محرقة رابعة.. كنت هناك!

ولم يعد أمامنا سوي انتظار الموت، ليس هناك مهرب، وليس هناك ملاذ، وكل ما عليك حين لا تقدم شيئا، أن تلزم مكانك حتي لا تكون عبئا علي غيرك ، اتخذت مكانا علي الرصيف المواجه للمنصة.

 

آلاف من الحكايات، يحملها آلاف من المعتصمين بميدان رابعة ممن شهدوا مجزرة يوم الفض، حكايات بعدد الذين ماتوا بالرصاص أو بالاختناق أو أصيبوا أو ذهلوا عن أنفسهم جراء بشاعة ما رأوه في ذلك اليوم الدامي. 

ورغم أن أحداً لا يستطيع أن يزعم أنه رأى كل ما يدور بالميدان ، نظرا لمحدودية الحركة لكثافة القصف من كل اتجاه بالرصاص والخرطوش والغاز، علاوة علي كثرة أعداد المتساقطين من الشهداء والمصابين والتي عرقلت حركة من يحاول حمل مصاب إنقاذا له أو شهيدا حفاظا علي جثمانه ، إلا أن كل حكاية منها تصلح لأن تكون ملحمة مستقلة تتغنى بها الأجيال عن ثمن الحرية الباهظ الذي تم دفعه ولم تتحقق أهدافه بعد، وتصلح لأن تكون دروسا سياسية في التعامل مع الآخر ، وكل آخر ، تعلوها قيمة أن الحق بغير قوة متكافئة تحميه هو تدمير مقدرات ، وإزهاق أرواح ، وسلب للحقيقة ، وتمكين للباطل.

لقد تحول ميدان رابعة في نهاية يوم الرابع عشر من أغسطس 2013 لكومة تحترق من الخيام والجثامين والأشجار وعلى وجه التحديد اعتبارا من الساعة السادسة مساء، أي بعد حوالي اثنتى عشر ساعة من بدء عملية الفض، لم ينته إطلاق النار العشوائي، وإنما تكثف بشكل أكبر من أي تصور تجاه عمارة المنايفة القريبة من مسجد رابعة والتي كانت الصرح الأخير لحماية جانب كبير من المعتصمين من النساء والأطفال والمصابين والأبطال الذين قاوموا بأجسادهم حتى اللحظة الأخيرة.

مسجد رابعة في الساعة الأخيرة

لست أدري كيف تمت صلاة العصر، هل أذن أحد للصلاة؟ هل أقيمت الصلاة بالمسجد جامعة لمن استطاع؟ حقيقة لم أعرف فقد كنت بالقرب من المنصة ولم أسمع الأذان عبر مكبر الصوت بالمسجد ، وإن كنت سمعته انفراديا من بعض المعتصمين المختبئين خلف أحد الجدران أو الأكشاك المتناثرة والأشجار المحترقة ، ارتقى بجواري شهداء ، وسالت الدماء فصرخت الفتيات من حولي فكان كل ما أفعله ضمهن لأزيل بعض الخوف والوحشة لديهن ، واستسلمت لغفوات من النوم علها تذهب بي بعيدا عن المشهد ، وبما أن مهمتي تلخصت منذ الصباح في جلب زجاجات البيبسي ومحاولة التخفيف من أثر الغاز على المعتصمين فلم يعد هناك حاجة في تلك الساعة لتحركي بين الناس ، فقد نفذت كل الأدوات البسيطة ولم يعد أمامنا سوى انتظار الموت ، ليس هناك مهرب ، وليس هناك ملاذ ، وكل ما عليك حين لا تقدم شيئا، أن تلزم مكانك حتى لا تكون عبئا على غيرك ، اتخذت مكانا علي الرصيف المواجه للمنصة التي تتهاوى وقد تترس الخطباء عليها بأدوات لا تغني من الرصاص شيئا ، لكنهم ما زالوا يرددون الهتافات ، وما زلنا نرددها في خفوت وَهَنَا وعدم قدرة من ضيق الأنفاس ، كان الغاز القاتل يتلاحق فاستندت على جدار خيمة بها ثلاثة شهداء منهم رجل خمسيني واثنين من الشباب تجري دماؤهم في كل اتجاه،  فأخفيت رأسي في حجابي أكتم أنفاسي وأضع بعض قطع من البصل في الكمامة المهترئة بينما أنتبه كل بضعة دقائق لأفيق أحد المختنقين حولي حتى فقدت قدرتي على الحركة تماما. وغفوت لست أدري لكم من الوقت ، أفقت فإذا بالمكان حولي شبه فارغ إلا من بضع فتيات كن معي ، ومصورين يتلقطون لنا الصور والفتيات يتحلقن حولي كل واحدة تلتمس لدى بعض القوة والرغبة في البقاء، وبعض مصابين أوشكوا على الموت بأطراف مقطوعة ومختلطة والمنصة خلت من الجميع وقد انتقل خطباؤها لأسفلها، فأشار إلي أحدهم أن أصطحب من معي تجاه المسجد في محاولة لإسعافهن أو الابتعاد بهن عن الرصاص المتطاير في كل اتجاه، فسرنا في حالة فزع شديد ، بضعة أمتار حتى وصلنا لساحة المسجد فإذا به العشرات من المصابين دون طبيب واحد يسعفهم ..
كان المسجد يعج بالمئات من النساء ، وعدد من الأطفال الذين ماتوا اختناقا لعدم وجود إصابات بجثاميهن الصغيرة ، ورصاص يخترق ظهور البعض وسيقانهم وطبيبة واحدة تحاول منع النزيف للعشرات في ضوء هاتف صغير ، لم أستطع المكوث في المكان فخرجت ،  وكان الضرب يزداد على سيارة البث وكل من كان بجوارها طالته يد القنص ، وفي ذات الوقت سمعت ارتطاما وحشيا فوق سطح المسجد حتى ظننته قد سقط فوق من فيه ، مرت دقائق حتى اكتشفت أنه لم يكن بالمسجد ، وإنما كانت أحد الأخشاب الضخمة التي تتساقط مشتعلة من عمارة قريبة من مسجد رابعة يقذفها آخر من صمد من المعتصمين بعد هدوء بالميدان كله إلا تلك البقعة المسماة بعمارة المنايفة .

العمارة الأسطورة

كنت حريصة على أن أتجنب فقدان أي فتاة ممن كن معي من فتيات فقدن ذويهن خاصة أنهن لسن قاهريات وإنما من محافظات مختلفة ، فكنت أتحرك بهن طيلة الوقت في أي مكان أوجد به، أقبض بيدي علي أكثر من يد بينما الأخريات يلتصقن ببعضهن البعض ليس خوفا ، وإنما حرصا على عدم ضياعهن من بعضهن البعض ..
صرخت إحداهن أن اخرجي بنا للساحة كي نموت ، فالموت أرحم من انتظاره ببطء ما عدت أحتمل، كانت صرخاتهن تمزقني بينما أصرخ عليهن بالثبات حتى لا يرى القتلة منا ضعفا ، أوشك المغرب على الدخول ، وهدأ القنص بالميدان نسبيا وتركز في ناحية واحدة كان يأتينا منها أصوات مفزعة ، وتكبيرات مرتفعة ، وزخات من الرصاص الذي يصيب المسجد ومبنى المجمع الطبي المجاور له، تنحيت قليلا لأشاهد ما يجري في شارع الطيران ، فوجدت هولا ، عمارة المنايفة التي طالما مررنا عليها وتناولنا طعامنا أمامها وأقمنا شبه ندوات مع روادها والتي كانت قريبة كذلك من معرض سوري ضخم مقام من القماش السميك وقد شبت فيه النار بكامله ، بينما العشرات من الأخشاب المستخدمة في البناء تقذف من أعلى المبنى في الشارع في محاولة أخيرة للدفاع عمن تبقى بالعمارة ، والتي كنت أعلم أنها مليئة بالمعتصمين في كل طوابقها غير مكتملة البناء ..
كانت حرب شوارع قاسية ، الدبابة والمدرعة والجنود والقناصة والطائرات التي تحملهم مقابل شباب يستخدمون أجسادهم في محاولات بائسة للدفاع عمن تبقى من المصابين والنساء والأطفال والمئات ممن استشهدوا ، كان مشهدا عبثيا بكل ما تحمل كلمة العبثية من معنى، حرب يملك المعتدي فيها كل الوسائل ، بينما المعتدى عليه لا يملك إلا جسده يحارب به ، سمعت صرخات الشباب: اثبتوا يا شباب، اهجموا يا شباب ، لا تستسلموا يا شباب، تكبير، والموت هو الرد المقتضب علي كل هتاف ، نعم أرهقهم الشباب بشدة ، حتى سقطت العمارة ، فتم الاجتياح الكامل للميدان بعد سقوطها ، ورأيت بعيني جحافل من الجنود ينتقمون بشدة من كل من يلاقيهم في طريقهم للمسجد ، أغلق النساء أبواب المسجد عليهن من الداخل وظللن يصرخن في الظلام الذي كسى المكان ، بينما يتهامس البعض عن ممر للخروج فتحته الداخلية أخيرا في الوقت الذي كان الهجوم فيه من ناحية شارع الطيران قادما نحو المسجد ضخما، غير أن الركام الهائل الذي صنعه المنايفة ببسالتهم بين عمارتهم وبين المسجد أخر وصول تلك القوات إلينا وعرقلت حركتهم

اللحظات الأخيرة

 في طريقي للخروج من المسجد وجدتنا أمام مركز رابعة الطبي ، صعدت بضعة سلالم لنحتمي به من الرصاص المتناثر ، كانت السلالم الأربعة الأولى للطابق الأرضي تقطر دما كأنها سيل لا يتوقف ، والجدران ملطخة بالدماء ، وأحدهم في مقدمة المبنى يقول: إلى أين ؟، قلت له تنحى لنستريح ، لم تغلقون المبني ، يكفي ما رأيناه ، حرام عليكم ، تنحى قائلا ، تفضلي ادخلي ، لكن لا مكان لكم فالمبنى ملئ بالجثث والمصابين ، نظرت فوجدت الحاجز الزجاجي الأمامي محطما تماما ، بينما تتناثر جثامين الشهداء على الأرض بجوار الحوائط في الممر الطويل بالطابق الأرضي ، لم أكمل المسير ، ولم أكن أدري حقيقة: هل هم أموات، أم ما زالوا أحياء أفقدهم الهول القدرة على التأوه والصراخ ، تراجعت كي لا أرى المزيد في الوقت الذي خرج ضابط شرطة يوجهنا لممر ضيق للخروج ، وقفت لحظات بسبع من الفتيات أدور برأسي في المكان ، هل نخرج ؟هل يجوز شرعا أن نترك خلفنا كل هذه الجثامين ، وهؤلاء المصابين الذين لا يقدرون على الحركة أو إنقاذ أنفسهم وليس هناك من ينقذهم أو يقدر على ذلك ، هل نخرج ونتركهم لمصيرهم ونحن نعرفه جيدا ؟ هل يجوز لنا وقد اختطفت الجثث أمام أعيننا فلم نعد ندري إلى أين؟ أو ماذا نقول لذويهم؟ أو ماذا نقول لربنا حين يسألنا أضعتم جثة أخيكم؟ نظرت للمصابين المتراصين أمام المسجد والهول يقترب، والنار تقترب، وعيونهم معلقة بنا؟ لحظات وقلبي يعتصر خوفا من ربي أن يكون فرارا من الزحف، ولكن أي زحف؟ هل كنا في حالة حرب وتركنا المعركة وخرجنا؟ هل تركنا أسلحتنا وفررنا؟، هل حاربنا عدوا فهزمنا ولم نقدر على الصمود؟ ليس أيا من ذلك، لكن هؤلاء الذين نتركهم خلفنا ما موقعهم؟  كنت في حالة رعب شديد من سؤال ربي عنهم، هل نخرج وأنقذ نفسي ومن معي؟ أم أبقي وأموت معهم؟

تعالي صوت الضابط أن أخرجوا ، انحنوا فالقناصة لن يتركوكم تعبرون ، رأيت ممن يعبر الدكتور صلاح سلطان فك الله أسره ، يضع على رأسه شالا عربيا ويشير أن نخرج ، لم ينحني كما أمر الضابط بالانحناء لننجو ، ولم أنحني ولم أستطع أن أفعلها ، طابور طويل من الخارجين من الميدان في صفين لضيق الممر الذي خرجنا منه ، تساقط حولي بينما نسير بضعة رجال لست أعرف كم على وجه التحديد لانعدام الإضاءة بالمكان ، وقد كنا في عتمة المغرب والعشاء ، خرجنا لشارع متسع ينتظر علي قارعته المئات ممن استطاعوا الخروج أو الوصول للمكان ، يسألوننا عما يحدث بالداخل وكم عدد من تبقى ، وهل تبقى أحياء ، لم نستطع جوابا ، سرنا خلف الدكتور صلاح سلطان إلى مسجد الإيمان لنبيت ليلتنا بين مئات من الجثامين التي كانت تتوافد على المسجد محترقة بالكامل

في الصباح، وبمحطة مصر التي توقفت حركة القطارات بها ، وجدت بعض الشباب الذين أعرف وجوههم توجهت إليهم أسألهم ووجوههم مغبرة وملابسهم مهترئة ، قالوا نتوجه لمحافظاتنا غير أننا لا نملك إلا النقود الموسومة بصورة الرئيس مرسي ” رحمه الله ” وقد كانت الكمائن في مصر كلها علي كل الطرق ، فأعطيناهم ما يكفيهم للوصول ، وحملنا في صدورنا الكثير من الأسئلة التي لم نجد لها حتى يومنا هذا جوابا!

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه