متى يصبح الإنسان “صرصورا”؟

كيف يتحول الإنسان إلى صرصور؟!

في العام 2007 وفي أحد أزقة مدينة براغ التاريخية القديمة، سمحت لي الظروف بدخول بيت الأديب الكبير، والمبدع العالمي، فرانز كافكا (1883 ـ1924 ) صاحب العديد من الإبداعات الأدبية الرفيعة لاسيما رواية “المسخ” الفريدة في سياقها الفكري وتراجيديا العبث الروائي.
تدور الرواية حول إنسان تحول إلى صرصور، وهنا يبدأ إبداع الكاتب الفكري في نقل هذه الصورة المعقدة في حياة من كان ينتمي إلى عالم البشر، شخصا مهما يعول أفراد أسرته ويبث السعادة فيهم، ثم أصبح حشرة منبوذة تعيش عالة على الأسرة وتسبب لها الكثير من التعاسة.
كنت أتأمل أركان البيت الصغير الذي تحول إلى متحف، وأتساءل في نفسي عن تأثير الأماكن في شخصية المبدعين، ومن أين ياتون بالخيال الواسع المعبر تعبيرا حقيقيا عن الواقع الإنساني؟  ثم لماذا يجنحون إلى تبني أفكار غير نمطية في سياق فكري محرض لذاكرة القارئ، حتى يبقي يقظا منتبها لأحداث الرواية؟

 عندما اشتكى له بأنه لا يشعر بأنه إنسان كامل، بل نصف إنسان ونصف صرصور

سبق كافكا الكاتب الروسي العظيم ديستويفسكي في تشبيه الإنسان بالصرصور،  وكلاهما اهتم بفكرة هروب الإنسان تحت وطأة القهر، والمعاناة، والظلم، إلى تجرد الإنسان من حقوقه الإنسانية فيتساوى مع تلك الحشرة المنبوذة التي تبحث عن الاختباء وتعيش في ظلام الشقوق والأماكن المهجورة، بل إن الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم كتب مسرحية بعنوان “مصير صرصور”  وهي تحكي عن زوج يخاف من زوجته كخوف الصرصور من عاملة النظافة في المنزل، حيث يهرب منها كلما رآها،  خائفا أن تقذفه بـ”الشبشب” فتقضي عليه.
كل هؤلاء الكتاب العظام دفعهم إلى مقارنة الإنسان بالصرصور قسوة الحياة والظروف التي تجبر الإنسان على أن يصبح صرصورا منعزلا خائفا من مواجهة البشر، يفضل الظلام والعزلة والابتعاد عن عالم البشر القاسي.
وفي هذا السياق نفسه ظهرت قبل عدة سنوات رواية جديدة تسير علي هذا النهج، كتبها مهاجر لبناني يعيش في كندا اسمه راوي الحاج عنوانها “الصرصور” نقل فيها تجربته الانعزالية، وبعده عن الناس، وخوفه من مجتمعات الهجرة التي لاتعرف الشفقة ولا الرحمة، سردها في حواراته التي أجراها مع طبيبه النفسي عندما اشتكى له بأنه لا يشعر بأنه إنسان كامل! بل نصف إنسان ونصف صرصور، ثم راح يطرح عليه العديد من الأسئلة التي تعكس تذمره من عالم البشر، عندما يسأل الطبيب ماذا تعني الإنسانية؟ ولماذا تتولد كل تلك المعاناة للبشر إذا كانت الإنسانية بالفعل موجودة بيننا؟ وهنا يحتار الطبيب النفسي ولا يستطيع الإجابة على كل تلك الأسئلة ويقول للمريض إنك قد وقعت في الفخ وأصبحت مثل حشرة الصرصور المحبوسة والتي تحاول أن تبحث عن مخرج.
الحقيقة أن غياب الإنسانية وظلم البشر للبشر وظهور حكام ديكتاتوريين يسلبون مواطنيهم أي حقوق، حتى الكلام والتعبير يصبحان ممنوعان ومحرمان هو ما يذكر دائما بابدعات هؤلاء الكتاب، وكيف يصبح ملايين البشر صراصير بالمعني المقصود في رواياتهم!
في الظلم والافتراء البشري دخلت مفردات جديدة مثل العنصرية التي صاحبت حالات النزوح، واللجوء، والانتقال إلى أوطان جديدة،  بحثا عن أمل في إنسانية مفقودة في بلادهم،  فيتفاجأون بأنهم دخلوا نفقا جديدا في عالم الصراصير هروبا من التميز والعنصرية البغيضة.

فالإنسان عندما يتحول إلى صرصور يكون قد وصل إلى مصير مجهول وحياة بائسة عبثية لا جدوى منها

لقد أبدع كافكا في تصوير العزلة المجتمعية عندما صور حال بطل روايته المسخ غريغور سامانا بعد أن تحول إلى صرصور،  وكيف عاش مكتئبا معزولا في حجرته، ومع قسوة العزلة كان يسترق السمع إلى ما يدور بين أهله في الصالة، فسمع ذات يوم عزف أخته على البيانو فخرج ليستمتع بالموسيقي، لكن والده غضب منه، فرماه بتفاحة في يده تقززا من منظره فأصابه بجروح غائرة، ومع مرور الوقت تحول مزاج العائلة من العطف والشفقة عليه، إلى التمنيات بالتخلص منه، فزاد الاكتئاب عنده والعزلة حتى انتهى بموته في حجرته، محققا رغبة الأسرة في موته.
لا شك في أن صراصير الروايات هذه تحمل رؤية عبثية وظالمة للذات البشرية، لكنها صادمة وحقيقية،  فالإنسان عندما يتحول إلى صرصور يكون قد وصل إلى مصير مجهول وحياة بائسة عبثية لا جدوى منها.
إن كثيرين من الذين هجروا قسرا من أوطانهم بسبب الحروب أو الفقر، يعانون من عدم الاستقرار في مجتمعات لاترحم، وهم دائما في حالة خوف، وقد يصل الحال بهم إلى أنهم يتساءلون لماذا نحن هنا؟ وماذا نفعل؟ وما هذا الخوف الذي يرافقنا كالصراصير؟
ثمة إجابة على تلك الأسئلة نجدها في رواية الصرصور التي تعود كاتبها على طبيبه النفسي وفي مرة قال له إن شعوره بأنه صرصور يدفعه إلى الانتحار والتخلص من حياته، لآنه دائم الإحساس بالانطواء، والعزلة،  وحب الأماكن المظلمة، والستائر المغلقة، حتى الغرفة التي يعيش فيها هي الأخرى مليئة بالصراصير.
في عالم اليوم والقهر الإنساني الذي يعيش فيه ملايين البشر اليوم،  نرى كيف أصبح سهلا علي الأفراد التخلي عن بعضهم البعض في لمح البصر، أو تخلي الدول عن أبنائها وإذلالهم والزج بهم في سجون رديئة من أجل أسباب واهية، ومع ذلك ورغم كل التضحيات التي قد يفعلها البعض من أجل الناس والأوطان، تقابل بالظلم ما يدفع بهم في النهاية إلى عالم الصراصير.