العلامة الشعراوي: صاحب أول تفسير شفوي في تاريخ الأمة

 

      على بعد بضع مئات من الأمتار من جمهورية زفتى، بلدي، وتحت الكوبري الإنجليزي الفاصل بين منية غمر ومنية زفتى.. وسط خضرة “من العيار الثقيل” وماء عذب سلسبيل، قامت بضعة بيوت ريفية متواضعة لتشكل قرية اسمها دقادوس، شهدت مولد الشيخ العالم المفسر اللغوي الشاعر العلامة محمد متولي الشعراوي أوائل هذا القرن العشرين.. وكانت ميت غمر التي نشأ الشعراوي تضم في حواشيها حارة لليهود ذات قوة اقتصادية، وتضم جالية نصرانية لا بأس بها، لوجود بعض الكنائس القديمة بالمنطقة، فضلًا عن الازدهار التجاري والتعليمي في المدينة ذاتها..

      وكانت مصر كلها آنذاك تموج بتيارات ثقافية وسياسة واجتماعية هائلة:

      الشعب المصري يرزح تحت أعباء ثقال من التخلف والجهل/ والإنجليز يحتلون كبرى بلاد الشرق وأعرقها/ والمستشرقون: جب، وماسينيون، وإسرائيل ولفنسون، وكارل نللينو وغيرهم  يستوطنونها ليزرعوا مناهج فكرية ستؤثر تأثيرات شديدة في الدراسات الدينية والاجتماعية، والسياسات التعليمية والإعلامية/ وبعض (أبناء البلد) وافقوا الإنجليز وحطبوا في حبالهم، وخانوا وطنهم مصر، جهارًا نهارًا، كإسماعيل صدقي باشا (بلدياتي) ومحمد سلطان باشا شعراوي رئيس مجلس الأعيان ووالد هدى هانم شعراوي، ومصطفى فهمي باشا والد صفية زغلول، ولطفي السيد، وغيرهم/ كما ظهر وطنيون أبطال كمحمد فريد ومصطفى كامل وغيرهما..

       وأخذ نصارى الشام ويهودها ينزحون إلى عاصمة الثقافة ليؤسسوا المسرح، ويوطدوا للموسيقى، ثم للسينما، والصحافة، حيث ظلت المقتطف والأهرام وأخواتهما ترحب بالإنجليز وجودًا وفكرًا وحضارة، ويظهر أقطاب كبار في الفكر والأدب والسياسة بتعاركون، ويوالون، ويعادون، ويثورون، ويستثيرون، ويملؤون الدنيا حركة وتأثيرًا: الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وطه حسين، والعقاد، والرافعي، والزيات، وأحمد أمين، وسلامة موسى، وغيرهم..

    المخاض الحضاري:

     كان الجو كله في حالة مخاض حضاري سلبًا وإيجابًا، وفيه يخرج الشعراوي فلاحًا وابن فلاح، وشاعرًا أزهريًّا “ثورجيًّا” وفدائيًّا يملأ الدنيا ضجيجًا وحركة، لا يرضى أن يكون في الساقة، بل يتقدم المظاهرات النارية.. يعيش من خلالها تفاعلات شكلت صوره مصر حتى تسعينيات القرن العشرين تقريبًا، ويستمر نهر حياته في الاندفاع، ليتمخض نشاطه وجهده أوائل السبعينيات  بعد مَوَران وفاعلية داما قرابة ستة عقود  لتبدأ إشراقاته العلنية في تفسير القرآن الكريم، من خلال برنامج نور على نور، في التليفزيون المصري، الذي انتشر من خلال حلقاته اسم الشعراوي انتشار النور البازغ، واستمر ارتفاعه بعد ذلك من خلال حلقاته في التفسير التي كان أثرها شديدًا؛ لدرجة أن إسرائيل طالبت بوقفها في فترة من الفترات، بسبب كلامه عن الآيات التي تتناول اليهود عقيدة وشريعة ومسلكًا/  وليفاجأ الناس بمنهج جديد في التعامل مع كتاب الله  كأنه ما سُبق إليه  فقد نجح هذا الفلاح النحيل الطويل في تقريب الجمل المنطقية العويصة، والمسائل النحوية الدقيقة، والمعاني الإشارية المحلقة، والنزول بها إلى العامة بلغة يفهمها كل أحد، حتى باتت أحاديثه قريبة جدًّا من الناس على المقاهي، وفي البيوت، والمساجد التي ينتقل بينها من أقصى مصر لأقصاها، وعَهْدنا بعلم التفسير ومعلميه أنه دقيق، لا يقدَّم إلا في قوالب منهجية صارمة، ولغة مترفعة صعبة  مع أن الأصل تيسير القرآن للتلاوة والفهم  فقلب الشعراوي هذا كله ليوجه خطابه لـ 99% من الشعب المصري الذين لا يعرفون ما الرازي ولا الطبري ولا القاسمي، وليقرّب إليهم القرآن في صورة جذابة سهلة قريبة من العقول والقلوب، لا تفرق بين المنقول والمعقول، والإشاري والإعجازي، واللغوي والفقهي، والعصري والأثري.

      ومنذ سمعت به أوائل السبعينيات 1974م لم يُعرف الشيخ إلا بأنه المفسر الأول للقرآن.. يعيش معه، وينفعل به وله.. وبدأ طلاب العلم، والتجار، وأصحاب التسجيلات يتلقفون أحاديث الشيخ، وينسخونها بكل الوسائل، حتى إنني شاهدت في تلفزيون قطر حين كنت رقيبًا فيه الحلقة رقم 1010 من تفسيره التليفزيوني، وإذا كان متوسط الحلقة 40 دقيقة، فإن ذلك يعني أنه سجل أربعين ألف دقيقة، أي 667 ساعة، أي ما يساوي 28 يومًا متصلة من التفسير كل جزء في يوم كامل تقريبًا وقد عرض عليه في بدايات تفسيره مليون دولار من أحد التليفزيونات فرفض إلا أن يكون عمله مجانيًّا، أسأل الله أن يكون في ميزانه يوم القيامة.

    خصائص شعراوية:

      لا يعنيني هنا أن أؤرخ للشيخ التأريخ النمطي، ولكن يعنيني أن أقف في هذا السرد العجول أمام نقاط:

      = أولاها: ما أشرت إليه من أن الرجل سهّل التعامل مع كتّاب الله عز وجل حتى قرّبه للعامة، وهو صاحب أول تفسير شفوي متكامل للقرآن الكريم، في تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وخلال 1433 سنة.. فلا أعلم حتى الآن بوجود تفسير شفوي يقترب من سبعمائة ساعة، وهذه خصيصة حباه الله بها، وسبقٌ دعوي أسأل الله أن يكون في ميزان حسناته، رغم أنه قد ظهر في السنين الأخيرة تفسير جديد وعظيم جدًّا للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، جدير أن ينتشر، ويَذيع، ويعرفه طلاب العلم خاصة.

= ثانيتها: بساطته الشديدة، وتواضعه، وابتعاده عن النفخة الكدابة التي يعيشها بعض المشايخ نجوم الفضائيات؛ فهو رغم سعة شهرته، وتمكن أمره، واحتفاء الملوك والأمراء، والوجهاء، والأغنياء به، ورغم كونه من كبار أثرياء المسلمين، فهو لم يزل الرجل المتواضع، الذي يحيا على طريقة سراة الفلاحين، ولم يزل “يعزم” أصحابه على أكلة ذرة مشوية في مزرعته، ويعيش حياة طبيعية بسيطة تلحظها في المحيط الذي يسكن..

       زرته سنة 90 في فندق فلسطين بالإسكندرية فوجدته أبسط ما تجد: الرجل الإلف المألوف، وقد جمع حوله أبناءه وأحفاده.. سجلت معه بعض اللقاءات لتليفزيون قطر، ثم قدمت له مظروفًا فيه مبلغ كبير من المال؛ مكافأة التسجيل، فنهرني: أنا آخد منكم فلوس؟ خير الله عندي كثير جدًّا (كان في الشهر نفسه قد تبرع بمليون جنيه مصري للمعاهد الأزهرية) وأبى بحزم وشدة، ووبخني كأنما أهنته.

      = ثالثتها: كل صاحب توجه يتعصب له، ويراه الأوحد الأمثل الأكمل الأجدر، وكثيرًا ما يقصي غيره، ويرميه في جهنم إن استطاع  بلسان الحال أو المقال أو بهما معًا  رأيت هذا في أكبر كبار علماء الدنيا الذين عرفتهم واقتربت منهم، لا أستثني أحدًا، إلا الشيخ (أمين) أو محمد متولي الشعراوي عليه رحمات الله، الذي لم يستغل وظائفه الكبيرة الكثيرة، ولا التلفزيونات العربية والعالمية للدعاية لفكر وانتماء يتعصب له، ولا يمل ذكر رموزه، ولم يزعج الناس بالحديث عن مآثره، وأمجاده، وبركات أوليائه في “الطريق” بل كان يدعو للإسلام وحده والقرآن وحده.. وهذه لم أجدها في أحد غيره من أصحاب اللافتات.. مع علمي أن الرجل ذو ميول صوفية واضحة لا ينكرها أحد، وهذه تحسب للشيخ رحمة الله عليه سعةَ أفق، وإنصافًا من النفس قل أن يفعله سواه..

فهل يفهم هذا بعض قادة المناصب العليا في الأزهر الشريف، الذي يتهددون ويتوعدون، ويؤكدون تصفية الحسابات، ويتلمظون لأكل اللحم الحرام المسموم!؟

وهل يفهم هذا بعض قادة التيارات الإسلامية التي لا ترى إلا نفسها، وهي على يقين لا يداخله شك أنها الأعلم بالله، والأفهم لدين الله، والأجدر بالجنة – كأن مفتاح الفردوس في جيوبهم – وأن غيرهم ما بين قاصر أو هالك!؟

      = رابعتها: من الأشياء التي لم أجدها في غير الشيخ رغم مقابلتي معظم كبارَ كبارِ علماء الأمة أن له مهابة روحانية عجيبة، متعه الله بها، كأن حوله جوًّا مغناطيسيًّا يجعل له خصوصية روحية فريدة، لعل سببها بساطته، أو صفاء نفسه، أو هبة من الله تعالى.

     = ومن الجوانب المهمة فيه، التي يطلع عليها المقربون منه، جانب الدعابة وإطلاق النكتة عند اللزوم، ككل أبناء البلد المهذبين، يطلقها عفو الخاطر لتدل على سماحة النفس، ولطف المعشر، وتنفي الصورة الجهمة الغليظة التي كوّنها الناس حول المشايخ..   

      ودعاباته كثيرة بين أخِصّائه والمقربين منه، لكن قد يظهر طرف من خفة دمه، وميله للدعابة في بعض أشعاره، كهذه القصيدة التي كتبها في الفتاة العصرية، التي يغرر بها الماجنون، ويخطف بصرها بريق الإغراء والإطراء:

قصّرتِ أكمامًا.. وشلْتِ ذيولا…………هلاّ رحمت إهابك المصقولا

أسئمتِ من برد الشتاء وسجنه…………فطلبتِ تحريرَ المصيفِ عَجُولا؟‍!

وخطرت تحت غلالةٍ شفّافةٍ…………في فتنة تَدَع الحليم جهولا

محبوكةٍ.. لصقت بجسمٍ مشرق…………دفعته فورتُهُ، فبان فصولا

ألححتِ في عرض الجمال وغرك الـ…………أغرارُ لمّا أسمعوك فضولا

شاهدتُ ضلّيلًا يطارد غادةً…………فنهرته حَنقًا.. فقال خجولا:

أبغي الزواجَ بها.. فقلتُ مداعبًا:…………هل كان بيتُ وليّها مقفولا؟

يلقاك كالحَمَل الوديع مضللًا ف…………إذا تمكّن منك أمسى غولا

ورنا فلم يرها.. فجُن وقال لي:…………أبُعثتَ فينا يا غيورُ رسولا؟

لم يبقَ لي أرَبٌ.. فما يضطرني…………حتى أكون مكلفًا مسؤولا!؟

قل للفتاة: الغرُّ هذا حبُّه…………إن بات ملتاعًا.. وذاب ميولا

       كان الشعراوي من الغُير على الأزهر، وله رغبة زائدة في أن يعيد له عافيته التي (هدّها) العسكر، وسدنة الاشتراكية ثم سدنة التغرب، حتى قال عنه العلامة القرضاوي حين نعاه:

       لقد رحل الشيخ الشعراوي في وقت كانت الأمة أحوج ما تكون إليه؛ من أجل إنقاذ الأزهر مما يراد به من إضعاف التعليم الديني والجور عليه، وكان يقف على رأس جبهة معارضة قوية للحيلولة دون ذلك. وقد وعده المسؤولون في مصر أن يحققوا له طلبه في تطوير القسم العلمي ما شاؤوا أن يطوروه، والعناية بالقسم الأدبي الذي يخرج علماء أصول الدين، وهم خلاصة الأزهر الذي يعد لتخريج الأجيال المرجوة للأمة، والتي تتفقه بالدين، وتنذر قومها إذا رجعوا إليها. وإننا لنرجو أن يفي المسؤولون للشيخ بعد وفاته بما وعدوه في حياته.

      لا شك أنه كان أحد مفسري القرآن الكبار، وليس كل من قرأ القرآن فهمه، ولا كل من فهم القرآن غاص في بحاره، وعثر على لآلئه وجواهره، ولا كل من وجد هذه الجواهر استطاع أن يعبر عنها بعبارة بليغة، ولكن الشيخ الشعراوي كان من الذين أوتوا فهم القرآن، ورزقهم الله تعالى من المعرفة بأسراره وأعماقه ما لم يرزق غيره، فله فيه لطائف ولمحات وإشارات ووقفات ونظرات استطاع أن يؤثر بها في المجتمع من حوله، وقد رزق الله الشيخ الشعراوي القبول في نفوس الناس فاستطاع بأسلوبه المتميز أن يؤثر في الخاصة والعامة، في المثقفين والأميين، في العقول وفي القلوب، وهذه ميزة قلما يوفق إليها إلا القليلون الذين منحهم الله تعالى من فضله.

      وكان لغويًّا كبيرة، اختير منذ عام 1987م عضوًا بـ(مجمع الخالدين) أو مجمع اللغة العربية وجاء انضمامه بعد حصوله على أغلبية الأصوات (40 عضوًا).

     وكان مما قاله بعد اختياره أمام أعضاء المجمع: ما أسعدني بهذا اللقاء، الذي فرحت به فرحًا على حلقات: فرحت به ترشيحًا لي، وفرحت به ترجيحًا لي، وفرحت به استقبالاً لي، لأنه تكريم نشأ عن إلحاق لا عن لحوق، والإلحاق استدعاء، أدعو الله بدعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أستعيذك من كل عمل أردت به وجهك مخالطاً فيه غيرك. فحين رشحت من هذا المجمع آمنت بعد ذلك أننا في خير دائم، وأننا لن نخلو من الخير ما دام فينا كتاب الله، سألني البعض: هل قبلت الانضمام إلى مجمع الخالدين، وهل كتب الخلود لأحد؟ وكان ردي: إن الخلود نسبي، وهذا المجمع مكلف بالعربية، واللغة العربية للقرآن، فالمجمع للقرآن، وسيخلد المجمع بخلود القرآن.

    من بركات الشيخ:

      ولعل من بركات الشيخ، وصدق يقينه في الله تعالى هذا الموقف العجيب الذي كتبه الصديق الصحفي الكبير محمد صبرة، ورواه الشيخ بلسانه وطريقته:

      كان الرئيس بومدين قد انتهى من بناء سد اسمه “سد غرين” وذهب لافتتاحه.. وعملوا احتفالًا.. وحضرنا هذا الاحتفال.. وقف الرئيس بومدين يخطب ويقول: الحمد لله.. عملنا سد غرين وهذا السد سيحجز كذا مترًا مكعبًا من المياه.. وبذلك يمكنكم أن تقوموا بري زراعاتكم؛ سواء أمطرت السماء أم لم تمطر! (وكان بومدين صديقًا لروسيا والمعسكر الاشتراكي (رغم حفظه القرآن في طفولته، ودراسته بالأزهر الشريف)!

      ولم تعجبني عبارة “سواء أمطرت السماء أم لم تمطر” فقلت لعبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية الجزائري في ذلك الوقت، والرئيس الحالي للجزائر:

      يا سي عبد العزيز: قل للرئيس بومدين إن هذا الكلام خطأ، ليس فقط من الناحية العقائدية التي تلغي المشيئة، بل حتى من الناحية العلمية، لأنه إذا لم تمطر المساء فما الذي سيحجزه هذا السد؟ السد يحجز مياهًا.. والمياه من المطر.. فإذا لم تمطر.. فما الذي سيحجزه هذا السد؟!

     وذهب بوتفليقة وأبلغ الكلام للرئيس بومدين..

     وشاء الله بعد أسابيع من كلام الرئيس بومدين أن يحصل جفاف! فقالوا نصلي صلاة الاستسقاء.. وقد استقبل الناس الدعوة لصلاة الاستسقاء استقبالين: الناس المتدينون المؤمنون أصحاب الثقافة الدينية كانوا يؤمّلون فيها، وينظرون إليها باعتبارها من نُسُكِ الدين، وأن الله سبحانه وتعالى شرعها لوقت الفزع هذا.

       أما الناس الآخرون أصحاب الثقافات غير الدينية، بل والمعادية للدين، فقد قالوا في استهزاء: اعملوا صلاة الاستسقاء، وشوفوا حتعمل إيه الصلاة بتاعتكم دي!

     ولما أبلغونا أن الرئيس بومدين يريد أن يقيم صلاة الاستسقاء في الجامع الكبير بعد يومين.. قلت لزميلي الشيخ أبو الصفا: احنا واقعين في مطب، وربنا يخرجنا منه على خير! ولن يخرجنا من ذلك إلا أننا نفزع إلى الله من هذه اللحظة، وأن نصلي له سبحانه وتعالى، وأن نطلب منه ألا يفضح أهل دينه أمام هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينظرون إلى دين الله.

       وجاء يوم صلاة الاستسقاء، وجلسنا في الجامع الكبير ومعنا وزير الأوقاف الجزائري ننتظر حضور الرئيس بومدين.

      جاء الرئيس بومدين، ودخل المسجد. وقبل أن يهم بالجلوس قلت لوزير الأوقاف: “قل للرئيس بومدين ركعتين لتحية المسجد”.. وأضفت: احنا جايين هنا نشحت من ربنا.. بنقول يا رب، وبنفزع إليه، فقل له يصلي ركعتين لله تحية للمسجد.

       وذهب وزير الأوقاف للرئيس الجزائري وأبلغه الرسالة.. فوقف وصلي ركعتين، ثم صلينا صلاة الاستسقاء.. وقعدنا ساكتين.. وطالت القعدة.. وطال السكوت، فقلت لأحد المشايخ الذين يجلسون إلى جانبي:

      احنا قاعدين كده ليه دلوقت؟ موش نقوموا نروّحوا؟

      فقال لي: اسكت.. اسكت! فقلت له: فيه إيه؟

      قال: أنت موش داري؟ الدنيا بتمطّر.. بِتِشْتِي..

      فقلت: صحيح!؟ قال: أيوه، وراحوا علشان يجيبوا مظلة لكي يخرج بها الرئيس بومدين!

     فقلت: الحمد لله.. الحمد لله.. ولن أخرج من هنا.. من المسجد الكبير إلا بعد صلاة المغرب.. الحمد لله ربنا سترها معنا..

     من تأديبه نفسه:

        ومما يروى عن تواضعه، وترويضه نفسه، وكسرها؛ لتبقى مخبتة قريبة خافضة الجناح، ما يحكيه ابنه الحاج عبد الرحيم أن الشيخ عليه رحمات الله كان في محاضرة في جامعة القاهرة. وفتح الله تعالى للشيخ أبوابًا عديدة من أبواب العلم؛ ما أدهش الحضور، وبهرهم بأسلوبه العذب، وأدلته القاطعة، فاندفعوا نحوه، والتفوا حول سيارته وكان الشيخ آنذاك يسكن بحي سيدنا الحسين رضي الله عنه، فلما وصل الشيخ إلى بيته غادره مسرعًا، فأخذ الحاج عبد الرحيم يبحث عنه ليفاجأ به ينظف دورات المياه بمسجد سيدنا الحسين! فسأله: بتعمل إيه يا مولانا؟ فكان رده: أردت أن أربي نفسي وأهذبها!

رحمه الله ورحم علماءنا وأستاذينا ووالدينا.. اللهم آمين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه