الاكتشافات الأثرية في مصر بين الجدية وعروض التمثيل!

الوزيري مع الفنان محمد هنيدي في برنامج "رامز جلال"

كنت أراقب رئيس المجلس الأعلى للآثار بمصر في المؤتمر الصحفي الذي كان يتحدث فيه عن الاكتشافات الأثرية الأخيرة في منطقة سقارة،  كان مشهدا أقرب إلى التمثيل السينمائي من الخطاب العلمي الرصين ولغة العلماء المتقنة.
وبما أن الآثار المصرية هي محل اهتمام العالم أجمع،  ووسائل إعلامه ، فالدعاية لآثارنا ومن ثم للسياحة في مصر،  يجب ألا تتوقف على خلق قصص مثيرة وعروض هزلية على حساب الأهمية العلمية،  ناهيك عن سوء الإدارة والتنظيم السيئ للمؤتمرات الصحفية المصاحبة لتلك الاكتشافات.
مصطفى وزيري “الممثل” الأثري الذي خلف زاهي حواس في طريقة التمثيل التليفزيوني أثناء الاكتشافات الأثرية،  لم يكن معروفا إعلاميا قبل سنة 2013 عندما ظهر مع رامز جلال في برنامج المقالب الشهير على مدار 30 حلقة في شهر رمضان لتلك السنة، وكان دوره التمثيلي لا يزيد على دور “كومبارس” ينحصر في مقابلة الضيف شارحا له أهمية المقبرة المكتشفة حديثا، وكان يكرر جملة واحدة في كل حلقة رغم أنه كان مسؤولا كبيرا وقتها بصفته مديرا لآثار الأقصر.

وفي مشهد تمثيلي أعلن الوزيري أنهم سيجرون فحصا لأول مرة على الهواء لأحد التوابيت المكتشفة باستخدام الأشعة السينية،  رغم أن هذا الفحص يلزمه مختبر خاص

بالتأكيد كانت سقطة إعلامية على حساب علمه كأثري كبير، لكن الغريب أن وزير الأثار عينه في عام 2017 رئيساً للمجلس الأعلى للآثار فانطلق في مجال التمثيل متأثرا بمديره السابق زاهي حواس.
في مشهد الإعلان عن الاكتشاف الأثري الأخير في سقارة كان الحضور محتشدين في خيمة أعدت خصيصا لهذا الغرض، وفي مشهد تمثيلي أعلن الوزيري أنهم سيجرون فحصا لأول مرة على الهواء لأحد التوابيت المكتشفة باستخدام الأشعة السينية،  رغم أن هذا الفحص يلزمه مختبر خاص، وتجهيزات خاصة، لكن البحث عن الإثارة المفتعلة جعله يأتي بعدد من الموظفين يحملون جهاز الأشعة،  ويتحدث أحد الخبراء عن نتيجة الفحص بأنه يظهر مومياء شاب أربعيني محفوظة بشكل جيد !
قد تكون فرجة ممتعة للبعض أو إثارة للبعض الآخر لكن تسويق المومياوات على هذا النحو له طابع غريب،  لأن الأمر لم يعد يتعلق بنظم علمية معروفة، بل بأكبر فرجة تلفزيونية ممكنة،  في سعي للدعاية السياحية على حساب العلم والعلماء.
رغم تبرير البعض بأن القصد من العرض التمثيلي والمبالغة في الإثارة هو الدعاية السياحية لمصر، فإن في اكتشاف سقارة الأخير وقع خلاف بين الصحفيين المصريين المدعوين للحفل ووزير الآثار خالد عناني كان أكثر إثارة من الكشف نفسه،  ما يعكس سوء إدارة هذه المؤتمرات الصحفية العالمية،  لقد تحدث وزير الآثار مع الصحفيين المتخصصين في الآثار ومندوبي الصحف في الوزارة بطريقة اعتبرها الصحفيون غير لائقة،  تقدموا على إثرها  بمذكرة إلى ضياء رشوان نقيب الصحفيين ضد وزير الآثار، معترضين على الطريقة المهينة التي عاملهم بها الوزير.
بدأت القصة باعتراض الصحفيين على عدم وجود أماكن لجلوسهم في الخيمة، فخرج لهم الوزير قائلا: “أنا صارف عليكم مليون إلا ربع حتى آتي بكم إلى هنا، أنتم جايين تشتغلوا ولا تقعدوا، هي دي طريقتنا ، وده أسلوبنا، واللي مش عاجبه ما أشوفش وشه هنا تأني!”
حدث هذا أمام وسائل إعلام أجنبية ، ومندوبي الصحف العالمية،  فقد هدم الوزير كل المشاهد التمثيلية التي عرضها صديقه الوزيري،  وتحول المسرح في دقائق من الاهتمام بالتوابيت المكتشفة إلى المشاحنات بين الوزير والصحفيين والاتهامات المتبادلة.

المثير  أن الدكتور حواس تحول من التمثيل إلى التأليف،  فأبى أن يودع الساحة الأثرية ،  قبل أن يقترن اسمه بكتابة أوبرا عالمية على غرار أوبرا عايدة

أدخل الدكتور زاهي حواس أسلوب المبالغة في التمثيل في عهده فكان هو الوحيد الذي احتكر كل الشاشات مصرية وعالمية،  وبني علاقات وطيدة مع كل شبكات الإعلام العالمية مستخدما أسلوب الإثارة والغموض الذي يحيط بعالم الآثار المصرية،  فكان يستغل في كل مرة علاقاته مع الإعلام العالمي للقيام بدور الممثل في إعلان الاكتشافات الأثرية،  وفتح التوابيت أمام الكاميرات،  وقد حقق شهرة كبيرة لنفسه على حساب الآثار المصرية، وأصبح من رجال الأعمال الأثرياء.
المثير في الأمر أن الدكتور حواس تحول من التمثيل إلى التأليف،  فأبى أن يودع الساحة الأثرية ،  قبل أن يقترن اسمه بكتابة أوبرا عالمية على غرار أوبرا عايدة ، تقرر أن تعرض في افتتاح المتحف المصري الجديد، وهو يرى أن أوبرا عايدة التي مر عليها 148 عاما حتى الآن لم تعد صالحة ولابد من تغييرها،  أما الأوبرا الجديدة من تأليفه فستكون باسم “توت عنخ آمون” وهي المناسبة لحفل افتتاح المتحف المصري،  وأيضا ستناسب مرور 100 عام على اكتشاف مقبرته في 4 من نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
تدور مشاهد الأوبرا الجديدة حول موت الملك إخناتون وتولي نفرتيتي العرش، ومقتل توت عنخ آمون عن طريق ملك كوش وكيف أن حور محب أفشل المؤامرة وقتل جنود كوش. ومشهد آخر حول تولي توت عنخ آمون العرش وآخر لانتصار الملك توت على ملك كوش.
الحقيقة أن هؤلاء العلماء حققوا لأنفسهم دعاية تليفزيونية وإعلامية كبيرة، عادت عليهم بالنفع المادي الكبير، وأضرت بالدعاية العلمية لمصر، فعلماء المصريات في جامعات العالم ينظرون إلى الحقائق العلمية وليس للمشاهد التمثيلية.
أتمنى أن يتنبه القائمون على العمل الأثري في مصر إلي عدم الوقوع في فخ التمثيل مرة أخرى، لأنه يهدد مصداقية الاكتشافات الجديدة، وأن يكونوا أكثر اهتماما وحبا للآثار قبل حبهم لأنفسهم.