عبد الحميد كشك: الداعية العفيف المترفع

 

         يسميها الخواجات ” كاريزما ” وأسميها ظاهرة.. أعني تلك الموهبة التي يتمتع بها شخص من الأشخاص، فتجعل الأنظار تستشرفه، والقلوب تهفو إليه، ويصير بين الآخرين فذًا، يصعب اللحاق به، وإدراك شأوه، رغم كونه شخصـًا عاديـًا؛ بل ربما كان أقل من الآخرين في إمكاناته الجسدية.. لكنّ ربّك الوهاب سبحانه يكرم من يشاء بما شاء، ويهب من يشاء ما يشاء، ليكون رجلاً أمة، أو رجلاً ظاهرة:

الرافعي – رحمه الله – كان لغويـًا ظاهرة، سيد قطب مفكر ظاهرة، الألباني محدث ظاهرة، وعبد الحميد كشك خطيب ظاهرة.

الكفيف الأحد بصيرة

عبد الحميد كشك ذلك الكفيف، الأحدّ بصيرة من المبصرين، النحيف، الأثبت قلبـًا من عشرات الرجال “الإكس لارج” العفيف الذي ترفّع على الفلوس والمغريات، ورفض عشرات المرات أن يغادر عرينه، ليبقى مدافعـًا عن الإسلام، وعن مصر، من كل تزييف ودنس، محذرًا من كل تلوث فكري، أو تجرثم عقيدي، يسرّبه إليه مهربو الأفكار المخدرة، وتجار الممنوعات العقلية المدمرة.

     هابه الساسة فقيدوه، وخشيه المفكرون فحملوا عليه وسبّوه، وعيروه بعماه وضعف حاله، فما قابل التعيير إلا بالاستعلاء الذي تجذّر في نفسه من دينه وعقيدته ومروءة نفسه.. وصبر – رحمه الله – على ما أوذي وجوبه وكُذّب؛ حتى لقي ربه سبحانه ساجدًا مسبحـًا، ويا لها من ميتة يبعثه الله عليها مسبحـًا ساجدًا.

قال عنه جيل كيبل المستشرق ورجل المخابرات الفرنسي: “نجح كشك في إعادة رسالة المسجد في الإسلام، حيث تحول مسجده في عين الحياة بحدائق القبة إلى خلية نحل، تكتظ بحشود المصلين الضخمة، الذين يضيق بهم المسجد، فيفترشون الحصير في الشوارع المحيطة.

    وقال عنه محيي الدين عبد الحليم أستاذ ورئيس قسم الإعلام بالأزهر: أسهم بفاعلية واقتدار في جذب الجماهير، واستمالتهم، وأرسى منهجـًا في الخطابة جديرًا بالبحث والدراسة، وتناول مختلف الأمور التي تشغل تفكير المسلم في يومه وغده، متحملاً أعباء جسيمة في سبيل الرسالة التي اضطلع بها، وتحمل كراهية المسؤولين، والكثير من عنت السلطة.. وأثبت أن خطبة الجمعة لا تقل أهمية عن وسائل الإعلام المعاصرة كافة، بل تتفوق عليها جميعـًا.

ويتفاعل المصلون مع لأزماته

كان يرفع صوته المميز “بلوازمه” فتنشقّ حلوق المصلين خلفه، مجيبين نداءاته مهما أطال التكرار: إذا بُليت بظالم فقل: يا الله.. وحّدوا من لا يغفل ولا ينام.. يا حُماة الإسلام ويا حراس العقيدة.. هنا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم.

     ويتفاعل المصلون مع “لأزماته” فتقشعر جلودهم، وتعلو أصواتهم، وتتتابع دموعهم.. فقد كان قادرًا على الالتحام بهم، وإشعال مشاعرهم.

     كانت به شفافية، لم يغيبها فقده للبصر، حتى إنه ليحس بما لا يحس به المبصرون: كان يخطب ذات جمعة فتوقف فجاة وقال: افسحوا للجنازة.. لم يخبره أحد، بل كان منشغلاً بالخطبة، مستغرقـًا في ترتيب أفكارها.. لكن قلبه يقظٌ نبهان..

وإذا كان الناس يتحدثون عن خطبـاء لهم جاذبية جماهرية منذ شيشرون الروماني Cicro وقس بن ساعدة العربي، وأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه.. فلا شك أن عبد الحميد كشك كان من الخطباء المميزين، الذين أثروا في أهل زمانهم – محبين وشانئين – بعد أن صار لسان العامة في مصر، يسمعون خطبه في البيوت، وعلى المقاهي، وعلى “نَـقْلة الشراقي” وفي الطريق من الغيط وإليه، وعبر ألوف التاكسيات “البيجو” التي تجوب أنحاء القُطر صبح مساء.

 لم يكن مجرد حنجرة قوية، بل كان – رحمه الله – رجل مواقف، يجهر برأيه مهما انفرد به، لا يخاف لومة لائم، ولا يعمل حسابـًا للنازلات القارعات..

وكم له من مواقف سياسية واجتماعية صارمة وصريحة..

وكم تصدى للتيار الرسمي، واصطدم صراحةً بالمسؤولين، بسبب رفضه لكامب ديفيد، وظل سوطـًا لاهبـًا على ظهور مرتكبي المخالفات الاجتماعية والإعلامية والفنية.

     وانتقد كثيرين من أصحاب المواقع المهمة والأقلام المؤثرة، دون تهيّب أو مواربة.. وكانت مواقفه هذه عربون رواج أشرطته التي انتشرت أكثر من انتشار الصحف المزوّقة، والمجلات الملونة، وكاسيتات التهريج الفني التي بثت السخافة والخدَر..

وبلغت أشرطته التي عبأها أكثر من الألفين عدًّا، لم يخدمها في التوزيع والانتشار غير نبرة الصدق في الأداء، والصدق في العاطفة، والصدق في المواقف، والصدق في النصيحة؛ والله حسيبه.

لم يخدمها أكثر من بركة الغيرة على الإسلام، والحمية للأخلاق، والنفور من السقوط والهبوط والإسفاف.

     لذلك كان لا بد أن يتوقف، وأن يكف عن الثرثرة و “وجع الرأس”.. وكالسيف الحبيس في غمده حُبس جسده شهورًا أواخر سنة 1981م، وأوائل سنة 1982م، ثم حبس لسانه، وأُصمت قسرًا لمدة أربعة عشر عامـًا متواصلة.. كان خلالها أشبه بمن استؤصلت أحباله الصوتية…

أشبه بطائر غرّيد ربطوا منقاره ليكف عن التسبيح الجميل.. صادروا أجمل ما فيه.. وهل

 في الداعية أجمل من الصوت؟! وهل يملك أكثر من البلاغ؟ فإذا منع من البلاغ فماذا بقي له؟!

كان متعففاً

    كان رحمه الله متعففـًا ولا أزكيه على الله، يصرّ على عدم مبارحة شقته ومسجده إلا للدعوة إلى الله تعالى في الداخل – مهما كانت ظروفه المالية – كأنه لن ” يلعلع ” إلا في مسجده، وبين جمهوره.. لا يستبدل بهم جمهورًا آخر، ولا يريد لتغريده فضاء آخر..

ضاقت به الظروف جدًا في بعض الفترات حتى إنه – كما سمعت من صديقي وصديقه المرحوم الدكتور رشدي إبراهيم رحمهما الله – لم يكن في بيته إلا التمر والماء.. يعيش عليها نهارَه وليله – وهو المريض بالسكر – مع أن كثيرين عرضوا عليه المساعدة، ومع أن سبلاً كثيرة كانت مفتّحة أمامه للكسب: العمل في الخارج، التسجيلات الإذاعية والتليفزيونية، ومع ذلك كان يرفض بشمم وشدة..

وقد جربت ذلك بنفسي.. ففي نهاية عام 1989م كنت في القاهرة، وحاولت الاستفادة من وجودي هنالك بمقابلة بعض العلماء الكبار، والتسجيل معهم للتليفزيون حول بعض القضايا التي طرحت بعد ذلك في برنامج “الإسلام وقضايا العصر” الذي ضم كبار علماء العالم الإسلامي، وفاز بالجائزة الذهبية في المهرجان الأول للتليفزيون الخليجي.. وطلبت الشيخ هاتفيـًا أرجوه المشاركة في البرنامج بجانب الشيوخ الأجلاء: الشعراوي، والغزالي، وصلاح أبو إسماعيل – رحمهم الله جميعا رحمة واسعة – فرد عليَّ بأدب شديد – وبحزم شديد أيضـًا – بأنه لا يتعامل مع أي تليفزيون على الإطلاق، وحاولت ترغيبه وتعطيف قلبه بشتى الطرق، لكنه صمم على الرفض، وعلمي أنه ظل يتهرب من الكاميرات حتى مات، في وقت يلهث الكثيرون للجلوس خمس دقائق أمام الأضواء لاستعراض كرافتة جديدة، أو ساعة يد “مهداة”.

= لكن هل مات عبد الحميد كشك حقـًا؟

= هل مات من ترك وراءه ألفي شريط كاسيت مليئة بالحماسة والغيرة والعلم الذي ينفع الله به الناس؟

= هل مات من ترك وراءه 115كتابـًا وملايين المعجبين؟

= هل مات من خلف وراء ظهره تاريخـًا ممتدًا من الدعوة والجهاد في سبيل الله؟!

رحم الله الشيخ كشك (خطيب العلماء)، وقبله عنده في المرضيين.. قولوا: آمين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه