“عامر عبد المنعم”.. أولاً وأخيراً!

عامر عبد المنعم

عندما قرأت خبر اعتقال زميلنا “عامر عبد المنعم” الكاتب الصحفي، ومدير تحرير جريدة “الشعب” سابقاً، تذكرت آخر محاولة اعتقال له، قبل ثلاثين سنة، لم يستدع ولو لمجرد التحقيق بعدها، فما الجديد؟

كانت المرة الأخيرة، في بداية التسعينيات، وكنت أنا وعامر من جيل واحد، التحق بمهنة الصحافة في فترة متقاربة، لا أعرف من منا كان يسبق الآخر، وقد عمل هو في جريدة “الشعب”، بينما عملت أنا في “الأحرار”، وهما صحيفتان حزبيتان من صحف المعارضة، فالأولى يصدرها حزب العمل الاشتراكي، والثانية يصدرها حزب الأحرار، وإن كان ما بيننا هو خلاف فكري فهو ما بين “الشعب”، و”الأحرار”:  ينتمي عامر للتيار الإسلامي، بينما أنتمي أنا لليبرالية المصرية، امتدادا لبذرتها الأولى التي أجهضتها حركة ضباط الجيش في سنة 1952، في المجال السياسي، ويمثل قطاع عريض من المثقفين أوراقاً في شجرتها التي نمت بعيداً عن دهاليز سلطة عسكرية بالأساس!

وقد غضبت بعد خروجه من السجن بعد فترة اعتقال قصيرة في حدود الشهر، لأنه كتب في “الشعب”، شاكراً وممتناً لكل من وقفوا معه في محنته

في هذه الفترة كان الخلاف بيني وبين تيار الإسلام السياسي واضحاً وحاداً، لكن عندما اعتقل “عامر عبد المنعم”، كتبت مقالاً أندد فيه بهذا الاعتقال، الذي تم وفق قانون الطوارئ، ولم يكن زميلي قد نسب اليه تبني العنف، فكراً ولا ممارسة، ولا أتذكر إن كانت واقعة الاعتقال هذه تمت في عهد زكي بدر، أم عبد الحليم موسى، لكنني أتذكر أنني هاجمت وزير الداخلية، الذي لابد من أن يكون على علم مسبق بعملية الاعتقال هذه، صحيح أنه – وكما كان مثاراً في هذه الفترة- يعطي ضباطه خطابات اعتقال موقعة منه على بياض، ولكن قرار اعتقال صحفي لابد وأن يحاط به وزير الداخلية علماً.

وقد غضبت بعد خروجه من السجن بعد فترة اعتقال قصيرة في حدود الشهر، لأنه كتب في “الشعب”، شاكراً وممتناً لكل من وقفوا معه في محنته، وعدد الأسماء والتي بدأت بإبراهيم شكري رئيس حزب “العمل”، و”عادل حسين” رئيس تحرير جريدة “الشعب”، وأسماء آخرى، من دون أن يذكرني بشيء، واعتبرته يومئذ قد غلب الخلاف الفكري على المواقف المبدئية، فلم يشأ أمام تياره أن يذكر حسنة لمختلف معه، وكنت قد هممت بالاتصال به تليفونيا لتهنئته على الافراج عنه، لكني تراجعت غضباً، والتقينا كثيراً بعد ذلك، وجمعتنا نقاشات وفاعليات في نقابة الصحفيين، لكن لم أتطرق معه في هذا النقاش لهذا الموقف، ليس فقط لأنه مُحى من الذاكرة، ولكنه سيعد نوعاً من “تقليب المواجع” بلا داع، لأحداث تجاوزها الزمن؛ تلك أمة قد خلت!

وعندما قرات خبر اعتقاله مؤخراً، تذكرت هذه الواقعة التي مر عليها قرابة الثلاثين عاماً، ووجدتني ألتمس العذر له، لمبرر لم يكن مطروحا على ذهني في لحظة الغضب، أو بعدها، فما أدراني أن ما كتبته قد وصله أو أطلع عليه؟

هل كان عامر عبد المنعم يدرك أنه قد يتعرض للاعتقال مرة أخرى، ومع ذلك بقي في مصر؟

لقد خرج عامر عبد المنعم من المعتقل، وكان لزاماً على جريدة “الشعب” أن تعجل بتعيينه ليتسنى له الانضمام لنقابة الصحفيين، بما يمثل هذا من حصانة من الاعتقال والتنكيل، وقد مر على اعتقاله قرابة الثلاثين سنة ولم يعتقل بعدها، وربما كان السبب في هذا أنه أنهى كل علاقة تنظيمية سابقة له بتنظيم ربما كان ينتمي اليه، وكانت “خبرة السنين” لا تزال تنتقل في هذه الفترة داخل المؤسسة الأمنية، فمن بين الاعتقالات ما قد لا يكون له علاقة بأداء المعتقل وإنما يكفي أن يكون منتمياً لتنظيم ما، وكان خروج العضو من التنظيم ولو في زمن عبد الناصر، ولو من دون اعلان، كفيلاً بكف البحث، وهو ما قرأناه في مذكرات الشيوعيين القدامى: “عبد الله الطوخي” نموذجاً!

لكن هل كان عامر عبد المنعم يدرك أنه قد يتعرض للاعتقال مرة أخرى، ومع ذلك بقي في مصر؟ ولم يكن له من أداء سوى مقالات ينشرها هنا وهناك، تدافع عن مصر في مواجهة مخطط تفكيكها وتخريبها؟ امتداداً للدور الذي كان يقوم به بيت الوطنية المصرية ممثلا في حزب “العمل” قبل حله، وجريدة “الشعب” قبل إغلاقها، في عهد مبارك، الذي كانت دعايته تقوم على أنه العهد الذي لم يقصف قلماً، ولم يسجن صحفياً، ولم يصادر صحيفة. وكان كل هذا ليس صحيحا!

فما هي جريمة عامر عبد المنعم غير هذه المقالات الوطنية؟ هل سيقال إنه ينتمي لجماعة إرهابية، ويتعاون معها على تنفيذ مخططاتها، إلى آخر هذا الاتهام المضحك والمحفوظ والذي تم توجيهه لشيوعيين ولمسيحيين؟

بالحسابات الدقيقة لا يمكن حساب عامر على هذه “الجماعة الإرهابية”، فقد كانت في الحكم، ولم يستفد منها “عامر عبد المنعم”، ولم يعين عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان، ولم يكن من بين المعينين في مجلس الشورى، ولم يعين في المجلس الأعلى للصحافة الذي عينوا فيه فلولاً كان يعينهم مبارك، مثل إبراهيم حجازي، وصلاح منتصر، بل وتجاوزا مرحلة مبارك كثيرا فعينوا “خالد صلاح” فيه بقرار رئاسي.

وكان أداء هذه الفترة التي اكتشف فيها البعض محبتهم للإخوان، من أول اللواء فؤاد علام ضابط أمن الدولة الشهير إلى رفعت السعيد، وأعلن البعض عن تدينهم، كان “عامر عبد المنعم” يبتعد كثيراً من أجواء السياسة ليكون أكثر اتصالاً بالفكر، ومن ضيق التنظيمات إلى رحابة الوطن، وبدا عازفاً عن الانخراط في اتجاه سياسي، في موسم الحصاد وتوزيع الغنائم!

ولم يكن مدهشاً عندما خاض عامر عبد المنعم الانتخابات لعضوية مجلس نقابة الصحفيين في سنة 2004، أن قائمة الإخوان التي ضمت “أحمد موسى” استبعدته، وسقط عامر ونجح أحمد موسى

وفي نهاية يوم انتخابي بنقابة الصحفيين، جلست معه نتجاذب أطراف الحديث، وكانت مصر على موعد مع انتخابات برلمانية، قطع الطريق عليها قرار قضائي معيب، قبل الدخول في نفق الانقلاب المظلم، وكنت وقتها قد قررت خوضها ضمن قوائم التيار المدني، قال لي “عامر عبد المنعم” إن قائمتين عرضتا ترشيحه لخوض الانتخابات، وكانت أحزاب قد أعدت قوائمها بالفعل، لكنه أعتذر عن ذلك، وأدهشني هذا الزهد، والابتعاد عن الانخراط في السياسة، والاهتمام بقضايا الفكر والوطن بعيداً عن ممارسة العمل السياسي المباشر، في مرحلة الحرية وكانت السياسة هي موضوع الناس، من يفهم فيها ومن لا يعرف الألف من كوز الذرة!

لم أسأله عن القائمتين، لكن لم أعتقد ولو للحظة أنها قائمة حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الاخوان المسلمين، فقد كنت أعلم أن العرض لن يخرج عن قائمتين: “النور”، وحزب “البناء والتنمية”، لكن “عامر عبد المنعم” قرر أن يكون بعيداً!

أما لماذا استبعدت حزب الاخوان المسلمين، فلأن الاخوان قد يقبلون بوجود ناصري أو مسيحي على قوائمهم، لكن لديهم حساسية تجاه الإسلاميين الذين هم ليسوا من الاخوان، وهي حساسية معروفة من التنظيمات بالضرورة، وفي هذه الانتخابات كان الإخوان قد قرروا ألا يتحالفوا مع أحد، ولم يكن مدهشاً أنه عندما خاض عامر عبد المنعم الانتخابات لعضوية مجلس نقابة الصحفيين في سنة 2004، أن قائمة الإخوان التي ضمت “أحمد موسى” استبعدته، وسقط عامر ونجح أحمد موسى.

إن “عامر عبد المنعم” اشتغل بقضايا الوطن الكبرى، لكنهم في مصر الآن ينكلون بالوطنيين، ويأخذون كل سفينة غصبا.