سلامة حفتر دوليا.. من يقف وراءها؟

 

سردية البيانات التي تدلي بها الأمم المتحدة بشأن اعتداءات قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس تظهر بجلاءٍ موقف المنظمة الدولية في تدليك الجرائم وتلطيف القصف وتبريد الخواطر إزاء حرب مستعرة. ويعرض هذا المقال لسلسلة بيانات توضح للقارئ تقنيات لغوية جديدة في تعميم الركاكة تجنبا للإدانة.

في استوديوهات باردة بوطن ملتهب، مذيع قناة محلية ليبية يسأل ويعيد ويكرر، والمبعوث الأممي لليبيا غسان سلامة لا يتصبب عرقا في يوليو حين يرد كلّ مرة بأنه أجاب عن السؤال في إحاطة سابقة أمام مجلس الأمن الدولي، فهل السؤال صعب إلى هذا الحد أم إن الإجابة معلقة في ضمير المجاز الأممي؟ 

اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر هاجم بقواته في الرابع من أبريل الماضي العاصمة طرابلس، معقل حكومة الوفاق المعترف بها دوليا والمنبثقة عن اتفاق رعته منظمة الأمم المتحدة، فسأل المذيع ذاك السلامة: ما توصيفك للطرفين؟

الإجابة سهلة في أماني كثيرين، لكن بلاغة الصمت أكثر لباقة وأخف مؤونة على سلامة والبعثة التي صحبته والمنظمة التي أرسلته لقد باتت ألذ حتى من القيلولة في نوبات القلق العميق.

ظهور الإدانة واختفاؤها

ذكر الجريمة يغني عن إدانتها، هذه ظاهرة لافتة في التعاطي الأممي مع الهجوم على العاصمة طرابلس، فإذا بدت إدانة أو أفلتتها شفتا البعثة الأممية في بيانات اختفت لاحقا في تقاريرها وإحاطتها.

ذات قيظ في أغسطس انقدحت الحرارة في بيان للبعثة حتى ذكر قيام طيران حفتر بقتل أربعة أطباء ومسعف، عند قصفه مستشفيين ميدانيين بطرابلس في يوليو، لكن الطاقة المنبعثة من الرمال لم تكف حتى لأن تحيي في المنظمة الأممية ذكرى “قلقها العميق”.

في ذلك اليوم عادت البعثة ببيان آخر من ثلاث فقرات يستنكر الهجمات المتزايدة على المطارات، وخبأت في آخر سطر من الفقرة الثانية جملة نائمة “خلال الليل، كانت هناك غارة جوية أعلن عنها الجيش الوطني الليبي (تسمية قوات حفتر لنفسها) على مطار زوارة، وهو منشأة مدنية، مما تسبب في إلحاق أضرار بالبنية التحتية للمطار”.

هل  دانت البعثة بعبارة صريحة هذه الغارة الصريحة؟ لا لم تدن، وهي حتى الآن لم تتعود على ذكر قوات حفتر مع الإدانة في سياق واحد، بل صدرت جمرة التحفظ وداء النأي الرئاسي لحكومة الوفاق في الغرب.

الاعتراف ليس سيد الأدلة

استغربت حكومة فائز السراج في 16 أغسطس الماضي موقف البعثة أمام “اعتراف المعتدي”، وإصرارها على تجنب إدانة الاعتداء ومنفذه صراحة، وطالبها بـ “تسمية الأمور بمسمياتها بدلا من موقف الحياد السلبي والمجاملة السياسية”.

فعادت البعثة مباشرة ببيان آخر، وقالت إنها تجدد إدانتها -مع أنها لم تدن أصلا حتى تجدد- لهجمات طيران قوات حفتر على مطار زوارة، مؤكدة مدنيّة الموقع، وتعهدت “بمشاطرة المعلومات والأدلة عن الحادثة مع مجلس الأمن وفريق الخبراء والهيئات الدولية الأخرى ذات الصلة”.

واختفت الإدانة، نعم، لم يشارك سلامة تلك المعلومات أو هذا ما ظهر، لقد جلس قرابة نصف ساعة يقدم إحاطته الثالثة لمجلس الأمن في سبتمبر الجاري، دون أيّ إشارة لإدانته قصفَ طيران حفتر للمطار، أو حتى التذكير بقتلها أربعة أطباء ومسعفا في شهر يوليو من العام الجاري، كما تقرر لديها.

وكأنّ الحادثة ذابت، فهي غير موجودة أيضا في تقرير تفصيلي لرئيس سلامة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 29 أغسطس الماضي قبل أيام من إحاطة مبعوثه، وقد استغرق اثنتين وعشرين صفحة، لم تتضمن أيٌّ من فقراتها ذكر الجرائم التي نسبتها البعثة مباشرة إلى قوات حفتر، ولم تتضمن حتى الإدانة الصادرة عنها آنذاك، غير أنه ذكر مقتل الأطباء دون إشارة إلى القاتل لدى بيان البعثة في منتصف أغسطس.

ذاكرة التناسي

“قصفنا هدفا مشروعا في تاجوراء، أمّا من أتى بالمهاجرين إلى هذا المكان فهو المسؤول عن أيّ أضرار في صفوفهم” كلام جاء على لسان الناطق باسم قوات حفتر.

والأغرب من زوارة هي حادثة تاجوراء شرق طرابلس، إذ قتلت غارة في مطلع يوليو من العام الجاري 53 مهاجرا في مأواهم بتلك المدينة، وتبنت بعدها قوات حفتر الضربة على طريقتهم، كما أسلفنا بين علامتي التنصيص، وإزاء القصف فشل مجلس الأمن حتى في إصدار إدانة للحادثة، وتجاهلت لاحقا إحاطتا سلامة مجرد الإشارة إلى القصف المعترف به.

 وتجاهل اعتراف ناطق حفتر أيضا، تقرير أنطونيو غوتيريش المنشور أواخر شهر أغسطس، فعند مروره بالحادثة لم يزد عن وصفها بالغارة العشوائية، واللافت أنه هو نفسه من أكد آنذاك تسلم طرفي النزاع إحداثيات دقيقة بمواقع مراكز المهاجرين، بعد ضربة مشابهة استهدفت المكان ذاته في شهر مايو.

هل يصلح اللقاء ما أفسدته الإحاطة

لقد أغضب المبعوث الأممي طرابلس، غضبا وصل بعد أيام من إحاطته الثانية في 29 يوليو إلى درجة إغلاق مطار زوارة أمامه، ومطالبته “باستعمال مطار معيتيقة أسوة ببقية الليبيين”، فما الذي تفوه به رسول غوتيريش؟

انتهج سلامة في إحاطته لغة تجعل حدث هجوم حفتر على طرابلس عاديا، بل قفز عليه وصار يوصي الأطراف بما ينبغي عليهم من الامتناع عنه أثناء الاقتتال، وكأنه لا مشكلة في الاشتباكات أو مفتعلها، وأخذ يذكرهم بضرورة اجتناب القصف العشوائي، وأهمية الالتزام بالقوانين الإنسانية، و”تنحية الإرهابيين”، وحماية المدنيين.

لا تتألق صياغات سلامة إلا في المساواة بين المدافع والمهاجم وبين المعتدي والمعتدى عليه، وحرصت على معادلتهما في الانتهاكات، فثمة إرهابيون لدى الطرفين، واختطاف نائبة برلمانية في الشرق يقابله اختطاف آخر في الغرب، وقصف المهاجرين مسكوت عن قاصفهم حتى وإن اعترف، ومطار معيتيقة المدني وفق حكومة الوفاق، هوعسكري في تقدير إحاطة المبعوث، وتلك قصة أخرى

فرغ سلامة من إحاطته، وبعد أيام حتى استدعاه المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس، وسلمه مذكرة احتجاج على “مغالطاته”، وأشهرت وزارات عدة بيانات تشجبها، منها الخارجية والداخلية والمواصلات، فضلا عن المجلس الأعلى للدولة..

الخلاصة

هجم حفتر على طرابلس وغوتيريش زائر فيها، وواجه حينها الأمين العام للأمم المتحدة الحملة العسكرية بـ”القلق العميق”، وغادر العاصمة و”قلبه يعتصر”، وفي الشهر الجاري يقر سلامة لصحيفة فرنسية أن فعل اللواء المتقاعد أهانه هو ورئيسه.. ليؤكد كلاهما أنه قوّض العملية السياسية، حسنا، هل من إدانة والبقية تأتي؟ لا إدانة ولا بقية.

يلتزم سلامة في توصيف قوات حفتر بتجنب الأمم المتحدة إدانتَها، وسياستُه في الالتفاف على الإجابة كما أشرنا هي امتداد لسياسة منظمته نفسها في التعامل مع الهجوم على طرابلس، وهو سلوك يمنح حفتر غطاء غير مباشر، وسلامةً من الملاحقة الدولية.. لا وصف إذا فلا إدانة، والرعاة الدوليون لسلامة حفتر كثيرون.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه