صُورة أفْريقيا في المِخْيَال العربيّ المُعاصر

تعود أسباب تشكّل الصُّوة السَّلبيّة، الماثلة في المخْيال العربيّ، حوْل أفْريقيا إلى عدّة أسباب مُتشابكة ومعقّدة ومتراكمة

 

تعّد صُورة (أفْريقيا  السّمْراء) في الذِّهنيّة العربيّة المُعاصرة عالمًا مجهولاً، وفضاءً غامضًا؛ ملفوفًا بالخُرافات والأساطير، ومُحاطًا بالثَّالوث الأسْود المُرْعب، وهو: التّخلّف والفقْر والمرض، ومن الملاحظ أنّ هناك العديد من الرَّوافد التّاريخيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والإعلاميّة التّي أسْهَمت في تشْكيل تلك الصُورةٍ النَّمطيّة وبناء تمثّلاتٍ ذهنيّة حول (أفْريقيا )؛ غارقة في السَّلبيّة والسَّوداويّة؛ سواء أكانت تلك التمثّلات متعلّقة بالأرْض أم مُتعلِّقة بالإنْسان؛ مما أدّى إلى صُعوبة بناء جسور التَّواصل مع إنسانها وبيئتها وتاريخها وحضارتها، واستثمار كنوزها ومقدّراتها وإمكاناتها، وقد حال ذلك دون تأسيس أيّ معرفة علميّة موضوعيّة حولها، فأضحت معه الهوّة بيْن (العرب) و(أفْريقيا ) عميقة جداً، تزداد اتِّساعًا وتنافرًا وتعقيدًا يومًا بعد يوْمٍ، بالرغم من القُرْب الجغْرافيّ، والتَّقارب الثَّقافيّ، وعمْق العلاقة التَّاريخيّة، ووجود الكثير من القواسم المُشْتركة بينهما.

مصادر التَّمثُّلات الذِّهنيّة السَّلبيّة حوْلأفْريقيا 

تعود أسباب تشكّل الصُّوة السَّلبيّة، الماثلة في المخْيال العربيّ، حوْل أفْريقيا  إلى عدّة أسباب مُتشابكة ومعقّدة ومتراكمة؛ بعضها ذاتيّ وبعضها الآخر موْضوعيّ، حيث يتداخل التّاريخيّ مع الجُغرافيّ، والثَّقافيّ مع الدّينيّ، والاجتماعيّ مع الإعلاميّ، وغيرها من العوامل الأخرى، وهو ما من شأنه أن يجعل المشْهد (الصّورة) في غاية التّعقيد والغُموض والالْتباس، وفي هذا الإطار يُمكن تفكيك (الصُّورة الرّائجة) ومحاولة اختزالها في الأسباب الآتية:

أسباب تاريخيّة وجغرافيّة

بعيداً عن التّفاصيل التّاريخيّة الدَّقيقة، فإنَّ هُناك عدداً لا بأس به من الباحثين في التَّاريخ يؤكّدون على أنَّ العيْب الأساس في الأدب الجغرافيّ العربيّ هو خضوعه في كثير من معلوماته ومصادره للنظريّات العلميّة الموروثة عن علماء اليونان، خصوصًا ما كتبه عَالِم الجُغْرافيا المَعروف: (بطْلِيمُوس) فيما يُعرف بـ(نظرية الأقاليم السّبْعة)، وما “أصّل” له الطَّبيب الإغريقيّ (جَالينوس) في (نظرية الأخلاط والأمزجة وأثرها اعتدال البدن واعتلاله، وتأثير الهواء في البدن)، هذان العالمان اللَّذان كان لهما الدّور الكبير في بناء وتشْكيل تصوّرات العرب وأحكامِهم حول (أفْريقيا  السَّمْراء) وشُعوبها ومعتقداتها وتاريخها، وخلاصة رأيهما في ذلك، من النّاحية الجغرافيّة والطّبيّة، هو: (استحالةُ السَّكن في الأقاليم الحارَّة الجنوبيّة، وأنَّ الحياة تكاد تكون مُنْعدمة جنوب خطّ الاستواء، لاعتبارات عدّة أشارا لها فيما دوّناه في كُتُبِهما)، وقد تسرّبت هذه الصُّورة إلى الجغرافيّين العرب وأضحت أساساً معرفياً لتشكيل صورة السّود في المتخيل العربي، نلمس ذلك بشكل واضح، على سبيل المثال، فيما كتبه (الشَّريف الإدريسيّ)، وهو الذي لم يزر المنطقة أبداً، متأثرًا بـ(جالينوس)، وبنَظْرَتِه العنْصريّة لسكّان إفريقيا، حيث يقول: (وأمَّا أهل الصَّحارى من الزِّنْج والحبشَة والنُّوبة وسائر السُّودان الذين سبق ذكرهم، فَلِقِلَّة الرُّطوبة البحريّة، وتوَالي إحْراق الشَّمس لهم ومَمَرِّها عليهم؛ تَفَلْفَلَت شُعورهم، واسودَّت ألْوانُهم، وأنْتَنَتْ أعراقهم، وتَقَشَّفت جلود أقدامهم، وتشوَّه خلقهم، وقلَّت معارفهم، وفسدت أذْهانهم، فهم في نهاية الجهالة واقعون وإليها يُنسبُون، وقلَّما أبصر منهم عالم أو نبيل وإنَّما يكتسب مُلوكهم السِّياسة والعدْل بالتَّعليم من أقوام يصلون إليهم من أهل الإقليم الرَّابع (جزيرة الأندلس) أو الثّالث (دول حوض البحر الأبيض المتوسط) [الإدْريسيّ، نُزهة المشْتاق في اخْتراق الآفاق، ص 98]، ويُضيف (المقريزي)، واصفاً الأفارقة، نقلاً عن (جالينوس) أيضًا: أنَّهم شرار النَّاس، وسباع الإنس، ونَتنُو الرَّائحة، ويأْكل بعْضُهم لحْم بعضٍ. (آثار البلاَد وأخْبار العباد، ص 18-19).

وعليه، فإنَّ (الإنسان الأفريقي)، حسْب هذه النظريّة أو العقليّة، هو، بالضرورة، حبيس جُمْلةٍ من الحتْميَّات التّي لا ينفك عنها، وهي: الحتميّة الجغرافيّة والحتميّة البيولوجيّة والحتمية التَّاريخيّة، وليس له من سبيل، مُطلقًا، للتحرّر من هذه الحتميّات أو التخلّص من آثارها وكسر أغلالها؛ لكونها قدرٌ محْتومٌ وقضاءٌ مُبرمٌ لا مفرّ منه.

هذا التّنميط السَّلبي للإنسان الأفريقي ظلّ، ولا يزال، هو (النّموذج الموجّه) القابع في (لاوعي الإنسان العربيّ)، بمعنى آخر، ظّل يمثل بالنِّسبة إليْه قاعدةً أساسيّةً ينطلق منها في بناء تصوراته النَّظريّة وتصرفاته العملية حوْل أفريقيا وإنسانها وتُراثها، فـ( أفريقيا) بالنّسبة إليْه عالم مَجْهولٌ وغامضٌ، لا مفكّر فيه، تتناوشه الخُرافات من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وإن كان هناك من “معرفة” حاصلة لدى (العربي) فإنَّها لا تخرج عن إطار الصُّورة النّمطية العامة السلبيّة، التي تستحضر كل أنواع المشاهد السلبيّة السَّيئة والمناظر القبيحة؛ من انتشار للأوبئة والأمراض؛ كالملاريا، والإيدز، والتيفوئيد، والحمى الصفراء، والأمراض المُعْدية، والقائمة أكبر من أن يستوعبها هذا المقام، وهي أيضًا موطن للتَّخلّف والجهل حيث عشَّش وباض وفرّخ، وهي مكان للفوضى اللاَّمتناهية، وعلى هذا المنوال يمكنك أن تستحضر ما شاء لك من الصور والأشكال، ومن هذا المنطلق فإنّه إذا ذُكِرت ( أفريقيا)، فأوّل ما يتبادر لذهن السَّامع العربي؛ أدغالها وغاباتها، ووحوشها المفترسة، و”إنسانها” البدائي الذي لا يكاد يجد ما يستر به عوْرته.   

أسباب ثقافيّة ودينيّة:

من ناحية أخرى فإنّ هناك أسبابًا ثقافيّةً ودينيّةً واجتماعيّة راكمت أنماطاً من الصّور الذّهنيّة السَّلبيّة التي اسْتقت مضامينَها من الرُّؤية الغربيّة المركزيّة المُؤَسَّسَة على أساس المرْجعيّة الدّينية: اليهوديّة والمسيحيّة، والتّي تنظر إلى الأفارقة السُّود نظرةً عنْصريّة دونيّة، باعتبارهم من ذريّة (حام) الملعونة، وهو (أي: حام) أحد أبناء نوح، “ليكُون عبْدَ العَبيد لإخوته”، كما جاء في (سفر التّكوين)، ومن هذه الزَّاوية فهم أشخاص مَخلُوقون فقط للعبودية والسُّخرة والقيام بالأعمال الوضيعة، وقد تسللّت هذه الصُّورة إلى أدبيات الكثير من المؤرّخين والجُغرافيين العرب قديماً، نقلاً عن المؤرّخين الإغريق، كما تمت الإشارة إلى بعض أجزاء الصّورة سابقًا، بل وحتّى في ثقافتنا العربيّة القديمة والمعاصرة؛ التي كثيراً ما كانت تشير إلى العبيد السّود، والرَّقيق الأسْود بإشاراتٍ وعباراتٍ وقصصٍ وخرافاتٍ ورواياتٍ بدائيّة يُشمّ منها رائحة العُنْصريّة والنّظرة الدّونية، وهو ما يوحي ضمنا وواقعيًا في (اللاَّوعي العربيّ) بأنَّ (الإنسان الأفريقيّ) هو دون مُستوى الإنسانيّة، ويشهد على ذلك ما ذكره (ابن خلدون) في مقدّمته: (وإنَّما يُذعن للرقِّ في الغالب أمم السُّودان لنقْص الإنْسانيّة فيهم) (ص: 148)، نقول ذلك، مع إدراكنا الكامل واستحضارنا الواعي للمفاهيم والقيم الإسْلاميّة التّي ترفض هذا التَّوصيف وتشدُّد النَّكير على قائليه.   

وفي ذات السّياق يتحدّث (ابن جُبير) في (رحْلته) واصفًا (أهل البجة)، أنهم أضل من الأنعام سبيلا وأقل عقولاً، لا دينَ لهُم سوَى كلمَة التَّوْحيد التِّي ينْطقون بها إظهاراً للإسلام، ورجالهم ونساؤهم يتصرَّفون عراة إلاَّ خرقًا يسْتُرون بها عوْراتِهم، وأكثرهم لا يسْتُرون، ويطلق (ابن جُبير) عنان الفتوى بالجُملة على هؤلاء القوم، فيقول: (إنّهم أمة لا أخلاق لهم، ولا جناح على لاعنهم). (رحلة بن جبير، ص 48 – 49)، مع أنّ رحّالة وجُغرافيين آخرين من أمثال (ابن بطوطة) و(اليعقوبي) و(ابن حوقل) وغيرهم يذكرون عنهم غير ذلك، وأنَّهم كرماء ومسالمون.

وختامًا

كل هذا وغيره، أسهم في رسم صورةٍ مُتحيِّزةٍ ضدَّ أفريقيا وشُعوبها، وجعَل (الإنْسان الأفريقيّ) في عُمْق الذَّاكرة المركزيّة السَّلْبيّة للإنْسان العربيّ والتُّراث الثَّقافي العربيّ، وعمّق الشُّقَّة بيْن (العرب) و(الأفارقة)، وأعطى مُبرِّرات منْطقيّة لانتقاد الأفارقة للثقافة العربيّة والتُّراث العربيّ، وإنّ كنّا لا ننّفي اتّسام كتابات البعض بالجدَّة والأصَالة والتَّمْحيص والنَّقد، وهذا يقتضي جهدًا استثنائيًا يحْفر في الذّاكرة العربيّة وفي المصادر التّاريخيّة، ويعيد قراءة التّاريخ قراءة ناقدة بغرض إعادة إنتاجه بمنظور جديد؛ واقعيّ وموضوعيّ لتصحيح الصُّورة وإعادة رسْمها من جديد؛ بما من شأنه أنْ يقرَّب المسافة بين (العرب) و( أفريقيا).

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه