المسلمون والغرب: المشكلة المركبة

 

إن علاقة الغرب بالعرب والمسلمين لهي مثال تقليدي عن مدى تأثر المشاعر والعواطف في كتابات التاريخ. وكان هذا وضعا له مبرراته في عصر اعتبر فيه الإسلام أمرا غير مرغوب فيه لخطره الوهمي، وإن نظرة القرون الوسطى هذه لم تننته بعد، إذ أنه ما تزال حتى يومنا هذا جماعة متحجرة العقول متصهينة الأنا، إلى جانب أناس جعل الفجور في الخصومة منهم أبالسة مجرمين بشعين بعيدين عن التسامح الديني، يبنون الحواجز أمام الدين الإسلامي.

 وبين صعود المناهج الوضعية وانهيار الشهود الإسلامي، يغدو اﻹسلام في مرمى استهداف القوى الصاعدة حضاريا، ليس على خلفية المصالح والمطامع والتنافس الاستخرابي البحت من أجل الهيمنة على مناطق النفوذ، كلا بل هو صراع وجود له منطلقاته العقدية، التي تورث من جيل لجيل في منظومة الثقافة الغربية.

ضبط العلاقة

ومن المسائل الشائكة في عالم أفكارنا كيفية التعرف على الغرب ومعرفة أنساقه الفكرية وتجربته الحضارية وخصائصه التي تميزه عن غيره من الكيانات الحضارية. ولذلك تواجهنا مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية دقيقة تساهم في فهم الغرب وتوفير آليات منهجية للتعامل معه.
وهنا يُثار تساؤل عن كيفية ضبط العلاقة مع الغرب؛ إذ إن الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة به، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالعالم كله وبالعالم الإسلامي بوجه خاص
وهنا يأتي علم الاستغراب كعلم يقوم على دراسة الغرب دراسة موضوعية عقلانية متبصرة.  وهذا العلم لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب -كما يعتقد كثير من التغريبيين أو غيرهم من دعاة الأصالة الإسلامية- وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة.

أوجه النقص

فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة، وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.

والمتأمل في هذه التجربة الحضارية الغربية التي تصادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية؛ إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوّم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا.
وحتى تُنظّم هذه العلاقات، ويُستفاد من هذه التجربة البشرية، ويُدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبسترة، وأفكارنا عنه عامة، وغير نابعة من اطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا.

إن الاطلاع على ثقافة الغرب قديمها وحديثها اطلاعا واسعا وعميقا من شأنه أن يمكننا من نظرة موضوعية إلى الغرب تصيب كبد الحق.. وإن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاري والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر. ينبغي أن يكون أحد مجاريه قسمًا من ثوابت الدين الإسلامي وشرائعه وتشريعاته، كي يعود إلى تناغم الفطرة الإنسانية فتحقق التوازن النفسي والاستقرار المجتمعي؛ لأن الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم يُحدث فيها هذا الماء الآسن العفن خلاف المقصود؛ ذلك أن التيارات الفكرية، والحركات المعاصرة، تشكل تيارًا جارفًا يزحف على المجتمعات الإنسانية في دهاء؛ ليصرف المجتمعات العربية عن حركة الحياة، ويشغلها بما هو بعيد عنها..

التيارات الزاحفة

ولقد عانت المجتمعات العربية والإسلامية من التيارات الفكرية الزاحفة، وشغل الناس بها. مما صرف الناس عن المواكبة العلمية، والفهم الصحيح لمبادئ الإسلام.  لأن الوصول بالمسلمين إلى قناعات تناقض تلك الثوابت هو نوع من الانهزام النفسي، في المراحل اﻷكثر انحدارا في المسار الحضاري، على أننا لابد أن نرصد حالة الهوان التي أدت لتنحية اﻹسلام وتغييبه كمنهج حياة لدى معتنقيه في خطة آتت أكلها، بما يلزم الحاجة الملحة لعملية بعث جديد وإحياء للإسلام في السلوك اﻹنساني بما يجعله أهلا لتصدر يشبع جوعة البشر لنور قيمه ومثله في محك كالذي نعيشه وظرف كالذي نعانيه، فعلى وقعه تتربى اﻷمة وتتجدد معان وقيم تؤهل لتشكل جنيني بمعايير التمكين القادم، ولو استغرق قرنا في عملية هندسة وراثية طبيعية على محكات وأحداث .

وقد لا يكون المرء مجانبًا للصواب، إذا ما تأكد لديه أن ما تعانيه المجتمعات الإسلامية من هزائم فكرية، ودينية واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، هو نتيجة حتمية لانهدام الشخصية الإسلامية. ويكاد يكون معروفا، أن أخطر ما تتعرض له الأمة هو هدم شخصيتها الإسلامية هدما عقديًا، وثقافيًا وسلوكيا. ولعل طبيعة الهدم لم تنشأ إلا من جراء انهدام الشخصية، وما أعقب ذلك من غياب الفاعلية في حياة المسلم. لذلك بات من الضروري أن تتنبه مجتمعات الأمة الإسلامية للأخطار الفكرية، والتيارات الهدامة التي تحدق بالأمة. ومن حق الأمة الإسلامية أن تتبصر المواقع، وتتعرف على طريق الصواب. ولا بد لهذه الأمة أن تدرك وجودها، وتبحث عن مكانتها التي نيطت بها.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه