في وزارة التموين: الفساد بالزي العسكري!

 

كثرت جرائم الاستيلاء على الأموال المخصصة لشراء القمح المستخدم في إنتاج رغيف الخبز المدعم والمخصص لطبقة الفقراء المصريين. وعُرفت هذه الجرائم في الإعلام باسم “قضايا فساد القمح”. وفي كل مرة تضبط الجهات الرقابية إحدى هذه الجرائم أتذكر مقولة الكاتب الصحفي الساخر، الراحل جلال عامر، والتي يقول فيها: “أضحك عندما يقولون إنهم ضبطوا شحنة قمح فاسد. بالذمة القمح هو اللى فاسد؟”.

وقبل أيام تصالح جهاز الكسب غير المشروع الحكومي مع 18 متهما فى القضية المعروفة إعلاميا بقضية “فساد القمح الكبرى” في مقابل سدادهم مبلغ 450 مليون جنيه. هذه القضية الكبرى ليست قضية واحدة، ولكنها قضية مركبة من 38 قضية، ومتهم فيها أكثر من 130 مسؤولا من وزارتي التموين والزراعة، وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات، وبالتواطؤ مع أصحاب صوامع تخزين القمح.

واتهمت النيابة العامة المسؤولين في القضية بخيانة الأمانة، وبحصولهم لأنفسهم ولغيرهم على كسب غير مشروع بقيمة 800 مليون جنيه من الأموال المخصصة لشراء القمح المحلي من المزارعين والمعد لصناعة الخبز المدعوم.

فساد الوزير

القضية كشفتها لجنة مشكلة من أعضاء في البرلمان لتقصي الحقائق حول الفساد في الصوامع المعدة لاستلام القمح في موسم 2016. وبعد فحص 9 صوامع فقط من أصل 300 صومعة ومخزن كشفت اللجنة عن أن وزير التموين السابق، خالد حنفي، مسؤول مسؤولية سياسية وقانونية، جنائية وتأديبية ومدنية، عن أوجه الفساد والتلاعب بأموال الفقراء، وأحالت التقرير إلى النائب العام، وجهاز الكسب غير المشروع، ورئيس الجمهورية.

وكان حنفي قد ادعى توفير 1.8 مليون طن من الأقماح المستوردة، وأنه خفض 30% من مخصصات الدعم، ولكن اللجنة أثبتت أن استيراد القمح زاد بواقع 4 ملايين طن عما كان عليه الوضع خلال الأشهر الستة التي تولى فيها الدكتور باسم عودة وزارة التموين في حكومة الدكتور هشام قنديل.

وأقر أعضاء في اللجنة أن جهة عليا منعتهم من استكمال التفتيش في باقي الصوامع. ومع تأكد اللجنة من أن الحكومة تتستر على جرائم الوزير المقرب من الجنرال السيسي، تقدم أعضاء اللجنة ببلاغ للنيابة العامة بـ 10 اتهامات ضد الوزير حنفي مدعومة بمستندات بينها فاتورة مليونية عن إقامته الدائمة بأحد فنادق الخمس نجوم، فقدم استقالته، فطالبوا بمحاكمته، وقدم المحامي، سمير صبري، طلب للنائب العام لادراج اسمه في قوائم الممنوعين من السفر.

واكتشفت اللجنة أن الوزير أمر بتسليم القمح إلى المطاحن مباشرة وليس إلى صوامع التخزين في موسم استلام القمح سنة 2015، وأنه أمر باستيراد القمح الأجنبي أثناء موسم التوريد، ما ضيع حق الجهاز المركزي للمحاسبات في التحقق من دقة الكميات الموردة في مراكز التخزين وكشف الخلط والتوريد الوهمي، بدفن جسم الجريمة، وهو الفساد الذي قُدر بـ2.5 مليار جنيه، وهي أموال مزارعي القمح المصريين الفقراء.

وردت النيابة العامة على التهم الموجهة للوزير باستبعاده من القضية، ثم رفعه السيسي بعد تبريد القضية في وسائل الإعلام إلى منصب أمين عام اتحاد الغرف التجارية التابعة لجامعة الدول العربية بعد سحب الأردن والسودان مرشحيهما لصالح الشقيقة الكبرى مصر.

الفساد في مكتب الوزير

بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز، طلب قائد الإنقلاب الجنرال السيسي من الدكتور باسم عودة أن يستمر في منصبه وزيرًا للتموين بعد النجاح غير المسبوق الذي حققه في الوزارة. رفض عودة الاستمرار في الوزارة وجاهر برفض الإنقلاب العسكري على الرئيس المنتخب. وفي أول وزارة بعد الانقلاب عين السيسي وزيرًا للتموين برتبة لواء. ولم تمر ستة أشهر حتى ألقت الجهات الرقابية القبض على مدير مكتب الوزير واتهمته بالحصول رشوة بقيمة 8 ملايين جنيه نظير منح تأشيرات تمرير صفقات قمح لإنتاج الخبز المدعوم، فهل جاء الفساد من القمح أم من مكتب الوزير؟

حامت حول الوزير شبهة التورط في القضية، واستجوبته الرقابة الإدارية حول مسؤوليته في تفويض مدير مكتبه في منح صلاحيات إبرام صفقات قمح لمدير مكتبه وترسيتها على شركات بعينها، وكذلك سر انتدابه ضابطًا من مباحث التموين ليتولى منصب مدير مكتبه. وفي النهاية خرج الوزير من القضية، وادعى أن اتهام مدير مكتبه بتلقى رشوة ما هو إلا حادث فردى، وأن القاء القبض عليه من منزله وليس من ديوان عام الوزار ة هو دليل براءة الوزير.

في منتصف العام الماضي تابع الرأي العام قضية فساد جديدة من داخل مكتب وزير التموين الحالي، حيث ألقت هيئة الرقابة الإدارية القبض على كل من مستشار الوزير للإعلام والمتحدث الرسمي للوزارة، ومستشار الوزير للاتصال السياسي، ورئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الغذائية التابعة لوزارة التموين، وهو عسكري برتبة لواء ومدير الكلية الفنية العسكرية السابق، ومدير مكتبه لتقاضيهم رشاوي مالية تجاوزت المليوني جنيه من شركات توريد السلع الغذائية مقابل إسناد أوامر توريد السلع عليها.

الشركة القابضة تابعة للوزارة، والوزير هو من اختار الثلاثة للعمل معه، ولما سُئل الوزير عن علاقة المتهمين بوزارة التموين، أجاب بأنهم لا علاقة لهم بوزارة التموين. كيف يا سيادة الوزير؟ قال، الأول صحفي في روزاليوسف، والثاني في الجمهورية، واللواء من الشركة القابضة.

 فساد الصوامع

قبل أيام انهارت صومعة لتخزين القمح في محافظة المنيا بعد بعد مرور 17 شهرًا فقط على افتتاحها رغم أن العمر الافتراضي لهذه الصوامع يمتد إلى 50 سنة. الصومعة أنشأتها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وافتتحها وزير التموين، وهو عسكري تخرج من الكلية الفنية العسكرية، ومحافظ المنيا، وهو عسكري برتبة لواء، ورئيس الشركة القابضة للصناعات الغذائية، وهو عسكري برتبة لواء، والذي ألقي القبض عليه مع مستشاري الوزير في قضية الرشوة. وأثناء الإفتتاح وصف الوزير الصومعة بتميزها بأعلى درجة أمان موجودة.

الهيئة الهندسية للقوات المسلحة مسؤولة قانونًا عن سلامة انشاءات الصومعة التي تابع انهيارها ملايين المصريين من خلال مقطع فيديو يظهر تمزق جسم الصومعة المعدني من أعلى، وانهيار الثانية تمامًا، ما يعني عدم متانة التركيبات المعدنية في جسم الصومعة وفساد الأساسات. وورغم أن الهيئة متهمة بالتقصير وطرف في الخصومة، فقد أمرت النيابة العامة بتشكيل لجنة من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة للوقوف على أسباب الانهيار. ما يعني أن المتهم سوف يلعب دور القاضي في نفس الخصومة، وهو مبدأ مستحدث في فض النزاعات القانونية.

وبدلًا من محاسبة السادة اللواءات عن الجريمة التي ضحك عليها القاصي والداني، أمرت النيابة العامة بفتح التحقيق مع العاملين بالصومعة لتحديد مسؤوليتهم عن الكارثة، وهم المساكين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل هذا الفساد، وقد نجوا من الموت باعجوبة. أما رئيس الهيئة الهندسية التي أشرفت على بناء الصومعة بأعلى درجة أمان، فقد رفعه السيسي وزيرًا للنقل والمواصلات.

كشف الحادث عن أن تكلفة انشاء الصومعة بلغت 20 مليون جنيه، وهو مبلغ كبير لانشاء صومعة صغيرة سعتها التخزينية 5 ألاف طن فقط. بينما في الفترة التي تولى فيها الدكتور باسم عودة وزارة التموين، كانت تكلفة إنشاء الصومعة التي تصل سعتها إلى 60 ألف طن لا تزيد عن 80 مليون جنيه، وبعد الانقلاب تدخلت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة في الإشراف على مشروع إنشاء الصوامع وزادت التكلفة إلى 180 مليون جنيه.

الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تشرف على إنشاء الصوامع من دون خبرة سابقة، وبالأمر المباشر، ومن دون إشراف من مكتب استشاري مستقل، وفي مناخ غابت عنه الشفافية ومبدأ المحاسبة وبالتالي فإن انهيار صوامع القمح سوف يتكرر.

قمح بالإرغوت

في سبتمبر/أيلول 2016 قرر مجلس الوزراء السماح باستيراد القمح المصاب بفطر الإرغوت. والإرغوت، فطر يصيب نباتات القمح، ويصيب الإنسان الذي يتناول الخبز المصنوع من هذا القمح بالسرطان، والغرغرينا، والفشل الكبدي. ويتسبب في اجهاض الحوامل من النساء والحيوانات، ويصيب البشر بالجلطات الدموية وتساقط الأطراف، والموت بالسرطان بعد فترة من تراكم الفطر فى جسم الإنسان. والفطر لا يتأثر بعمليات غربلة القمح، ولا الغسيل، ولا الطحن، ولا حرارة إنضاج الخبز.

واستمر العمل بالقرار لمدة سنة كاملة رغم خطورته. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، قضت محكمة القضاء الإداري ببطلان قرار مجلس الوزراء، وبوقف استيراد القمح المصاب بفطر الإرغوت، وبوقف استلام الشحنات الحالية والمستقبلية.

واستندت المحكمة على قرار لجنة أعمال الحجر الزراعي، المسؤولة عن حماية الإنسان المصري والزراعة في مصر من مخاطر الأمراض النباتية، والممثلة من 17 جهة حكومية، ومنها الإدارة المركزية للحجر الزراعى المصري، ووزارات الزراعة، والصحة، والتموين، وهيئة الرقابة على الصادرات والواردات، ومركز البحوث الزراعية، ومعهد بحوث النبات، رفضت “بالإجماع” دخول شحنات حبوب مصابة بفطر الإرغوت إلى البلاد، سيما أن عمليات طحن القمح، وحرارة أفران الخبيز لا تقضي على الفطر.

وكذلك استندت المحكمة على قرار لجنة علمية من أساتذة جامعة عين شمس المتخصصين في أمراض وميكروبيولوجيا النبات، والمشكلة بقرار من المحامى العام الأول لنيابة الأموال العليا للوقوف على مدى تأثير فطر الإرغوت على صحة المواطن والزراعات المصرية. وحذرت اللجنة من أن دخول أقماح ملوثة بفطر الإرغوت إلى مصر يعرض محاصيل القمح للخسائر، ويعرض المصريين للإصابة بالتسمم والغرغرينا وغيرها من الأمراض.

وقالت المحكمة في حيثيات الحكم: “إن إصرار الحكومة المصرية على استيراد القمح المصاب بالإرغوت رغم ثبوت خطره على صحة الإنسان يتنافى مع ما أقسمت عليه الحكومة المصرية من احترام الدستور والقانون وتوفير البيئة الصحية المناسبة”.

ورغم الحكم القضائي الصريح بمنع استيراد قمح الإرغوت، فقد طعن على الحكم كل من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة الزراعة والصحة والتموين أمام المحكمة الإدارية العليا والتي حكمت وعلى وجه السرعة حكمًا باتًا بتجميد حكم محكمة القضاء الاداري، بما يسمح للحكومة باستيراد القمح الملوث بفطر الإرغوت، وذلك للمرة الأولى في تاريخ القضاء المصري وفي تاريخ التشريعات الزراعية المصرية، ويدعي الجنرال السيسي أنه لا يتدخل في أحكام القضاء، ثم نقول إن القمح فاسد ليرد علينا جلال عامر بسخرية: “بالذمة القمح هو اللى فاسد؟”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه