الحراك الشعبي في الجزائر يهزم السلطة في الشوارع والملاعب

لم تكن السلطات الجزائرية تنتظر أن يكون للفريق الوطني شأن في نهائيات كأس الأمم الإفريقية بمصر، فلم تضع مشاركته ضمن رهاناتها السياسية في بداية الأمر. فقد كان الفريق ضعيفا مهلهلا محطما بعد تنحية المدرب السابق رابح ماجر الذي فشل فشلا ذريعا في إعادة بعث المنتخب من جديد.

لكن مع توالي المباريات والنتائج الإيجابية بدأ المنتخب يسترعي الاهتمام ويثير الانتباه. وعشية تأهله للدور نصف النهائي استنفرت السلطة أركانها ودخلت على الخط فأقامت جسرا جويا بين الجزائر ومصر لتقل الأنصار، وتطوعت القيادة العسكرية بتخصيص عدد من الرحلات مجانا للمشجعين، وكانت الرغبة ظاهرة وجامحة في استغلال الحدث الكروي، لاستمالة الرأي العام وجلب المزيد من تعاطف الجمهور الرياضي.

وبفضل هذا الجسر تنقل الآلاف من المشجعين ومجانين الكرة إلى القاهرة لمناصرة الفريق الوطني.. الفريق لم يخيب أنصاره وفاز بالكأس القارية؛ لكن خيبة السلطة كانت كبيرة فلم يثمن أحد مجهوداتها ولم تظهر في صورة الإنجاز القاري الكبير. فلا الأنصار ثمنوا التفاتة السلطة وشكروا لها سعيها في نقلهم إلى القاهرة، ولا الطاقم الفني والإداري تذكر السلطات، ولا اللاعبون أولوا لها أي اهتمام. وحتى القنوات الفضائية التي تحولت إلى قنوات رياضية خالصة نسيت أو تناست في زحمة الأحداث ونشوة الانتصار أن تطبق التعليمات بمدح السلطة خاصة الفعلية منها.

الإنجاز الأفريقي يزيد من عزلة السلطة

وبالمقابل فقد كان الحراك الشعبي الرافض للسلطة والمطالب بتغيير النظام، حاضرا في الملعب والمدرجات والكواليس. فقد هتفت الجماهير ببعض شعاراته، وحيا اللاعبون والطاقم الفني المسيرات السلمية الحضارية، وثمنوا تطلع الجزائريين للحرية والانعتاق، وأدرج بعظهم الإنجاز الأفريقي في مسار الحراك واعتبروه استمرارا له، حتى إن أحد أبرز اللاعبين وصف ملحمة الفريق في مصر بالحراك الرياضي تيمنا بالحرك الشعبي. وردد اللاعبون هتاف” فلسطين الشهداء” الهتاف العزيز على قلوب الجزائريين يرددونه في تظاهراتهم ومظاهراتهم واحتجاجاتهم واحتفالاتهم وأفراحهم…

ومع عودة الفريق إلى الجزائر سعت السلطة جاهدة لاستدراك ما فاتها في القاهرة ومرورها على هامش التتويج. سعي حثيث ظهرت تجلياته في تسرب صوت من “سماعة” مذيع القناة العمومية وهو يهمس له على المباشر بذكر فضل الجيش الشعبي الوطني وتثمين جهوده، إيعاز استجاب له المذيع طواعية. غير أن الحملة لم تُؤت أكلها ولم تُرض غرور السلطات خاصة العسكرية منها.

قيادة الأركان تثمن مبادرتها وتشكر ضباطها

وعلى غير العادة ظلت السلطة العسكرية غائبة مغيبة عن المشهد مما حذا بقائد الأركان إلى الخروج عن صمته وتوجيه رسالة “شكر وامتنان وتهنئة لأطقم الطائرات العسكرية التابعة للقوات الجوية على أدائها المتميز خلال نقل المناصرين الجزائريين إلى القاهرة..” وثمن قايد صالح المبادرة التي أمرت بها القيادة العليا، وتوسع إلى درجة الإفراط في الإطراء على عملية نقل الأنصار ونجاحها وما لقيته من استحسان لدى الشعب… رسالة قائد الأركان تناولتها وسائل الإعلام بإسهاب كبير، وأولتها اهتماما منقطع النظير.

وقد لاحظ الكثير من المحللين باستغراب تركيز قائد الأركان على طياري القوات المسلحة ومدح مبادرة الجيش نقل الأنصار دون أن يُفرد للفريق الوطني تهنئة خاصة على إنجازه التاريخي، ولا يخص اللاعبين بتحية تهنئة وتقدير مكتفيا بالإشارة للإنجاز في سياق الإشادة بالإنجاز العسكري في نقل المشجعين.  

كما سجلت رئاسة الدولة عودتها للمشهد الرياضي، بعد التهميش الذي “حظيت” به في حفل التتويج بملعب القاهرة.. فنظمت حفل تكريم على شرف الفريق وطاقمه الفني، وعمدت إلى إسداء أحد أعلى أوسمة الجمهورية لكل أفراده باستثناء رئيس اتحاد الكرة خير الدين زطشي الذي أُقصي من التكريم وحُرم من الوسام معا وباء بغضب السلطة، عن سابق إصرار وترصد.

السلطة واللعب في الوقت بدل الضائع!

سعي السلطات لاسترجاع زمام تبني الإنجاز الرياضي كان مرفوقا بحملة عقابية واسعة النطاق طالت العديد من الجهات أو هكذا فسرها المحللون.. إذ يعتقد الكثير من المحللين أن فضيحة إهمال الأنصار، وفريق الصحفيين ضيوف وزارة الشباب والرياضة الجزائرية، في مطار القاهرة وتلاشي الجسر الجوي كان انتقاما ضمنيا من طرف السلطة ضد أنصار اعتبرتهم متنكرين لفضلها، هتفوا بكل شيء وحيوا كل الجهات باستثناء السلطة التي نقلتهم إلى القاهرة، وضد صحفيين لم يذكروا في تحليلاتهم ومراسلاتهم السلطة ولم يشيروا لجهودها.

ويُدرج معظم المتابعين تغييب رئيس اتحاد الكرة خير الدين زطشي عن حفل التكريم وإقصائه من وسام الاستحقاق، في سياق الانتقام الشامل الذي سلطته السلطة انتقاما لنفسها من تفويت شرف تبني الإنجاز الرياضي، وتمهيدا لتنحيته من رئاسة الاتحاد واستبداله بشخصية مقربة تعيد لها شرف رعاية الفريق والاشراف على إنجازاته.
ويؤكد أصحاب هذا التفسير أن السلطة ناقمة من رئيس الاتحاد لأنها تعتبره من بقايا من تسميهم العصابة التي وضعته على رأس التنظيم الكروي، وأحد المقربين من الملياردير المنهار علي حداد نزيل سجن “الحراش” في جملة من تهم الفساد.

لقد ظلت الكرة إلى أجل قريب إحدى أدوات السلطة لإلهاء الرأي العام عن مشاكله الحقيقة وهمومه اليومية، وتشتيت انتباهه، وتحويل الملاعب إلى ميادين للتنفيس الاجتماعي يصرخ فيها الأنصار ويفرغون شحنات الحنق والغضب، بهتافات وأغان تسب السلطة وتنتقد سياستها وتفضح فسادها ثم يعودون إلى همومهم منهكين.. الكرة من أفيون إلى أداة نضال

ولم يكن للسلطة أي منافس ينازعهما في الاستثمار الكروي وتبني انتصاراته والفخر بها، وتسيير إخفاقاته وتكييفها بما يجعلها الخصم والحكم في الوقت نفسه تحمل مسؤوليتها لكباش فداء تضحي بهم عشية كل إخفاق.. في الكأس الأفريقية الأخيرة كانت انتكاسة السلطة مزدوجة، وهُزمت مرتين، هزمها سوء تقديرها واستخفافها بمقدرات الفريق، وفرص تألقه، ففوتت عن نفسها فرصة أن يُنسب إليها أي إنجاز محتمل.. وهزمها الحراك الشعبي السلمي، الذي كان منافسا عنيدا يظهر لأول لينازعها تزعم الحدث الرياضي والاستثمار فيه ويفتك منها شرف الانتصار، ويهزمها شر هزيمة..

ولأول مرة تتحول الكرة في الجزائر، بفضل الحراك الشعبي السلمي، من مأساة ملهاة، إلى حراك سياسي يثمن الكفاءة والقدرة على صناعة الانتصار، ويدين الرداءة، الموغلة في اجترار الهزيمة والانكسار.. وتنتقل اللعبة من أداة توظفها السلطة في سوق السياسة، إلى حجة عليها تفضح عجزها وقصورها وإقصائها للكفاءات القادرة على إخراج البلاد من تخلفها.. فقد أثبت الجزائري قدرته على التألق كلما تحرر من أغلال الاستبداد، وليس أدل على ذلك فوز الجزائر بكأس أفريقيا في مناسبتين على خلفية ثورتين شعبيتين ضد النظام وجوره واستبداده الأولى في عام ألف وتسعمائة وتسعين، في خضم تفاعلات ثورة أكتوبر /تشرين الأول 1989 والثانية هذا العام في أوج حراك الثاني والعشرين فبراير/ شباط…

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه