عن “نسيمي” أغنية سامي يوسف، وصاحبها الإمام الصّوفيّ عماد الدّين نسيمي

سامي يوسف
سامي يوسف

صدرت قبل سنة تقريبًا أغنية للمنشد والملحّن البريطانيّ ذي الأصل الأذريّ والخلفيّة الإسلاميّة سامي يوسف، وقد أعيد الترويج لها مؤخرًا بعد ترجمتها من اللهجة الأذربيجانيّة، وقد نالت الأغنية عشرات ملايين المشاهدات ولاقت رواجًا واسعًا بسبب جمال لحنها وأدائها.
هذه الأغنية اسمها “نسيمي” حيثُ أنشدت عام 2019م الذي أعلنته أذربيجان عامًا لإحياء ذكرى الإمام الصّوفيّ عماد الدّين نسيمي، وهي قصيدة من قصائده التي كتبها باللّهجة الأذريّة التركمانيّة.
وقبل الحديث عن كلمات الأغنية لا بد من بعض المعلومات الموجزة عن عماد الدّين نسيمي القطب الصّوفيّ الشّهير في زمانه؛ الغائب عن الذّكر في كثير من محافل هذا الزّمان.

غير أن نسيمي انتمى بعد ذلك إلى مذهب صوفيّ موغل في التّطرّف هو “المذهب الحروفي” الذي أسّسه فضل الله الاسترابادي وهو والد زوجة النّسيميّ

عماد الدّين نسيمي من مواليد أذربيجان على أصحّ الأقوال وبناءً على هذا تعدّه كلّ من تركيا وإيران من شعرائها، وكانت ولادته في القرن الرّابع عشر في عام 1370م، وهناك من قال: إنّه ولد في بغداد، وبعضهم نسب ولادته إلى تبريز وكلاهما غير صحيح، وأمّا نسبته “نسيميّ” إلى ضاحية نسيم في بغداد فليس بناء على موطن ولادته بل بناء على ما قضاه فيها من شبابه في التعلّم والدّعوة.
كان نسيميّ يجيد العربيّة والفارسيّة والتركيّة وله دواوين شعريّة صوفيّة بهذه اللّغات الثلاثة غير أنّ دواوينه بالعربيّة لم تصل لاعتبارات مختلفة أهمها الاعتبارات السّياسيّة، ولكن وصلت بعض قصائده بالعربيّة وبعض مُلمّعاتِه و”المُلمّعات” هي قصائد يجمع فيها الشّعراء بين العربيّة والفارسيّة أو بين العربيّة والتركيّة.
وهو من ناحية الانتماء إلى الفلسفة الصّوفيّة يعدّ امتدادًا لمدرسة الحلّاج الذي قتل بقطع رأسه عام 309ه، 922م
غير أن نسيمي انتمى بعد ذلك إلى مذهب صوفيّ موغل في التّطرّف هو “المذهب الحروفي” الذي أسّسه فضل الله الاسترابادي وهو والد زوجة النّسيميّ، ويقوم هذا المذهب على اعتقاد أنّ الحروف هي عين الآدميّين، وأنّ فك شفرات الكون ومعرفة حقيقته إنّما يكون من خلال المعاني الباطنية للحروف اللغوية، وكانت عاقبة الاستراباديّ أنّه قطع رأسه على يد ابن تيمورلنك ليأمر والده تيمور بعدها بحرق جثّته ورأسه أمام النّاس.
تبنّى عماد الدّين النّسيمي الدّعوة للمذهب الحروفيّ وعزم على تحمّل المشاقّ في سبيل ذلك، حتّى أشفق عليه أحد إخوانه واسمه شاه خاندان، فأرسل إليه بيتًا من الشّعر يقول فيه: “أخف السرّ، واحذر فشوه، لا تُطعم العوام من خوان الخواص” فأجابه عماد الدّين النّسيميّ ببيتِ شعرٍ يقول فيه: “تدفّقت أمواه البحر المحيط، وللكون والمكان زفيرٌ وهديرٌ، برحَ الخفاءُ وانكشف سرّ الأزل، فكيف للعاشق أن يتستّر بستر؟”
بعد عدّة ملاحقات في بلدان عدّة استقرّ المقام بالنّسيمي في مدينة حلب التي كانت خاضعةً لحكم المماليك آنذاك، وسرَت دعوته وتحلّق حوله الشّباب، فاستشعرت السّلطة السّياسيّة مع الفقهاء خطورة دعوته، أمّا الفقهاء فكانوا يرون دعوته خطرًا على الدّين وعلى الشّريعة بما فيها من انحرافاتٍ يتضمّنها المذهب الحروفيّ، بينما بدأ المماليك يرون فيه خطرًا على استقرار سلطتهم لاتّساع تأثيره وخشيتهم من تحوّل ثوريّته الفكريّة إلى ثوريّة سياسيّة.

وعندما وقف بعد الوشاية به أمام القاضي سأله: ما الحكم في اليد التي تعبث بالقرآن؟ فأجاب: تقطع، فقال القاضي: ها أنت قد أفتيت لنفسك، فما كان منه إلّا أن أعلن أنّه يسلّم امره لله.

وبتحريض من الشّيخ شهاب الدّين أحمد بن هلال الحسبانيّ الشّافعيّ الصّوفيّ، وبتدبير مكيدة من سلطة المماليك تمثّلت في تمزيق بعض أوراق المصحف ووضعها في حقائب النّسيميّ تمّ اعتقاله ومحاكمته، وعندما وقف بعد الوشاية به أمام القاضي سأله: ما الحكم في اليد التي تعبث بالقرآن؟ فأجاب: تقطع، فقال القاضي: ها أنت قد أفتيت لنفسك، فما كان منه إلّا أن أعلن أنّه يسلّم امره لله.
وحكم عليه بالإعدام بطريقةٍ في غاية البشاعة وهي السّلخ حيًّا ثمّ تقطيع أعضائه وهو يسلَخ إلى أن تكون النّهاية بقطع رأسه، وأن يكون كلّ ذلك في ساحةٍ عامّة ويدعى الجمهور لمتابعة هذه الحفلة
وفعلًا اقتيد النّسيمي إلى مسلخه الذي احتشد حوله الآلاف من محبّيه الباكين عليه ومبغضيه الشّامتين به، فبدا رابط الجأش ثابت الجنان يردّد بعضًا من أشعاره وترانيمه، وعندما شرع بسلخ جلده، قال له القاضي باستهزاء: “إذا كنت الحقَّ كما تدّعي فلماذا بدأ وجهك بالشحوب؟” فرد عليه نسيمي قائلا: “الشّمس تشحب دائمًا عند المغيب؛ لتشرق من جديد”
وممّا يذكرُ في هذا المجال أنّ مفتي حلب آنذاك كان من شهود قتله، وأعلن وقتها أن النسيمي نجس ويموت ميتة نجسة قائلًا: “ولو وقعت نقطة من دمه على جارحة من جوارحي لقطعتها”.
وفعلًا أصاب المفتي رشاش من دم النّسيمي أثناء سلخ جلده وهو يُعذّب، وسقطت نقطة من دم النسيمي على إصبع المفتي، فتنبّه إلى ذلك أحد أحباب النّسيمي الحاضرين، فالتفت إلى المفتي وقال: لقد سقطت نقطة من دمه على إصبعك فاقطعها كما وعدت بذلك أيها المفتي، فذعر المفتي وقال: كلا، إنما قلت ذلك حينما كنت أمثّل لكم وليس في التّمثيل من حرج، عندها قال النّسيميّ وهو يعاني آلام السّلخ:
“لا بدّ من قطع إصبع هذا الزاهد الذي زاغ عن الحقّ، وانظر إلى ذلك العاشق المسكين الذي يمزّق إهابه من قمّة رأس إلى أخمص قدمه، فما بكى ولا شكا”
وهنا لا بدّ من التّأكيد على أنّ قتل النّسيميّ الذي وقع عام 1417م كان قتلًا سياسيًّا غُلّف بغلاف دينيّ، فالنّسيميّ لم يُقتل بسبب إلحاده وزندقته بل إنّ السلطة السّياسيّة استثمرت ذلك للتّخلّص من شخصٍ رأت فيه مصدر قلقٍ على استقرار الحكم لها.

وهنا لا بدّ من تحرير هذه المفاهيم الصّوفية، وهي باختصار وإيجاز

في عام 2019م غنّى سامي يوسف قصيدةً لعماد الدّين النّسيمي باللّهجة الأذريّة التركمانيّة، وهي قصيدة قالها بلسان الذّات الإلهيّة ويقول فيها بناءً على ترجمة الأستاذ محمّد هاشم من اللهجة الأذريّة التركمانيّة، وقد ترجمها في تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 2020م ممّا أسهم في تجدّد رواجها بشكلٍ واسع:
أنا أسع كلّ العالمين؛ لكن كلّ هذا العالم لا يسعني
أنا جوهر اللّامكان؛ لأنّه لا الكون ولا المكان يسعني
أنا السهمُ، والقوس أنا
أنا الشيخ، والشابّ أنا
أنا الذرّة، والشمس أنا
أنا العناصر الأربعة، وأنا الحواس الخمسة، والأبعاد الستّة أنا
اعرفني عبرَ صورتك هذه، ولكنّها لن تسعني
وإنّي أسع كلّ العالمين؛ ولكن كلّ هذا العالم لا يسعني
أنا الأشجار التي تشعل النّار
أنا الأحجارُ التي تقدحُ النّار
كلّ شيءٍ موجودٌ في الكاف والنّون
كلّ الموجودات بجملتها فيها
أنت بهذه العلامة تعرّف عليّ
ولكن اعلم بأنّ كلّ العلامات لا تسعني
كل الموجودات أنا، وكل المرايا لا تحتويني
قد أكون اليوم نسيميًا، وقد أكون هاشميًّا، وقد أكون قُرشيًّا
أنا الذي تتجلّى آياتي فيَّ، وكل آياتي لا تسعني
الكون والمكان هي آيتي
وذاتُكَ هي بدايتي
وأنت بهذه العلامة اعرفني، ولكن اعلم أنّ كلّ العلامات لا تسعني
أنا سرّ الكنوز، أنا المحيط، وكلّ الموجود أنا
وإنّ كلّ الكون الأعظم هو ذاتي واسمي
وكلّ هذا الكون لا يسعني
أنا الصّدف وأنا اللّؤلؤ
وأنا المحشر والميزان
أنا الرّحيقُ وأنا السّكّرُ
أنا الشّمسُ وأنا القمرُ
أنا الذي أهبُ النّفسَ والرّوح
وكلّ الأرواح لا تتمكّن من احتوائي
وإنّي أسع كلّ العالمين؛ ولكن كلّ هذا العالم لا يسعني
أنا جوهر اللّامكان لأنّه لا الكون ولا المكان يسعني
• الأغنية بين الحلول والاتّحاد
وهنا لا بدّ من تحرير هذه المفاهيم الصّوفية، وهي باختصار وإيجاز
الحلول: أنّ يحلّ الخالق في المخلوق، وفيه إثباتٌ لوجودَين؛ فوجود الخالق غير وجود المخلوق، لكنّه يحلّ فيه حلولًا عامًّا ويكون ذلك باعتقاد أنّ الله تعالى حلّ في كلّ شيءٍ من مخلوقاته، أو حلولًا خاصًا باعتقاد أنّ الله تعالى قد حلّ في بعض مخلوقاته، أو حلولًا سرَيانِيًّا بحيثُ تكون الإشارةُ إلى أحدهما إشارةً إلى الآخر، أو حلولًا جرَيانيًّا بحيثُ يكون أحدهما ـ الخالق والمخلوق ـ ظرفًا للآخر
أمّا الاتّحاد، ويلحق به وحدة الوجود: فهو اتحاد الله عز وجل بمخلوقاته، أو ببعض مخلوقاته، وبعبارة أخرى: اعتقاد أن وجود الكائنات أو بعضها هو عين وجود الله تعالى.
وعند يسيرٍ من النّظر في قصيدة عماد الدّين النّسيمي التي غنّاها سامي يوسف نرى أنّها قصيدة حلوليّة، فهي تؤكّد في كلماتها أنّ الله تعالى قد حلّ في المخلوق مع التّأكيد على انّه ليسَ عين المخلوق، فهو يسع المخلوق والمخلوق لا يسعه

وهاهو محيي الدّين بن عربي المعروف عند أهل التصوّف بالشّيخ الأكبر يقول في “الفتوحات المكيّة”: “اعلم أن الله واحد بالإِجماع

ويظنّ البعض أنّ رفض الحلول والاتّحاد هو منهج السلفيّة فقط في مخالفتهم للصّوفيّة، والحقيقة أنّ عامّة أهل التّصوّف يرفضون الحلول والاتّحاد حتّى أولئك الذين يرميهم السلفيّة بأنّهم من أهل الحلول والاتّحاد، ولو نظرنا في بعض ما قاله اعلام الصّوفيّة لرأينا موقفهم الواضح من ذلك.
فالشيخ عبد الوهاب الشعراني يقول في كتابه “اليواقيت والجواهر”: “ولعمري إِذا كان عُبَّاد الأوثان لم يتجرؤوا على أن يجعلوا آلهتهم عين الله؛ بل قالوا: “ما نعبدهم إِلا ليقربونا إِلى الله زلفى”، فكيف يُظَن بأولياء الله أنهم يدَّعون الاتحاد بالحق على حدٌّ ما تتعقّله العقول الضعيفة؟! هذا كالمحال في حقهم، إِذ ما مِن وليٌّ إِلا وهو يعلم أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق، وأنها خارجة عن جميع معلومات الخلائق، لأن الله بكل شيء محيط”
وهاهو محيي الدّين بن عربي المعروف عند أهل التصوّف بالشّيخ الأكبر يقول في “الفتوحات المكيّة”: “اعلم أن الله واحد بالإِجماع، ومقام الواحد يتعالى أن يحلّ فيه شيء، أو يحلّ هو في شيء، أو يتّحد في شيء”
ويقول في موضع آخر من “الفتوحات المكيّة”: “من قال بالحلول فهو معلول، فإِنّ القول بالحلول مرضٌ لا يزول، وما قال بالاتّحاد إِلا أهل الإِلحاد، كما أنّ القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول”
ومثل هذا نُسب إلى أبي الحسن الشّاذلي والإمام الغزالي وغيرهم من أعلام التصوّف، على أنّهم يعمدون في بعض المواقف التي تُنسب إلى الحلول والاتّحاد إلى التّأويل بالفناء والشّهود وفي هذا كلامٌ يطول.
فالقصيدة التي غنّاها سامي يوسف للنّسيمي قصيدة ظاهرةٌ في معانيها الحلوليّة التي تأباها قواعد الشّريعة عند عامّة أهل العلم الشّرعيّ من القدماء والمعاصرين بمن فيهم عامّة علماء ورجال الطّرق الصّوفيّة، وجمالُ لحنها وأدائها لا ينفي أنّ معانيها ظاهرة الدلالة على حلول الخالق في مخلوقه.
ومثل هذا مما ينبغي التنبّه له لأنّ هذا النّوع من المعاني قد يتسرّب إلى دواخل النّفس ليغدو مع الزّمن جزءًا ممّا يعتقده المرء أو على أقلّ تقديرٍ لا يرى به بأسًا تحت سلطان جمال اللحن والأداء المصحوب بجهل المعنى ومراميه ودلالاته.