“يتنحاو قاع”… بين التفسير والتأويل

 

الثورة الشعبية التي انطلقت في الثاني والعشرين من فبراير/شباط الماضي، كانت ثورة ضد استشراء الفساد، وانتفاضة لوقف العبث الحاصل في البلاد، ورفض التجديد لرئيس مقعد لا يقوى على الكلام ولا الحركة لولاية خامسة. وفي الوقت نفسه كانت إعلانا بفشل الطبقة السياسية فشلا ذريعا في مواجهة التدهور الشامل الذي هوى بالجزائر إلى الدرك الأسفل من الفساد والاختلاس والرشوة وحولها إلى مرتع لكل الآفات.

واتخذ الجزائريون شعار “يتنحاو قاع” (يجب أن يرحلوا جميعا) عنوانا جامعا لمطالب ثورتهم السلمية. “يتنحاو قاع” في رمزيته يعني التغيير الجذري الشامل للنظام ولواحقه، وكل الكيانات التي ساهمت بتواطئها أو فشلها في تغول الفساد وانتشاره. عكس ما يعتقد البعض من أن المطلب يخص السلطة وحدها، ويجتهدون لتبرئة التنظيمات السياسية وفعاليات المجتمع المدني من ضرورة الرحيل.

الثورة الشعبية ومطلب التغيير الشامل

“يتنحاو قاع” يعني التأسيس لجزائر جديدة بنظامها وسلطتها وقوانينها وأحزابها ومنظماتها، جزائر جديدة تكون نابعة من الإرادة الشعبية تحمل آمالها وتعبر عن أمالها وتسعى لتجسيد أحلامها. فإذا كانت السلطة فاشلة تسعى إلى تجديد نفسها تحت غطاء التغيير، وترفض جوهر التغيير، فإن الأحزاب السياسية هي الأخرى تسعى لاستثناء نفسها من العملية بحجة أنها غير مسؤولة عن الوضع، وبأنها لم تساهم فيه ولم تستشر في أي من خياراته.

ظاهر الأشياء يدفع إلى الاعتقاد بأن الطبقة السياسية بريئة من المسؤولية في تردي الأوضاع، لكن الواقع وتطورات الأحداث في البلاد وانعكاساتها السياسية تثبت العكس تماما. ولعل أول مظاهر ذلك عزوف الجزائريين عن الأحزاب وعدم الاكتراث بخطاباتهم وبرامجهم وغياب الثقة بهم وبزعاماتهم. فالأحزاب لم تعد تتمتع بأية شعبية، ولم تعد تمثل الرأي العام الوطني ولا تعكس حقيقة الانتشار السياسي في البلاد.

الساحة السياسية و”التصفية” على الهوية

ذلك لأن الخريطة السياسية الوطنية مزيفة ومزورة، فلا الأغلبية السياسية تعبر عن إرادة الأغلبية الإيديولوجية، ولا الأقلية السياسية تمثل حقا الأقليات الإيديولوجية. الخريطة الحالية كانت نتاج عملية إعادة صياغة وتشكيل جذريتين شاملتين، فرضتها السلطة الانقلابية عشية انقلاب 11 من يناير/كانون الثاني 1992، دشنتها بحل الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقرار قضائي، ثم أتبعتها بما عرف تاريخيا بـ “مؤتمرات التكيف” مع الدستور التي فرضت على بعض الأحزاب تغيير أسمائها، وبرامجها، وعلى البعض الآخر حل نفسها.

“مؤتمرات التكيف” كانت عملية تطهير وتصفية على الهوية السياسية، ومحاولة للسلطة الانقلابية إعادة الأحزاب إلى بيت الطاعة، عملية أدت إلى اختفاء بعض الأحزاب كحزبي الأمة لزعيمه المرحوم بن يوسف بن خدة رئيس أول حكومة للجزائر المستقلة، والجزائر المسلمة المعاصرة لزعيمه الدكتور أحمد بن محمد وغيرهما.. ودفعت بأحزاب أخرى إلى تغيير أسمائها وتعديل برامجها على غرار حركة المجتمع الإسلامي (حماس) التي تحولت إلى حركة مجتمع السلم (حمس)..

السلطة وتزوير بلا هوادة

“سياسة التصفية على الهوية” لم تفلح في إخضاع كل الأحزاب السياسية، خاصة تلك التي لم تكن معنية بمؤتمرات التكيف مثل جبهة التحرير طبعة المرحوم عبد الحميد مهري، والقوى الاشتراكية طبعة المرحوم حسين آيت أحمد، وغيرهما. فعمدت السلطة إلى خطة من أربعة مسارات:

  • بث الانشقاقات في صفوف هذه الأحزاب لتفجيرها من الداخل وتفتيتها، فأحدثت انشقاقات وظهرت حزيبات من رحم جبهة القوى الاشتراكية، وحركة مجتمع السلم، وحركة النهضة وانتشرت الأحزاب كالفطريات
  • التحريض ضد الزعامات لإسقاطها واستبدالها بقيادات جديدة طيعة تسبح في فلك السلطة ولا تناقرها في خياراتها، ولعل أكبر معركة قادتها المخابرات في هذا الشق ما عرف بـ “المؤامرة العلمية” التي أطاحت بأمين عام جبهة التحرير الوطني المرحوم عبد الحميد مهري في جانفي يناير/كانون الثاني عام 1996.. ثم تبعتها انقلابات أخرى دبرتها السلطة في عهد نظام بوتفليقة، لتسخير الحزب العتيد في خدمة مآرب السلطة والتغطية على فسادها.
  • شن حملات تشويه وشيطنة مركزة ضد بعض الزعامات التي لم تستسلم وظلت تشوش على خيارات السلطة.. وكان من أكبر ضحايا هذه الحملة الأحزاب والزعامات ذات التوجه الإسلامي.. السلطة استغلت في ذلك ظاهرة الإسلاموفوبيا السائدة، وفزاعة الإرهاب والعداء العالمي لكل ما يشتم منه رائحة ما يسمى بالإسلام السياسي.
  • حرمان الأحزاب الجديدة ذات الخط السياسي المعادي للسلطة من الاعتماد، ومنع نشاطاتها بحجة عدم حصولها على الاعتماد من لدن الداخلية

واستقر الوضع في آخر المطاف على ساحة سياسية مشوهة، ومزيفة، ومطعون في تمثيلها.. موالاة أعادت السلطة تشكيلها وعبثت بها كما يعبث الأطفال بعجينتهم. ومعارضة شكلية ضعيفة منهكة تقتات من موائد السلطة.. تعارض السلطة في العلن، وتطلب ودها في السر..

المعارضة… جانية ومجني عليها

أحزاب الموالاة تماهت مع السلطة حتى تحولت إلى مفسدة تغطي على الفساد وتفرخ المفسدين. ولم يكن غريبا أن تكون أولى الأهداف التي أسقطتها الثورة بعد إفشال خيار الولاية الخامسة للرئيس المقعد المخلوع. كل قيادات أحزاب الموالاة أُودِعت الحبس الاحتياطي بتهم الفساد أمين عام جبهة التحرير جمال ولد عباس، ورئيس التجمع الديمقراطي أحمد أويحي، ورئيس تاج عمار غول، ورئيس حزب الحركة الشعبية عمارة بن يونس. هذا بالإضافة لزعيمة حزب العمال لويزة حنون المتهمة بالتآمر ضد الجيش.

أما المعارضة فقد خلت من الأحزاب الثقيلة ذات التمثيل الشعبي الكبير، بعد حل جبهة الإنقاذ، وتدجين جبهة التحرير، وتأسيس السلطة للتجمع الديمقراطي حزب تحت الطلب وُلد بشنباته كما يقال ليفوز بكل الاستحقاقات الانتخابية، وشق صفوف حركة مجتمع السلم وتفتيت حركة النهضة.. وغيرها من الممارسات القمعية التي حولت الأحزاب إلى مجرد جمعيات سياسية حبيسة القاعات، مقطوعة الصلة بالقواعد الشعبية.

الثورات الحقيقية.. لا تدع شيئا للصدفة

معارضة متناحرة يعارض بعضها بعضا.. الأحزاب الإسلامية تتبادل حملات السباب والاتهامات، وتتآمر ضد بعضها بعضا، وتُعير بعضها بعضا.. والأحزاب الديمقراطية العلمانية تناقر بعضها، وتلتقي في معادات الأحزاب الإسلامية وترفض الاشتراك معها في أي بديل لمواجهة السلطة.. والجميع في تشتتهم وفرقتهم وعدائهم يدعون تأييد مطالب الحراك والمشاركة في فعالياته، والحراك منهم براء. فالحراك الشعبي تجاوز كل أشكال الفرقة والخلاف البالية، وأفشل كل محاولات السلطة شق صفوفه وإضعافه وتصفيته كما فعل مع تلك الأحزاب.  

هذا التشخيص يؤكد أن الطبقة السياسية ليست أحسن من السلطة فهي شريكة معها في الرداءة وسوء الأداء، وضالعة معها في الفساد والانحراف بالتواطؤ أو العجز، وإن كانت ضحية من ضحايا السلطة في يعض الأحيان. ومن هذا المنطلق فإن عبارة “يتنحاو قاع” نص بلهجة شعبية لا يحتمل التأويل، ولا يحمل دلالات غريبة ولا فيه من الإعجاز اللغوي ما يصعب فهمه ويتطلب تفسيره، يعني رحيل الجميع وتغيير المنظومة برمتها السياسية منها والاقتصادية والثقافية وحتى الاجتماعية. وفي هذا التغيير الخير للجميع وعلى رأسهم الطبقة السياسية وأحزاب المعارضة نفسها، لأنه إعادة بناء على أسس صحيحة تعيد للأشياء كل معانيها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه