ماذا وقد سقط ترمب؟!

 

قبل أقل عام من الآن، كان مجرد التفكير في عدم فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بولاية ثانية ضرباً من الخيال!

فالرجل نجح نجاحاً اقتصادياً مذهلاً، بعد أن تمكن في طريقته في التعامل مع الحليف السعودي في ضخ المليارات من الدولارات للخزانة العامة، ونجح في خفض أسعار الوقود، وتوفير آلاف الوظائف للأمريكيين، والاجماع يكاد يكون منعقداً على أن المواطن الأمريكي ليس مشغولاً سوى بالاقتصاد وليس معنياً بأي شيء خارج حدود الاستفادة الخاصة، وقد استفاد من ترمب كما لم يستفد من رئيس قبله.

وإذ بدأت استطلاعات الرأي تؤكد تفوق منافسه جو بايدين، على أساس أن طريقة ترمب في التعاطي مع فيروس كورونا أضرت بشعبيته، فقد اعتبرها كثيرون تأتي في سياق الدعاية الانتخابية المضادة، فمن يقدر على ترمب، الذي يخاطب الشعوبيين الذين دفعوا به لسدة الحكم في الدورة السابقة، فضلاً عن انحيازه الواضح للبيض العنصريين، بوضوح وبدون مواربة، لابد من أن يمكنه من دورة ثانية مريحة!

وقبل هذا وبعده فقد كسب ثقة وتأييد اليمين الإسرائيلي، وقد قدم لهم ما يمثل سبقاً عظيماً تمثل في الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وكان طيلة السنوات الأربع من عمره في الرئاسة حيث تريده جماعات الضغط اليهودية، وحيث يريده نتنياهو شخصياً، ومن يقدر على اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية؟!

وبسقوطه، تكون الدعاية القديمة قد سقطت معه، فالإنجاز على المسار الاقتصادي وحده لا يكفي، وليس انحياز الحد الأقصى لليمين اليهودي وحده كافياً للفوز، وليس كل مرشح أمريكي تريده إسرائيل، كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها!

لاسيما وأن المنافس له، يبدو على النقيض تماماً من خطابه، فهو لا يوافقه على سياساته الشعوبية، أو في اعلان العداء للمهاجرين وفي القلب منهم المسلمين، وقد قدم خطاباً تعهد فيه بوضوح أنه سيدرج المسلمين في ادارته والعقيدة الإسلامية في المدارس، وأنه سيرفع الحظر المفروض عليهم من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ننسى أن ترمب رفض تماماً الإدانة الواضحة لمقتل أسود برصاص الشرطة، واتخذ موقفاً عدائياً من المهاجرين.

وفي مواجهة انحياز ترمب لديكتاتوره المفضل في القاهرة، كان اعلان بايدين إنه لن يعطي تفويضاً على بياض لديكتاتور ترمب المفضل!

الصخب اليومي:

لقد بدا واضحاً أن المواطن الأمريكي (الأغلبية للدقة) قد أرهقها هذا الصخب اليومي الذي أثاره الرئيس دونالد ترمب على مدى أربع سنوات، بسبب سياسات وتحرشه المستمر بالآخر، وإذا كان المواطن الأمريكي بحسب المعروف عنه أن يحب الخلود للراحة للتخلص من الدوامة اليومية، فقد كان واضحاً أن هذا الصخب أزعج أغلبيته فخرجت لتنتخب منافسه المرشح الجمهوري “جو بايدين”، الذي يعد خياره هو ذاته الخيار التقليدي، وهو الحفاظ على الشكل الأمريكي، منذ أن كانت توصف الولايات المتحدة من جانب دول المستعمرات قديماً بأنها “زعيمة العالم الحر”، والعودة إلى هذا الشكل هو ما يزعج الأنظمة المستبدة في منطقة الشرق الأوسط!

إن حديثاً معاداً ومكرراً حد الملل، عن أن العلاقات الخارجية يحكمها نظام ثابت ومتجمد، وهو ما يتم الترويج له الآن على نطاق واسع، وأن العلاقات الخارجية خارج اهتمام المواطن الأمريكي، وهذا ليس صحيحاً.

لقد خسرت الولايات المتحدة الأمريكية الكثير من سمعتها بسبب سياسات ترمب المنحازة جهاراً نهاراً للطغيان، والحامية له، إلى درجة التساهل مع القتلة، ومع الذين يمارسون قتل الآخر عقاباً لهم!

فضلاً عن هذا فلكل رئيس أمريكي بصمته في العلاقات الخارجية، ولا يمكن مثلاً اعتبار بوش الأب وبوش الابن مثل كلينتون وأوباما، أو الأخير مثل ترمب، ولا يمكن التعامل مع إدارة أمريكية كانت تتحدث عن الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، وتمارس ضغوطاً لصالح معتقلين مصريين مثلاً، مثل سعد الدين إبراهيم وأيمن نور، مثلها مثل إدارة ترمب، التي تجاوزت عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي حد الحماية، وعن اسكات الحقوقيين في مصر بقوة السلاح الذي يشهره الحاكم العسكري!

راعية الاستبداد:

إن الولايات المتحدة الأمريكية هي راعية الاستبداد في المنطقة، وأن الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي تم في عهد أوباما ولم يكن وزير الدفاع الأمريكي غائباً عن المشهد فقد كان على تواصل يومي بنظيره المصري، لكن في المقابل فقد سقط مبارك رغم الحماية الأمريكية له في اليوم الأول للثورة المصرية، وكان بايدين نفسه مع الانحياز لمبارك وضرورة اعطاءه فرصة!

بيد أن الفرق هنا هو في الدرجة وليس في النوع، ويمثل موقف ترمب جهراً بالمعصية  لكن هناك فرق بين من يمارسون الضغوط من أجل تخفيف القبضة الأمنية والافراج عن بعض الشخصيات، وبين من يبدو موافقاً على هذا كله ويعترف بأن بديكتاتورية الدكتاتور ويصفه مع ديكتاتورية بأنه صديقه المفضل، ود لو كان مثله، يملك حق تعديل الدستور ليصبح رئيساً مدى الحياة، وينكل بخصومه السياسيين كما يفعل السيسي فلا تقوم لهم قائمة، وتعن له الوجوه فلا يسمع حتى همسا.

لقد كان مبارك يناور في ملف حقوق الإنسان فينجح حينا ويفشل أحيانا، ويعتمد عامل الوقت، وفي النهاية يمكن أن يرضخ، كما رضخ بعد ادانة سعد الدين إبراهيم في من قبل محكمة الجنايات مرتين، وكما أدين أيمن نور ورفضت دعوى قضائية تطلب بالإفراج الصحي عنه، لكن في النهاية رضخ وأفرج عن الأول بحكم من محكمة النقض بالغ في حيثيات البراءة كما بالغ حكم محكمة الجنايات في حيثيات الإدانة، وأفرج عن الثاني تحت بند الافراج الصحي الذي رفض في مرحلة سابقة بحكم قضائي، وبدا أيمن نور أنه سيبقى في سجنه لانتهاء فترة العقوبة بعد ظهور التحدي للضغط الأمريكي!

كما رضخ نظام مبارك في القضايا الخاصة بمنظمات المجتمع المدني، وإذ اعتقل في مرحلة سابقة حافظ أبو سعده، فلم يجد أمامه من سبيل لمواجهة الضغوط الخارجية سوى الافراج المؤقت عنه ليتمكن من المشاركة في مؤتمر حقوقي في فرنسا كان قد دعي اليه قبل القبض عليه في قضية “الشيك الشهيرة”، وعندما وصلت الرسالة بأنه لن يعود سافر له زكريا عزمي ليقنعه بالعودة بضمان حفظ القضية، حتى لا تستخدم قضيته في تشويه سمعة مبارك، وقد عاد بالفعل وحفظت القضية!

الآن يسري على الحقوقيين ما يسري على السياسيين، ويسري على اليسار ما يسري على اليمين، وتم اسكات منظمات المجتمع المدني بالقوة، وفي ظل حكم ترمب الذي لم يكن معنياً بهؤلاء أو حتى بالسمعة المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية في الانحياز لقضية الديمقراطية، وهناك من هرب للخارج، ومنهم من حوصر بالداخل ممنوعا من السفر على ذمة قضايا كانت تنتظر الفرصة لفتحها، لكن بسقوط ترمب لن تفتح أبداً. وكان السيسي لم يسقط هذه القضايا عن متهمين من شيعته مثل “حافظ أبو سعده”، و”داليا زيادة”، وتساووا مع “نجاد البرعي” في المنع من السفر على ذمة قضية لا تزال مفتوحة في مكتب النائب العام، ونجاد لم يعد يمارس نشاطه الحقوقي في ظل دولة القمع، لكنه لم يندفع مثلهما في الدفاع عن النظام العسكري “عمالاً على بطال”!

شرعية مبارك:

لقد كان نظام مبارك يناور، لأنه يملك شرعية الأمر الواقع، لكن السيسي ومهما حدث من انتخابات فهو يفتقد للشرعية، وإذا كان الأول تحمل الضغوط الأمريكية، مع كونها ليست امرة ناهية ولا تندرج تحت لافتة “افعل ولا تفعل”، فان السيسي لن يمكنه تحمل هذه الضغوط، لأن نظامه وإن تبدى قوياً فليس في قوة نظام مبارك من ناحية القوة السياسية!

وشاهدنا كيف أنه غدا خماصاً وبطاناً ليفرج عن “حسام بهجت” لمجرد اعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنه يشعر بالقلق لاعتقاله، ومن بعدها صارت هناك حصانة لموقعه “مدى مصر”، فيتورط الأمنيون باعتقال رئيسة تحرير الموقع لأنها كانت ستجري حواراً مع الدكتورة ليلى سويف أمام سجن طرة في اليوم التالي للاعتداء عليها وحملها على فض اعتصامها بالقوة، فيطلق سراحها بعد ساعات قليلة من عملية الاعتقال!

يقولون إن الولايات المتحدة الأمريكية لا يعنيها أكثر من مصالحها، وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً هو الوعي بهذه المصالح، فقد يرى ترمب أن المصالح تتحقق في وجود حاكم قوي مثل السيسي، لكن هل يرى بايدن ذلك؟!

إن السيسي يمكنه ان يكون مع بايدن بالشكل الذي يريد، وهو ما سيعمل عليه خلال الأيام القادمة، لكن هل هو نظام مستقر بما يحفظ للمصالح الأمريكية مستقبلها أم أنه يحمل بداخله جينات سقوطه، وإذا كان كانت الإدارة الأمريكية محظوظة في الأولى، فكان البديل لمبارك هو المجلس العسكري، ثم حكم الاخوان، فهل في كل مرة تسلم الجرة؟!

إن جو بايدن لن يمسك عصا ليمد بها السيسي على رجليه كلما اعتقل أحداً، لكنه لن يكون ترمب، والسيسي نفسه يدرك ذلك ومن هناك كانت الافراجات بالجملة خلال الأيام القليلة الماضية، حيث تم الافراج عن قرابة الـ 500 معتقلاً في سابقة هي الأولى من نوعها، ظني أنها خوفاً من القادم الجديد، الذي قال إنه لن يعطي شيكا على بياض لديكتاتور ترمب المفضل!

يقيناً فإن جو بايدن ليس هو دونالد ترمب.. وأعمى من لا يرى من الغربال!

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه