الإضراب عن الطعام.. نضال وشهادة أم انتحار وقتل نفس؟

دخل معتقلو سجن العقرب في إضراب مفتوح عن الطعام منذ عدة أيام، ونتج عن ذلك: أن توفي مواطن مصري أمريكي، هو مصطفى قاسم رحمه الله تعالى، وبدل أن يتوجه الحديث عن قتلته، وظالميه، ثار حوار وحديث عن حكم الإضراب عن الطعام إذا أودى بحياة المضرب عن الطعام؟ وقناعتي الدينية التي بنيتها على نصوص وقواعد الشرع الإسلامي: أن المضرب عن الطعام إذا اجتهد في إضرابه فأدى إلى وفاته، فهو مغفور له إن شاء الله بصبره وثباته على الظلم، ونرجو له أجر الشهادة عند الله تبارك وتعالى.

وكلامي أو فتواي، ليست عن هوى دون دراسة للموضوع، فهذا رأي كونته بعد تأمل منذ أحد عشر عاما، وقد كان أول من أفتيته به أحد رموز الإخوان المسلمين، وقد أضرب عن الطعام عام 2009م، وقد طلب الأمن من قيادات الجماعة الضغط عليه ليفك إضرابه، فتواصل معي وقتها، وكتبت فتواي التي ما زادتني الأيام إلا تمسكا بها، بل تأصيلا شرعيا أكثر لهذا الرأي.

إن المضرب عن الطعام ليس منتحرا، ولا قاتلا للنفس، لأنه لو أراد ذلك لتخلص من حياته في دقيقة واحدة، بشرب سم، أو بحرق نفسه، أو بشنق نفسه، أو بقطع وريده، فلماذا يلجأ إلى الإضراب عن الطعام الذي يستمر أياما بل شهورا، لماذا يعذب نفسه لو كان قراره الانتحار أو قتل النفس؟ وهذه مسألة مهمة لا بد أن يقف عليها من يتعرض لهذه الفتوى، أن يعرف طبيعة الموضوع الذي يفتي فيه، ويكيفه تكييفا صحيحا، حتى لا يتحدث عن موضوع، ويكون كلامه في واد والحقائق في واد آخر، فينزل نصوصا في غير موضعها.

الإضراب وسيلة لا يرفضها الشرع:

والنصوص التي بنيت عليها فتواي تدور بين قواعد شرعية، ونصوص دينية، بعد تصوري لواقع المسألة، وليس ما يدعيه البعض أن الإضراب عن الطعام وسيلة غربية لم ترد في الإسلام، فهذا كلام فارغ لا ينطلق من علم، فالنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق أخذ بفكرة حفر الخندق وهي فكرة فارسية يقوم بها عباد النار من دون الله، لكنها وسيلة لا علاقة لها بالعقيدة ولا بثوابت الدين، ولا تعارضه، وهنا قاعدة مهمة: للوسائل حكم المقاصد والغايات، فكل هدف مشروع في الإسلام، الوسيلة المؤدية إليه تأخذ نفس حكمه، فالإضراب عن الطعام هدفه: رد الحق للسجين، ورفع الظلم عنه، وأن يعيش بكرامته في سجنه المحبوس فيه ظلما، وهو هدف مشروع، وحق، فكذلك وسيلته وهو الإضراب عن الطعام أو أي وسيلة أخرى، يأخذ نفس الحكم.

المضرب عن الطعام مأجور:

إن المضرب عن الطعام لو أدى اجتهاده في الأمر لوفاته، فهو مغفور له بصبره وثباته في سجنه، وهو ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في حالة صحابي انتحر، أي قتل نفسه، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه:

“أن‏ ‏الطفيل بن عمرو الدوسي ‏‏أتى النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏فقال: يا رسول الله، هل لك في حصن حصين، ومنعة؟ قال: حصن كان ‏‏لدوس‏ ‏في الجاهلية، فأبى ذلك النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم،‏ ‏للذي ‏ذخر ‏‏الله‏ ‏للأنصار ، ‏فلما هاجر النبي‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏إلى‏ ‏المدينة‏ ‏هاجر إليه‏ الطفيل بن عمرو، ‏‏وهاجر معه رجل من قومه،‏ ‏فاجتووا‏ ‏المدينة،‏ ‏فمرض، فجزع فأخذ ‏‏مشاقص ‏‏له، فقطع بها‏ ‏براجمه،‏ ‏فشخبت‏ ‏ يداه حتى مات، فرآه ‏‏الطفيل بن عمرو‏ ‏في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه‏ ‏صلى الله عليه وسلم،‏ ‏فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها ‏ ‏الطفيل‏ ‏على رسول الله‏ ‏صلى الله عليه وسلم،‏ ‏فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم:‏ “اللهم وليديه فاغفر”.[1]

فالرسول صلى الله عليه وسلم هنا استغفر لمن انتحر، وقد انتحر لأنه لم يتحمل جو المدينة، أي انتقاله من بلد إلى بلد، فما بالنا لو كان في زماننا، ولم يتحمل جو سجن العقرب، أو سجون مصر، ماذا سيكون رأي الشرع الحنيف فيه؟ يقول الإمام النووي: والحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة.[2]

ودليلي الآخر: موقف غلام (أصحاب الأخدود) الذي أراد الملك قلته، ولم يفلح، يقول صلى الله عليه وسلم عن موقفه: فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله، رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام”.[3]

فالغلام هنا دل الملك على طريقة قتله، وعلم يقينا أنه مقتول بدلالته على هذه الطريقة، لكنه فعل ذلك لمصلحة عامة كبرى لدعوته وهدفه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وان الْغُلَام امْر بقتل نَفسه لما علم ان ذَلِك سَبَب لايمان النَّاس إِذا رَأَوْا تِلْكَ الْآيَة). [4] ويقول ابن تيمية كذلك: (وفيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين). [5]

 وقد نقل الشيخ ابن عثيمين قول ابن تيمية مقرا له فقال: (لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئا، لأنه مات وسيموت إن آجلاً أو عاجلاً). [6]

وفي قصة سعيد بن جبير وقتل الحجاج له عظة ودليل مهم في مسألتنا، فقد دعا على الحجاج قبل أن يقتله فقال: اللهم لا تسلطه على أحد من بعدي. فاستجاب الله له، ولم يستطع الحجاج قتل أحد بعده، وهنا وقفة: إن سعيد من أولياء الله تبارك وتعالى، فلماذا لم يدع لنفسه بالنجاة من الحجاج، ودعا لمن بعده بالنجاة؟ ذلك أن صاحب القضية والمبدأ يهتم بالناس، ولا يهتم بنفسه، فهل يعد ذلك إهلاكا منه لنفسه؟ لا، إنه تفكير في عموم الناس، والقضية أكثر من التفكير في نفسه.

فرق بين الانتحار والإضراب:

كما أن هناك فرقا بين المنتحر والمضرب عن الطعام في السجون والمعتقلات، فالمنتحر إنسان يائس من الحياة، أما المضرب عن الطعام فهو مملوء بالأمل، عينه على المستقبل أن يكون مستقبلا مملوءا بالحب، والخير، والعدل والسلام. والمنتحر كاره للحياة، والمضرب عن الطعام محب لها، مقبل عليها، يريدها بعزة وكرامة، لا بذلة ومهانة، لا يقبل بالضيم، ولا بأي حياة كحياة الحيوانات، يهمه أن يعيش حرا كريما.

أين الرافضون من الظلمة؟

وهنا مسألة مهمة: أين الرافضون للإضراب عن الطعام كوسيلة للمظلوم، من موقفهم من الظالم والقاتل، الذي ينكل بالمسجون؟ إن كثيرا من هؤلاء يصمت، ولا يقوم بدوره نحو المظلوم، بل يقوم بالتنظير والكلام من عل فقط، وإذا سألته ما البديل؟ يقول لك: فليصبر المسجون، إذن وهل تصبر أنت على البرد في الشتاء بدون غطاء، وهل تصبر أنت في بيتك على حر الصيف بلا مكيفات؟ وهل تصبر أنت إذا تأخر الطعام المجهز الجيد في بيتك؟ جرب أن تبيت ليلة في البرد على سجادة على الأرض وليس على البلاط، ولنرى كم من الوقت تتحمل؟

من القاتل؟

إن المضرب عن الطعام ليس قاتلا لنفسه، بل مقتول ظلما، وقاتله هو كل من ظلمه، وكل من شارك في ظلمه، سواء بسجنه ظلما، أو بالتنكيل به في سجنه، أو بالصمت عليه من منظمات وهيئات حقوق إنسان داخل مصر وخارجها، كل هؤلاء شركاء في قتله، ومحاسبون أمام الله تعالى عن كل مظلوم في سجون الظلمة.

من يفتي في الشأن العام:

والقضية تدعونا للحديث والمراجعة عمن يحق له الفتيا في الشأن العام، وبخاصة السياسي منها، والذي أصبح مشتبكا مع قضايا مهمة لا بد للمفتي فيها أن يلم بها إلماما كاملا، أو شبه كامل، وهو ما يقع فيه كثيرون ممن يتعرضون لقضايا الشأن العام الآن، فلا هم يعرفون الإضراب عن الطعام، ولا هم يقدرون الأمر قدره.

هذا ما عن لي من تأملات في المسألة، سائلا الله عز وجل أن يقضي الخير، وأن ينتقم من الظلمة المستبدين، اللهم آمين.


[1] رواه مسلم في كتاب الإيمان (184) عن جابر رضي الله عنه.

[2] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (1/409).

[3] رواه مسلم (3005) وأحمد (23931) والنسائي في الكبرى (11661) وابن حبان (873) عن صهيب الرومي رضي الله عه.

[4] انظر: الاستقامة لابن تيمية (2/332).

[5] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/540).

[6] انظر: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/221).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه