رحل نقيب الطيبين

الحاج عبد الرحمن شكري

عادة الباحثين أن يقسموا الأحزاب أو الحركات الكبرى إلى صقور وحمائم، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، وبحكم دراستي لتاريخ جماعة الإخوان المسلمين في مرحلة التخصص “الماجستير” واقترابي من شبابها وشيوخها في شبابي وكهولتي، أدركت أنها أشبه الجماعات الإسلامية بمصر حيث تجد تحت لوائها كل مكونات الشعب المصري بشتى مشاربه، فتجد الصوفي الذي يحتل مكانة متقدمة في مدرسة ابن عطاء الله السكندري، ومن نزعه عرق السلفية فتجده في الصفوف الأمامية في مدرسة ابن تيمية، والجهادي الذي لا يرى رزقه إلا تحت ظل رمحه، ومن استهوته فكرة الليبرالية ويسعى لإنتاج تجربة ليبرالية على الطريقة المصرية، وباستثناء القسم الأخير فهذه فكرة الإمام المؤسس ومنهجه في تكوين الجماعة.

لكن لو اعتمدنا التقسيم الأول سنجد أن جماعة الإخوان المسلمين فقدت في الأيام القليلة الماضية خيرة رموز السلام داخل الجماعة، وصفوة مَن حملوا رسالة السلام وعُرفوا بها، الأول المهندس أيمن عبد الغني مسؤول قطاع الشباب في حزب الحرية والعدالة الذي ظل يحمل روح الشباب وهمومهم، وإن تجاوز الخمسين من عمره الذي أوقفه لخدمة أهم فئات الأمة وبناة نهضتها، الذين على أكتافهم القوية وبسواعدهم الفتية تنتصر الأمم وتتقدم.

لم تكن لي علاقة مباشرة، إلا من لقاءات عابرة مع مهندس الشباب، لكن شعرت بعظم الرزية من خلال ما كتبه عنه الشباب

وقف أيمن عبد الغني على هذه الثغرة من ثغور الإسلام، وزاد من أهميتها عنده هجرة بعض الشباب من الخسف والعسف وهم في مقتبل العمر، مع فقدان مظلة العائلة ونصيحة الكبير، فكان الأسرة البديلة التي تخفف عنهم آلام الغربة، وتفتح أعينهم على المستقبل القريب.

لم تكن لي علاقة مباشرة، إلا من لقاءات عابرة مع مهندس الشباب، لكن شعرت بعظم الرزية من خلال ما كتبه عنه الشباب بشتى انتماءاتهم ومختلف توجهاتهم، بخلاف علاقتي المتشعبة مع الحاج عبد الرحمن شكري نقيب الفلاحين وعضو مجلس الشعب وأحد أعضاء لجنة كتابة الدستور، حيث جمعنا البرلمان ثم التقينا في قبلة المحبين ومحط رحال القادمين إلى الدوحة، في مسجد أبي بكر الصديق الذي ذاع صيته بما جمع من تعدد القراءات وجمال التلاوات، وكثرة الدروس وتنوعها، وكثيرا ما كنت ألفت أنظار الشباب إلى الحاج عبدالرحمن معرفا بمكانته وسابقته، حيث يعيش بينهم في المعتكف كواحد منهم، بل وينافسهم وقد تجاوز السبعين دون أن يشعرهم بفارق السن، أو أنه كان وكان …..

كان الحاج عبد الرحمن هاشا باشا، دائم البشر حاضر الابتسامة غير المتكلفة أو المصطنعة، حريصا على المجاملة في الأفراح والأتراح، ومد جسور المودة مع الجميع.

وأكد أن التطبيع خيانة، كان ومازال ولا فرق بين أن يقوم به فرد، أو تتبناه دولة أو حزب، وأن فتح باب المجاملة وغض الطرف، سيفتح على الأمة باب شر يُفقد الهوية ويُذهب المصداقية

كان مهموما بقضايا الأمة العامة، ومشغولا بالقضية المصرية، ونذر نفسه وكرس جهده للدفاع عن حقوق الفلاحين والمطحونين، وتولى الدفاع عن حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، والحرص على كشف العابثين والمفرطين، وظل ثابتا على مبادئه مدافعا ومنافحا حتى لقي ربه في الميدان الذي ثبتت فيه أقدامه.

فعلى صعيد القضايا الكلية كنا قبل أيام في نقاش حول قضية الأمة المركزية، وهرولة بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع مع المحتلين، فانبرى للرد بحسم وعزم، على من يسوغ جريمة التطبيع أو يختلق لأصحابها المعاذير، وأكد أن التطبيع خيانة، كان ومازال ولا فرق بين أن يقوم به فرد، أو تتبناه دولة أو حزب، وأن فتح باب المجاملة وغض الطرف، سيفتح على الأمة باب شر يُفقد الهوية ويُذهب المصداقية.

ثم جاءت اللحظة الحاسمة، ومعها حسن الخاتمة في ميدانه الخاص، حيث نبهنا برسالة لمتابعته على قناة الجزيرة مباشر، وفي طريقه للقناة مرّ على جيران له فعزاهم، وصلى معهم صلاة الغائب على فقيدهم وواساهم، ثم دخل القناة كعادته يُحيي الجميع وينشر البشر بابتسامته المعهودة، ودخل إلى الاستديو وأدى دوره ودافع عن نفس القضايا التي نذر له وقته واستفرغ فيها جهده، ومع نهاية الفقرة لم يستطع القيام من مكانه، وظهرت عليه فجأة آثار الإعياء، ونقل إلى المستشفى التي اكتشفت نزيفا في المخ ثم أسلم الروح إلى بارئها.

ومن تمام البشرى حضور الجنازة مع صلاة الجمعة، حيث خرجت جموع المسلمين للصلاة عليه في ظل الإجراءات الاحترازية، في مشهد مهيب ما رأيت مثله خلال أزمة كورونا.

عن أنس بن مالك قال: مَرُّوا بجَنَازَةٍ، فأثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بأُخْرَى فأثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: وجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عنْه: ما وجَبَتْ؟ قَالَ: هذا أثْنَيْتُمْ عليه خَيْرًا، فَوَجَبَتْ له الجَنَّةُ، وهذا أثْنَيْتُمْ عليه شَرًّا، فَوَجَبَتْ له النَّارُ، أنتُمْ شُهَدَاءُ الله في الأرْضِ. (رواه البخاري)

ألسنة الخلق أقلام الحق، وقد لهجت الألسنة بالثناء والدعاء، فاللهم بلغهم منازل الشهداء، إنك بكل جميل كفيل.