدليس يدفع كل فاشل لأن  يتخذ من الابتلاء شماعة يعلق عليها فشله  وجعلت القيادات الفاشلة المشاركة في إثم الدماء والأشلاء بسبب سوء التخطيط وغياب الرؤية تهرب  إلى عالم الابتلاء الواسع الذى تتوه فيه مسؤوليتهم،  وتجد لسوء التدبير خطاب باطل كأنه حق يُساق للتبرير

ويمصمص الجميع الشفاة ويذرفون الدموع ويطمئنون أن ما حدث لهم إنما هو ابتلاء بسبب صلاحهم وخيريتهم ، وكأن العامدين إلى هذا الخلط لم يقرأوا قول الحكم العدل  (ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ)

إنني أزعم أن الابتلاء الحقيقي هو في أزمة التكوين النفسي لدى الكثيرين ممن لا يكتفون بالهروب بخطاياهم وماجنوه على الأفراد والجماعات والأمة   بل يتوهمون إحراز رتبة الصالحين في الدنيا باعتبارهم أشد الناس بلاءً ورفعة الدرجات في الآخرة لأنهم أكثر الناس عطاءً!!

وهؤلاء يربون أجيالاً يعددون لهم فوائد المصائب ومحامد الابتلاء فيقفون طوابير ينتظرونها فإذا وقعت بساحتهم إذا هم يستبشرون وأصبحوا على يقين أنهم من المصطفين الأخيار وباتوا مطمئنين لا يعملون عقلاً ولايجيلون في الأمور نظراً

إن الله أعظم وأكرم وأرحم من أن يخلق عباده ويجعل حياتهم جحيماً  بل سخر لهم  مافى البر والبحر ووعدهم بالمزيد إن شكروا ( لئن شكرتم لأزيدنكم  )

فمتى يحين الوقت الذى ينتهى فيه الدجل بإسم الدين  ويكف فيه الفاشلون فى كل الأرجاء عن تعليق فشلهم على شماعة الابتلاء !!!