“النيل” في عقيدة الفرعون

 

” إذا انخفض منسوب النهر، فليهرع كل جنود الفرعون ولا يعودون إلا بعد تحرير النيل مما يقيد جريانه.”

هذه الكلمات منقوشة على لوحة فرعونية بمقياس النيل بالمنيل جنوب غربي القاهرة، وتوضح أنه منذ بداية التاريخ وفي عصور الفراعنة كان لنهر النيل قدسيته وجلاله، بحيث إن مجرد انخفاض منسوب النهر كان لابد وأن يتحرك جيش الفرعون جميعه لكي يعود جريان النهر كما كان.

 ولكن في أيامنا هذه نجد أن النهر معرض لعدم الجريان بسبب بناء دولة أثيوبيا لسد النهضة ولسدود أخري عليه؛ فلا شيء بل ويتقاعس النظام ويوافق على وثيقة بناء السد  حيث قام الجنرال منفردا بالتوقيع عليها في  الخرطوم مارس/ أذار 2015، والذى لم يتم التطرق فيها للاتفاقيات الدولية التي تنظم استخدامات مياه النيل حيث إنه اقتصر فقط على قواعد ملء وتشغيل السد، حتى جاء الإعلان الأخير بعد الجولة الرابعة عن فشل المفاوضات والذى كان متوقعا لكل من يفهم، بل الأدهى أن وزير المياه الأثيوبي بعد فشل المفاوضات صرح  بأن إثيوبيا سوف تقوم بملء السد هذا الصيف، أي أنه بغض النظر عن الاتفاق أو عدم الاتفاق ستفعل إثيوبيا ما تشاء

 فشل وحنث بالقسم

وهكذا بعد فترة من المفاوضات الهلامية التي لم نعرف عنها شيئا، خرج علينا النظام المصري الحالي ليقول في وصلة ندب وشق للجيوب كمن اكتشف خيانة حبيبته بعد فترة من الحب العذري إن المفاوضات مع الجانب الأثيوبي فشلت ودخلت في طريق مسدود وإن مصر تطالب المجتمع الدولي بالتدخل.

لقد تعامل النظام مع الأزمة الخطيرة مستخدما طريقة جديدة تسجل باسم الجنرال في التاريخ السياسي وتاريخ المفاوضات والاتفاقيات بصورة خاصة، وهو أن يردد الطرف الإثيوبي متمثلا في رئيس الوزراء آبي أحمد وراء الجنرال قسما باللغة العربية على الهواء مباشرة وأمام كل كاميرات محطات التلفزة العالمية بأنه لن يضر مصر أبدا، وهو بالطبع لا يفهم ما يمليه عليه الجنرال، ورأينا الصحف في اليوم التالي تنشر عناوين ضخمة وتقول “السيسي حلها”.

الأمن القومي والنهر

“على الفرعون أن يستعد لتأمين النهر، وتأديب الهكسوس والحيثيين، وطرد شعوب الشمال “

هكذا كان الأمن القومي منذ عهد الفراعنة، ومكتوب على المعابد والمسلات أن الفرعون متأهب بجنوده دوماً لحماية نهر النيل، وكانت صلاة المصري القديم هي:

” الحمد لك يا أيها النيل الذي يخرج من الأرض ويأتي ليطعم مصر، تلك المياه والرياض التي خلقها (رع) لتطعم كل القطعان، والتي تروي أرض الصحراء البعيدة عن الماء، إنها نداه الذي يسقط من السماء “.

 هكذا كان يصلي المصري القديم لهذا النهر العظيم، حيث ارتبط فيضان النيل بطقوس شبه مقدّسة، فقد كانوا يقيمون احتفالات “وفاء النيل” ابتهاجاً بالفيضان، كما قاموا بتسجيل هذه الاحتفالات في صورة نحت ونقوش على جدران معابدهم ومقابرهم والأهرامات، لبيان مدى تقديسهم لهذا الفيضان، في الوقت الذي يفرط أحفادهم متمثلون في القيادة الحالية في هذا النهر كما فرطوا في الأرض.

وللأسف وفق آراء الخبراء المتخصصين في المياه والسدود فإن كارثة التفريط في مياه النيل سوف تؤدي إلى بوار ملايين الأفدنة وتشريد ملايين المصريين في السنوات الأولي لملء السد، وفى حالة انهياره فإن مناطق كثيرة في السودان كالخرطوم وبعض محافظات مصر سوف تغرق، والحل هو انسحاب مصر من هذه الاتفاقية التي وقعها السيسي منفردا، وبدء مفاوضات جديدة تضمن لمصر حقوقها وفق المعاهدات القديمة الخاصة بالمياه مع دول المنبع، خاصة أن مصر تعتمد على مياه النيل بنسبة 95 % من حاجتها للمياه.

الحل الكارثي

ولكن من الغريب أن النظام الذي فرط في مياه النيل عن عمد وظل على مدى السنوات الماضية يؤكد في كل مناسبة عدم تأثر حصة مصر من المياه بسبب سد النهضة هو نفسه الذي يسوق الآن لمشكلة نقص مياه النيل، بل الأغرب هو أن بعض السذج كانوا يظنون أن هذه المفاوضات كان من الممكن أن تنجح في ظل وجود هذا النظام!!

وتتبقى من المفاوضات الجارية الاجتماع الأخير في واشنطن خلال هذا الشهر، وللأسف بعد أن سحبت مصر مقترحها حول اشتراط تدفق 40 مليار متر مكعب من المياه سنويا لصالح مصر وهو أقل من حصة مصر بـ 15 مليار متر مكعب، ويبدو أن الحل سيتم فرضه علينا فرضا في اجتماع واشنطن الأخير، وسيقبل الوفد المصري بما يقدمه الجانب الأمريكي أو يمليه عليه للأسف من تسوية ستكون مصر هى الخاسر الأكبر فيها.

وقد تزداد المشكلة وتتعقد ويتصاعد الخط الدرامي للسيناريو ونحن نحبس أنفاسنا ونغرق في بحر من الخوف والهلع حتى تأتى لحظة الانفراج وهى موافقة إثيوبيا على عدم إنقاص حصة مصر من مياه النيل بشرط أن تحصل “إسرائيل” على حصة من المياه وعندها سيخرج إعلام التضليل والنفاق ليقول لك: ” المهم إن حصتنا ثابتة ولن تتأثر”!

وهكذا يأتي الحل على أيدي “إسرائيل”، ولم لا وقد جعلنا الطرف الأمريكي راعيا رسميا للمفاوضات، وكأننا جعلنا الذئب يرعى الغنم لأن أمريكيا ليست راعيا نزيها ومصلحتها هي مصلحة الكيان المحتل، وليس من مصلحتها رفع السكين من على رقبة الحليف المصري الذي ينفذ لها كل ما تطلب بدون شرط أو قيد، لتظل أزمة التفريط في النيل فرقانا بين الوطنية والخيانة حتى يتم حلها.

الفرعون القديم كان حريصا على مياه النيل، أما الفرعون الجديد فهو حريص على مصلحة “تل أبيب”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه