العثمانيون الذين لا نعرفهم!

 

   حقيقة لا مفر من الاعتراف بها – في شخصي أنا على الأقل – أنني تلقيت معلوماتي عن الخلافة العثمانية ودول الإسلام السابقة عليها، من مصدرين لا ثالث لهما.. واخطرهما واسوؤهما  الكتب المدرسية، المكتوبة في الحقبة الناصرية، بأيد يسارية، أو قومية، كارهة لكل ما هو إسلامي، وربما لكل ما هو حر؛ فصورت العثمانيين على أنهم متعجرفون قساة لصوص، لم يسجلوا أي نوع من التقدم، ولا الحضارة، ولا الإنجاز، حتى جاء أبو الأتراك (أتاتورك) فأزالهم، وخلص الناس من شرهم، ودخل بتركيا نحو أوربا والحضارة!

   لقد تحدث سادتنا المستغربون المتخوجنون – مصادرنا قطعية الثبوت والدلالة! – بكثير من التزييف والخبث، عن الحريم وما يعانين، والحرملك الذي يجسد السجن القبيح المظلم! والسلاملك المليء بالبطش، والقهر، والبلاهة، والسياسة الجائرة، والخيانة للدين، والأنانية المفرطة، والعنصرية الفائقة!

   وكرست السينما والأدب والأعمال الفنية حديثها عنهم بأخلاق العجرفة والغلظة والغباء، والظلم والقسوة والاحتجان!

حريم السلطان

     وكيف أنسى المسلسلات التي لا تزال تشوههم وتحقرهم بشكل لئيم خسيس، مثل (حريم السلطان) الذي قدم صورة شائهة جدًّا للسلطان سليمان القانوني، وأثار الشارع التركي الذي تقدم ضده بـ 70 ألف شكوى أرسلت للمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون التركي! وأظهر السلطان العثماني الذي كانت الدولة في عهده في أوجها، علاوة على أنه من أفضل من حكموها، على أنه “عربيد” غارق في الخمر، مفتون بالنساء.

    وكيف أنسى مسرحية (سيدتي الجميلة) التي صورت الوالي العثماني زير نساء، وسوقيًّا (عند الاقتضاء) وخبيرًا – عيانًا بيانًا – في خطف النساء…

    كذلك لا أنسى أشعار شعراء كثيرين قبحوهم، وجعلوهم غرقى في الكاس والطاس، والرقص والعهر، فاقرأ هذه الصورة البليغة التي يجسدها نزار قباني لخليفة واجه الصهاينة بملكه كله، وقل أنت رأيك، ففي قصيدته: أوعية الصديد يقول نزار:

ماذا أريد؟

يا وارثًا عبد الحميد

والمتكى التركيَّ، والنرجيلةَ الكسلى تئن وتستعيد

والشركسياتِ السبايا حول مضجعه الرغيد

يسقطن فوق بساطه..  جيدًا فجيد..

وخليفة الإسلام، والملك السعيد

يرمي.. ويأخذ ما يريد!

   صورة بشعة لخليفة الإسلام كما يحلو لليساريين والقوميين والعلمانيين أن يجسدوها، ولو أنهم أنصفوا، واحترموا أنفسهم، وقرؤوا بعيون حيادية ما سقطوا في هذه الحفر الهاوية!

بعض المنمنمات

        وأزعم أن عند أجيالنا – بشكل عام – جهلًا مطبقًا بالعثمانيين ودورهم الحضاري الهائل الذي ترك بصمته – ستة قرون – في العالم المعروف القريب منهم: في بلاد العرب، وأواسط آسيا وشرق أوربا، سواء كان التأثير دينيًّا، أم لغويًّا، أو معماريًّا، أو ثقافيًّا، أو فنيا.. وعلى مستوى العادات والتقاليد، وغير ذلك!

   ولأخترع من عندي قاعدة أن:

الأصل فيمن يهتم بالنوافل أنه لن يضيع الفرائض.. والأصل فيمن يحرص على المكارم أنه لن يضيع الأصول

   لذا فسأسوق بعض المنمنمات السلوكية الصغيرة، التي قد لا يلحظها كثيرون، التي تعكس نفسيات مؤمنة، وقلوبًا نقية، وأخلاقًا مرضية، وأن اللفتات الإنسانية تعكس نفوسًا شفيفة رفيفة، جديرة بالاحترام ومزيد الإكرام، لا الجحود والتطاول كما ينهج اللئام!

مجرد ملامح

      لقد تمتع العثمانيون بحساسية إيمانية فائقة لم أحس بمثلها عند كثيرين غيرهم: يبدو ذلك في أخلاق الخلفاء والعلماء والجند والحرفيين، وفي سلوكيات وتطبيقات مشحونة برقة وحساسية عجيبة..

   والأمثلة على ذلك عديدة لا تحصى، سأورد مجرد ملامح منها، والفطن تكفيه إشارة!

توارث الخطباء الأتراك المعاصرون عن أسلافهم العثمانيين – وحتى اليوم -: أن ينزل الخطيب عن الدرجة العليا من المنبر عند الخطبة إلى ما دونها؛ احترامًا لموقف لسيدنا محمد عليه السلام عليها، لأنه بأبي هو وأمي الذي يستحق أن يكون عليها.

الطابع الذي يطبع المصحف الشريف – حتى يومنا هذا – يتوضأ قبل بدء الطباعة، ويصلي ركعتين، وكذا الخطاط حين يبدأ الكتابة، لا بد أن يقوم ليتوضأ ويصلي ركعتين، إحساسًا بقداسة ما سيكتب، وأهمية ما يؤدي!

   رغم أنني رأيت أوراق المصحف وقد لُفت بها البضاعة في سوق القرطاسيات بالموسكي، قبل ثلاثين سنة، ورأيت (دَشْت) كتب السنة الكبيرة في قاع كراتين البضاعة، ورأيت من لا يفرقون بين كتاب الله تعالى وكتب من يحضرون الجان والعفاريت!

   كما رأيت مطابع تستعين بهندوس وبوذيين في طباعة المصحف الشريف، الذي لا يمسه إلا المطهرون كما أمر ربنا تعالى، في بعض مفاهيم الآية!

ومن أروع وأبدع ما سمعت أن الخطاط الذي ينسخ المصاحف الشريفة، أو يكتب آي القرآن، والأحاديث النبوية، كان يجمع برايات أقلامه، ويلفها في خرقة، يحتفظ بها بعناية مدى حياته، لسبب لا يكاد يخطر ببال أحدنا..

    لقد كان يستخدم القش الناتج من هذه البراية في تسخين ماء الغسل إذا هو مات، لعل ذلك يكون له من شفعائه عند الله تبارك وتعالى!

ومن أعجب ما سمعته من جوانب حساسيتهم الإيمانية شيء عن جغرافيا إستانبول، فهي نصفان: نصف مرتبط بأوربا، ونصف آخر مرتبط بآسيا..

    وقد لاحظت أن أكثر المتدينين يفضلون الجناح الآسيوي لإستانبول، لسبب أدهشني حين سمعته من الشيخ حسن شلبي شيخ الخطاطين المعاصرين، لما سألني:

    أتعرف لماذا نفضل الجانب الآسيوي؟

    لأن أرضه متصلة بأرض الحجاز، أرض مكة والمدينة..

     ويا له من سبب مدهش، وإجابة لم أتوقعها!

  وعجائبهم الاجتماعية والسياسية والجهادية والأخلاقية تحتاج أن تفرد بمؤلف خاص لعل الله تعالى يُقدرني عليه يومًا..

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه