علماء الهند وآراء جديدة في حد الرجم

 

نحن في المشرق العربي والإسلامي عندنا – للأسف – عدم اطلاع على المدارس الفقهية والعلمية الأخرى، فكنا نعاني من جهلنا بالمدرسة الفقهية في المغرب العربي، وبدأ استدراك ذلك في السنوات الأخيرة، ثم لا زلنا في تجاهل أو عدم اطلاع جيد بالمدارس العلمية في الهند، وهي مدارس أنتجت جهدا علميا كبيرا، سواء في مجال دراسة السنة النبوية المطهرة، من حيث دراسة الأسانيد، أو من حيث شروح السنة، أو في مجال الفقه الإسلامي، وفي مجال الفكر الإسلامي كذلك، اطلعنا على بعضه، كأبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، من المعاصرين في مجال الفكر، لكن يظل مجال السنة والفقه، فيه دراسات وكتب تعد إضافة قوية للمدرسة الهندية في هذين المجالين، لا يزال لدينا جهل بجهودهم فيها.

علماء من شبه القارة الهندية والرجم:

وبينما أُعد كتاباً لي للطباعة عن موضوع: (الرجم)، وهل هو حد أم لا؟ وكنت قد نشرت مقالات حول الموضوع، فتواصل معي بعض طلبة العلم من الهند وباكستان، وأخبروني أن هناك من قال بنفس الآراء التي تنفي الرجم حدًّا، وكان الخبر بالنسبة لي مفاجأة علمية، فقد كنا نعتقد أن علماء العرب، وبخاصة علماء مصر مثل: عبد المتعال الصعيدي، وعبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، ويوسف القرضاوي، وغيرهم، هم من تناولوا موضوع (الرجم) بالحديث، وامتلكوا جرأة مناقشته، ونقاش نصوصه، ولو نقاشا خفيفا، في صفحات قليلة جدا، وفي إطار نقاش مغلق داخل حوار فقهي علمائي محدود، أو من خلال بعض كتابات قليلة، ليست معمقة للموضوع، ولا تعطي تصورا كاملا عنه.

لكن كانت المفاجأة بالنسبة لي، وأعتقد أنها ستكون بالنسبة للمعنيين بالدراسات الفقهية، أن نجد نفس الأفكار الفقهية التي قال بها معاصرون عرب، سبقهم إليها علماء من شبه القارة الهندية، وسوف أعرض ملخصا لآرائهم تاركا التفصيل في سياق آخر إن شاء الله، ومنهم من يعتبر أسبق من كل العرب المعاصرين، وعلى رأسهم: الشيخ عبد الحميد الفراهي، وقد توفي سنة 1930م. وغيره من علماء شبه القارة الهندية.

ومصدر المعلومات الواردة هنا، هو كتاب (هو الجلد لا النفي ولا الرجم) للدكتور محمد عناية الله أسد سبحاني، وهو كتاب كبير، مملوء بالمعلومات المهمة والمفيدة، والنقاشات الجديدة في الموضوع، فنقل فيه عن العلماء الهنود الذين ناقشوا قضية الرجم، ولهم فيها رأي يرفضه حدا.

عبد الحميد الفراهي:

ومن أوائل من بلغنا رأيه في الرجم، من حيث رفضه حداً، بل ربما ذهب إلى أنه عقوبة للحرابة، أحد علماء الهند الكبار، وهو عبد الحميد الفراهي، فقد تناول أحاديث الرجم، وآيات الجلد في القرآن، فقال:

(فاعلم أن الأصل الأصيل هو التوفيق بين السنة والكتاب، فلا يصار إلى النسخ بمجرد الظن.

وفي قول الرسول عليه الصلاة والسلام دلالة واضحة على أن البكر بالبكر يلزمه مائة جلدة وتغريب عام، وفي رواية: ثم تغريب عام، وكذلك جاء” ثم رجم بالحجارة” في أمر الثيب بالثيب.

فعلم أن أول الحد هو مائة جلدة لكليهما، ثم إذا تكرر الإثم بعد الحد فالأولى بهما أن يعذبا عذابا أشد فإنهما تجرءا على حدود الله.

وقد نطق الكتاب بتعذيب المفسدين في الأرض، والمتعدين حدود الله بدرجات من العذاب من التقتيل والتصليب وتقطيع الأطراف والنفي حسب درجات الإثم.

وقد صرح النبي عليه الصلاة والسلام في أمر ماعز بأنه نكال، وبأنه ارتكب إثما عظيما، فقال صلى الله عليه وسلم: “كلما نفرنا غازين في سبيل الله، تخلف أحدكم ينب نبيب التيس، يمنح إحداهن الكثبة، إن الله لا يمكني من أحد منهم إلا جعلته نكالا” أو”نكلته”.

وأما رجم اليهودية فقد قضى عليها بالتوراة، وكان صلى الله عليه وسلم يقضي بها قبل حكم الله في القرآن. وفي صحيح مسلم أنهم لم يعلموا هل كان الرجم قبل آية الجلد أم بعدها.

وبالجملة فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى في الثيب بأشد النكال، وفي البكر بأخفه حسب آية سورة المائدة، إذا ارتكبا الجريمة مرة أخرى. ولذلك قال: “ثم” و”الواو” ربما تأتي بمعنى: “ثم”.[1]

وبهذا الرأي يعتبر الفراهيدي أسبق من أسماء العلماء العرب الذين ذكرناهم، فالرجل توفي سنة 1930، ورأيه يعتبر أول المعاصرين قولا بذلك.

جليل أحسن الندوي:

ومن هؤلاء: العلامة جليل أحسن الندوي، وقد كان الشيخ معروفا في شبه القارة الهندية بغزارة علمه، وعلو كعبه في لسان العرب، وبنظراته الثاقبة في التفسير القرآن الكريم، يقول رحمه الله:

(أنزل الله تعالى في سورة النور عقوبة مائة جلدة إنجازا لوعده في سورة النساء، حيث وعد في شأن النساء اللاتي يأتين الفاحشة، فقال: (فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) النساء: 15. فكانت آية: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) إنجازا للوعد الذي يفهم من قوله تعالى: (أو يجعل الله لهن سبيلا).

واللفظ في الآية عام مطلق من غير تحديد ولا تخصيص: (الزانية والزاني) هكذا بدون قيد المحصن أو غير المحصن. وجاء في نفس الآية لفظ: (عذابهما) والمراد به عند أئمة التفسير قاطبة: مائدة جلدة.

وجاء بعده في الآية الثامنة في شأن المرأة التي رماها زوجها: (ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين. والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) النور: 9،8. فما المراد بالعذاب في هذه الآية، وإن نكلت المرأة عن الشهادة المطلوبة فماذا يُفعل بها؟

لو كان في الآية (عذابا) بالتنكير دون (العذاب) المعرف بالألف واللام لقلنا يجوز أن تراد به أي عقوبة تناسب المرأة التي رماها زوجها، ولكن الأمر على العكس، حيث جاء اللفظ معرفا بالألف واللام. وإذًا فلا بد أن يفسر العذاب في الآية الثامنة في ضوء سياقه، ولا بد أن يفسر بما فسّر به (عذابهما) في الآية الثانية، وهو مائة جلدة.

وليس هناك أي دليل يصرفنا عن هذا التأويل، ويدفعنا إلى تفسيره بالحبس، كما ذهب إليه فريق من العلماء والمفسرين. وإذا تعين أن المراد بالعذاب في الآية مائة جلدة، فلا يعزبنّ عن بالنا أن الحديث يدور حول المرأة المحصنة المتزوجة دون المرأة الباكرة غير المحصنة.

هذا كله يسوقنا إلى القول بأن لفظ (الزانية والزاني) في الآية عام مطلق يعمّ المحصن وغير المحصن، ولا يصح تخصيصه بالبكر، والحد المذكور في الآية، وهو مائة جلدة، حدّ لكل من زنى من الرجال والنساء، محصنا كان أم غير محصن). [2]

محمد عناية الله أسد سبحاني:

ومن الكتب المهمة التي ناقشت موضوع الرجم نقاشا مستفيضا، عالم هندي كبير هو الأستاذ الدكتور محمد عناية الله أسد سبحاني، وقد كتب كتابا بعنوان: (حقيقة الرجم)، منذ أكثر من ربع قرن، وأحدث الكتاب ضجة وقتها، وظل الكتاب منشورا بالأردية طوال هذه السنوات، حتى نشره بالعربية سنة 2020م، بعنوان: (هو الجلد لا النفي ولا الرجم) في حوالي: (260) صفحة.

والكتاب والكاتب نظلمهما بالحديث عن الجهد المبذول في أسطر قليلة، وقد قام بمناقشة جل النصوص القرآنية والنبوية في الموضوع، وأسهب إسهابا كبيرا في نقاش نصوص السنة، وزاد على ما يكتبه العرب في الاستدلال بالمراجع والمصادر التراثية، أن الرجل ملم بكتابات علماء شبه القارة الهندية، في علوم القرآن والحديث، فأضاف لنا أسماء مجهولة في القول بنفي الرجم حدًّا.

وهو يقترب من رأيه مع الشيخ الفراهي من الهند، ومع الشيخ محمد البنا من مصر، فقد قالا بأن الرجم عقوبة الإفساد في الأرض، وأنها حرابة، وإن كان نقده للنصوص التي ناقشها تنتهي به إلى نفي الرجم، لكن الكتاب مبذول فيه جهد علمي كبير، لعل قراء العربية يطلعون عليه.

إن كتاب: (هو الجلد لا النفي ولا الرجم) للدكتور سبحاني، يعطينا عدة ملامح مهمة منها: أن أهل التجديد الفقهي والفكري، مهما تباعدت بينهم مسافات الجغرافيا، أو الزمن، فالخط بينهم واحد، وقريب جدا، لأنه خط فكري وعقلي ينطلق من مبادئ مهمة، وهي: أولوية التجديد في الإسلام، وأهميته.

الملمح الثاني المهم: أن الإنسان مهما أوتي من العلم، يظل لديه مساحة جهل كبيرة، يحاول قدر استطاعته أن يملأها، وعليه ألا يتعصب لمدرسة فقهية، أو فكرية، بحكم الجغرافيا، أو بحكم التاريخ، فربما استفاد العالم أو الباحث من رأي علمي، لا يتوقع أن يجده في هذا المكان، أو الكتاب.

وأخيرا: هي دعوة للاطلاع الأكثر على الإنتاج الفقهي والفكري والعلمي لمدرسة شبه القارة الهندية، وهي مملوءة بالعلم، وزاخرة بالعطاء الكبير، ومن المهم الوقوف عليها، والاستفادة منها، ومن عطائها.ج


[1] انظر: رسائل في علوم القرآن المجموعة الثانية ص: 123،122، طبعة الدائرة الحميدية بالهند، نقلا عن: هو الجلد لا النفي ولا الرجم للأستاذ الدكتور محمد عناية الله أسد سبحاني ص: 111.

[2] انظر: هو الجلد لا النفي ولا الرجم للأستاذ الدكتور محمد عناية الله أسد سبحاني ص: 26،25.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه