“أمين المهدي”! من “أمين المهدي”؟

هل هي محض مصادفة، أن يجمع بين “محمد منير”، و”أمين المهدي”، وكلاهما ينتمي لليسار الوطني، أن يكون الإفراج عنهما سريعاً.

 

كأن من الرشد أن نتمهل قبل الفرح بالإفراج السريع عمن يتم اعتقالهم!

فعندما قرأت خبر وفاة القطب اليساري المعروف “أمين المهدي”، اعتقدت للوهلة الأولى أنه مات داخل السجن، فكان آخر ما قرأته عنه هو اعتقاله منذ شهر مضى، والذي على أساسه عرفنا أنه داخل مصر، وكنا نظن لمعارضته الشجاعة للحكم العسكري أنه بالخارج!

ولم أكن أدري سوى في وقت لاحق، أنه تم الافراج عنه قبل عدة أيام، ولعمليات الاعتقال الكثيرة، فقد صارت تنسي بعضها بعضاً، فلا نعرف من أفرج عنه ومن هو قيد التحقيق؟، ولعل السبب فضلاً عن هذا، أنني لست ممن يهتمون بأخبار الإفراجات، لأنها خطوة يتبعها في كثير من الأحيان ندم، ولهذا فقد طلبت أكثر من مرة أن يمتنع البعض عن إعلان سعادتهم بقرارات الإفراج حتى لا تنتبه أجهزة الأمن إلى حجم السعادة، فتقدم على إجراء متبع في هذه الحالات وهو إعادة الاعتقال!

وبدا لي أن البعض، لعدم الأخذ بهذه النصيحة، ليس مشغولاً بأكثر من الاهتمام بمنشوره، وبهذا الإجراء الذي له علاقة وثيقة بالواجبات الاجتماعية، فرغم تكرار إعادة الاعتقال، فإنهم لم ينتظروا أبداً حتى وصول المفرج عنه إلى بيته، والتأكد من أن قرار الافراج نهائي!

لماذا الإفراج السريع؟

وقد تبين لنا أنه تم الإفراج عن “أمين المهدي”، فلماذا تم اعتقاله سريعاً إذا كان سيفرج عنه سريعاً على عكس ما هو متبع؟ فالحبس الاحتياطي يصل في كثير من الحالات إلى أكثر من أربع سنوات، وإذا كان القانون قد حدده في هذه القضايا بعامين، فإن الجديد في عالم الاستبداد في مصر، هو أن يتم إعادة الحبس بإعلان أن المفرج عنه ارتكب جريمة وهو داخل السجن بالتواصل مع الجماعة الإرهابية والتعاون معها على تحقيق أهدافها، دون أن تكون الجهات الأمنية وجهات التحقيق مطالبة بالكشف عمن تواصل معهم هذا الشقي، الذي هو من أهل الخطوة بدليل أنه يرتكب جريمة الاتصال بينما هو في حبس انفرادي مجرداً من وسائل التواصل ما ظهر منها وما بطن!

ربما يرجع عدم ذيوع خبر الإفراج عن “أمين المهدي” لأنه ليس محسوباً على المرابطين على منصات التواصل، فهو ليس محسوباً على الإسلاميين، وليس قريباً منهم، ثم إنه ينتمي لتيار انحاز للانقلاب، حتى إذا تبين له الرشد من الغي، لاذ بالصمت فلا يقدر على مواجهة هذا الحاكم الذي يشهر السلاح في وجه الجميع، إلا من كان في شجاعة “أمين المهدي”، ثم إنه لا ينتمي إلى جيل الشباب الناشط عبر منصات التواصل وليس قريباً منه ليروجوا لخبر الإفراج عنه، والذي تبين أنه ليس مبهجاً على الإطلاق!

حالة محمد منير

فهذا الإفراج السريع ذكرنا بحالة الزميل والصديق محمد منير، الذي أفرجوا عنه بعد أقل من شهر من اعتقاله، ربما نفس الفترة الزمنية التي قضاها “أمين المهدي” في السجن، وعندما توفيا داخل المستشفى أيضاً، كانت المدة من تاريخ الاعتقال إلى تاريخ الوفاة واحدة وفي حدود الشهر، وإذا كان “منير” قد دخل المستشفى بعد إصابته بكورنا، فلم نعلم أي مرض أصاب “المهدي”، والذي نقل لي أحد أصدقائه أنه اتصل به وهو على سرير المرض، فأخبره أنه بحاجة إلى فترة لترميم صحته التي انهارت في السجن، ولم ينقل ما أصابه بالضبط، ولعله كان أحسن حالاً من “محمد منير”، الذي جردوه من هاتفه الجوال بمجرد دخوله للمستشفى بدون ضرورة طبية، وهو أمر لابد وأن يكون موضوع تحقيق ذات يوم مع صاحب سلطة تجريده من هاتفه والدوافع وراء ذلك.

هل هي محض مصادفة، أن يجمع بين “محمد منير”، و”أمين المهدي”، وكلاهما ينتمي لليسار الوطني، وأن يكون الإفراج عنهما سريعاً، وأن تكون فترة الأزمة من الاعتقال إلى الوفاة في المستشفى هي في حدود الشهر الواحد؟!

عندما اتصلت بمحمد منير هاتفياً عقب الإفراج عنه أخبرني أنهم وهم ينهون إجراءات الخروج من السجن لم يطلبوا منه شيئاً، فلا طلب منه بالتوقف عن الكتابة لموقع الجزيرة مباشر، أو الامتناع عن الظهور على شاشتها، بل إن ضابطاً أخبره أنهم ليسوا طرفاً في أي مطالب من هذا النوع كان ينقلها له شقيقه وبإلحاح، وضحكنا وأنا أقول له إنهم اطمئنوا لمن يقوم بالمهمة متطوعاً، فما حاجتهم لممارسة ضغوط عليك قد تكون نتيجتها عكسية؟
 فهل كانوا يدركون أنه لم يعد في العمر بقية ليكون متاحاً له الظهور على شاشة الجزيرة أو الكتابة لأحد منصاتها أو معارضة الحكم في أي وسيلة إعلامية أخرى؟!

من أمين المهدي؟

لم أكن صديقاً لأمين المهدي، بل لم التق به سوى مرات قليلة في ندوات الجمعية المصرية للتنوير في بداية التسعينات عقب اغتيال الدكتور فرج فودة، وعلمت أن الكتب التي صدرت للفقيد بعد اغتياله مثل “لم يكن كلاماً في الهواء”، و”زواج المتعة” صدرت عن دار نشر يملكها “أمين المهدي”، وربما توقف عن النشر لخسارة مالية لحقت به ولأن النشر ليس مهنته، ليعود اسمه ينشر في الصحف كأحد المروجين للتطبيع مع إسرائيل في منتصف التسعينات، في فترة انتكاسة السياسة في مصر، وسقوط كثير من الثوابت السياسية، فمعظم المناضلين المنتسبين لليسار من جيل السبعينات غادر المشهد السياسي وذهب يهتم بذاته، ومن بقي فيه ذهب لعقد صفقات الهوان مع أهل الحكم، وفي صفقات تبدأ بالحصول على بدل التفرغ الشهري من وزارة الثقافة، وتنتهي بعضوية البرلمان، كل حسب وزنه!

وفي مرحلة كهذه لم يكن غريباً أن أحد الأصوات المقاتلة ضد الصلح مع اسرائيل هو لطفي الخولي، ينتهي به المطاف عراباً للتطبيع. ومع بداية الحراك عاد بعض اليساريين المتقاعدين للمشهد السياسي مثل المجموعة التي أسست بأموالها جريدة “البديل”، ثم توارت سريعاً، للشعور بالترهل، أو تأكدها من عدم القدرة على حسم الصراع مع هذا النظام الطفيلي.

ولم تكن خيانة للمبادئ العليا، بقدر ما هو الشعور بالهزيمة الداخلية، في مواجهة نظام قام بتمييع الحياة السياسية، ولا ننسى أن الضربة القاصمة كانت بسقوط الاتحاد السوفيتي والذي كان زلالاً هزمهم قبل أن يهزمهم العدو، وعندما كان البعض يتحدث عن خيانة المثقفين، بقبول فتات السلطة كنت أقول ولماذا لا نتحدث عن خيانة العامة لقضاياهم والتنكر للمثقف الذي يتبنى هذه القضايا؟

بيد أن ثورة يناير عالجت جروح كثيرين، وإذا كان هناك من ارتكب الفاحشة بالانحياز للانقلاب العسكري فخارت قواه وفقد العزيمة، فإن “أمين المهدي” كانت كلماته في مواجهته كالرصاص، وهو يطلب بعودة الجيش لثكناته، وإخراجه من ساحة السياسة ومجال الاقتصاد.

إنها حُسن الخاتمة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه