ماكرون:”أدب سيس”!

وهناك ثمة إشكالية أخرى تكمن في خلط ماكرون بين الإسلام و‎أردوغان، ومعلوم أن الرئيس التركي يمثل له صداعا مستمرا، لأن كل المواجهات التي خاضها معه باءت بالفشل.

شهدت الحقبة الاستعمارية الماضية تصدُر بريطانيا وفرنسا قائمة الدول الكبرى في احتلال البلدان الأخرى، والسعي لتكوين إمبراطوريات عظمى على حساب خيراتها وثرواتها واستعباد أهلها، لكن تَباين الاحتلال الفرنسي عن الإنجليزي بأنه تجاوز مرحلة نهب الثروات والتحكم في المقدرات إلى السعي بكل قوة إلى تغيير الهوية، وتفكيك البنية الاجتماعية، وفرض الثقافة الفرنسية في كل شيء لاسيما اللغة، حيث شنت فرنسا حربا شرسة على اللغات الأخرى، وفرضت الفرنسة على اللسان والتعليم، وغاصت داخل المجتمع لتغيير العادات والتقاليد وطريقة التفكير، بينما كان الإنجليز في الغالب يكتفون بوجود عسكري على الأطراف يضمن الهيمنة السياسية والسوق الاقتصادية.

كما سجل التاريخ جرائم وفظائع في تاريخ فرنسا الاستعماري لا تنافسها فيه دولة أخرى، حيثما حلت وأينما حطت رحالها، بل هي من وثقت بعض هذه الجرائم من خلال متحف “الإنسان” ذائع الصيت في باريس، والذي تعرض فيه جماجم وهياكل رموز الثورة ورجال المقاومة الذين قتلتهم ومثلت بهم، وحملت جثثهم تباهيا وتنكيلا بمن يعارضها، وعرضتها في المتحف، وكانت الجزائر قد استردت مؤخرا جماجم بعض شهداء الثورة الجزائرية الذين قاوموا الاحتلال الفرنسي الذي زاد عن مائة وثلاثين سنة، ارتكبت فيها فرنسا من الجرائم ما يعادل جرائمها في كل الدول التي احتلتها، ويكفي أن نعرف أنها قتلت في يوم 8 مايو 1945 خمسة وأربعين ألف شهيد من سكان بلدة سطيف وما حولها، وبلغ مجموع من قتلته من الجزائريين حوالي سبعة ملايين منهم أكثر من مليون شهيد إبان ثورة التحرير التي استمرت سبع سنوات. وعندما عقدت فرنسا العزم على الرحيل قامت بتجربة قنابلها النووية في صحراء الجزائر، مخلفة آثارا وأضرارا على البيئة والإنسان ما زالت تعاني منها الأجيال حتى الآن.

عنصرية دفينة

ثم يأتي الرئيس إيمانويل ماكرون ليعطي دروسا عن الجمهورية الفرنسية وسماتها الحضارية، وخشيته من الإسلام على مستقبلها ومقوماتها، بل أبان عن حقد مستتر وكشف عن عنصرية دفينة عندما تهجم على الإسلام كدين، ووصفه بأنه في أزمة، وهذا تطور خطير وانتقال مباشر للإساءة إلى الديانة نفسها، وليس بعض من يؤمن بها أو ينتسب إليها، واستخدم عبارات تنم عن عنصرية دينية تنافي ما يتشدق به من العلمانية الفرنسية التي تفصل الدين عن الدولة، والواقع يشهد بخلاف ذلك.
 وخذ مثالا قضية الحجاب سترى أن فرنسا سخرت كل إمكاناتها لمحاربة تغطية الرأس، واعتبرت الحجاب رمزا دينيا يدل على الإسلام، وليس على الرغبة في الاحتشام، واعتبرته شعارا عقديا وليس حتى من باب الحرية الشخصية، ورأينا في الأسابيع الماضية كيف انتفض نواب في البرلمان الفرنسي وغادروا القاعة لأن مدرسة فرنسية دخلت وعلى رأسها حجاب، بما يؤكد أن البطحة على رؤوسهم وفي نفوسهم، وأن الأزمة الحقيقية في عنصريتهم، وفي الفشل المتكرر الذي لازم ماكرون من بداية حكمه، وسعيه لاستمالة المتطرفين بهذا الطرح البغيض، ومحاولة التعلق بأذيال أي نجاح موهوم ولو خارج الحدود، كما رأينا في أزمة مرفأ بيروت حيث أصر على قيادة المشهد في لبنان، وتلقي القبلات والأحضان، لعلها تنسيه أصحاب السترات الصفراء، وتراكمات الفشل في الداخل‏.

الإسلام وأردوغان

وهناك ثمة إشكالية أخرى تكمن في خلط ماكرون بين الإسلام وأردوغان، ومعلوم أن الرئيس التركي يمثل له صداعا مستمرا، لأن كل المواجهات التي خاضها معه باءت بالفشل، ورجع منها يجر أذيال الندم، بداية من ليبيا مرورا بمشكلة شرق المتوسط والخلاف مع اليونان، وأخيرا في أرمينيا وأذربيجان !

لذا كان رد الرئيس التركي قاسيا ومناسبا لتهجم ماكرون على دين الإسلام حيث وصف تصريحاته بالوقاحة وقلة الأدب مستخدما تعبير “أدب سيس”.

وبخلاف رد أردوغان لم نسمع صوتا لأي رئيس أو مسؤول عربي، بل تردد أبواقهم بأن أردوغان يداعب عواطف الجماهير، وكأن ولاة أمورهم لا عندهم عواطف ولا محاسن؟

أما على الصعيد الشعبي فكانت ردة الفعل غاضبة وعج الفضاء الإلكتروني والإعلام الخاص بالتنديد بتصريحات ماكرون وعنصريته، وتفنن الشباب في بيان أزمات ماكرون الحقيقة.

كما سجل العلماء والهيئات والمؤسسات العلمائية مواكبة للحدث، فدحضوا الشبهة، وأقاموا الحجة، وفي مقدمتهم الأزهر الشريف عبر المشيخة وهيئة كبار العلماء حيث أكدوا على أن هذه التصريحات عبارة عن تهم زائفة، وخلط معيب يوظف لتحقيق أغراض هابطة.

و أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ردا على ماكرون بالإضافة إلى تأكيد فضيلة د. علي القره داغي الأمين العام للاتحاد على أن ماكرون في أزمة انتكاس أخلاقي، وأن الإسلام لا يتحمل وزر قيادات كرتونية مزيفة صنعت الأزمات برعاية منهم.

كما أصدر مفتي سلطنة عمان فضيلة الشيخ أحمد الخليلي بيانا ذكر فيه أن ما جاء على لسان ماكرون من سعير الحقد إنما يظهر ما انطوت عليه النفس من الكراهية والبغض.

 هذه مواقف مشكورة لكنها محدودة بالنسبة للعالم الإسلامي الكبير، الذي طُعن في معتقده، ولم تظهر منه ردة الفعل المناسبة لهذا للجرم، ليتهم غضبوا لدينهم كغضبتهم لحرق أعلام الدول، أو تشويه صورة الرؤساء! 

إن الذين لم يشغلهم الأمر وغضوا عنه الطرف، عليهم مراجعة علاقتهم بالإسلام، وصحة انتسابهم إليه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه