“الدعاء” من الثورة إلى الثروة: قول في “تسليع التقوى”!

مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة

“قبل أربع سنوات تقريبا صدر قرار بمنع الشيخ جبريل من الإمامة والدعاء، فالرجل كان يردد في وسط الجموع: “اللهم عليك بمن حبس الشباب. اللهم عليك بمن طغى وتجبر. اللهم عليك بشيوخ السلطان”.

في مساجد الريف وفي أولى خطواتنا نحو المساجد؛ عرفنا قنوت الفجر مع الأجداد، كان دعاءً مملوءا بالإيقاع والنغم: “اللهم اهدنا فيمن هديت”، والكثير من المعاني العقدية: “نؤمن بك ونتوكل عليك”، ومن بحبوحة التوكل واليقين: “تولنا.. قنا.. بارك”. كانت تكسوني الدهشة عند انقلاب أيدي المصلين عند قول الإمام: “قنا واصرف عنا شر ما قضيت”.
كان هذا الدعاء كافيا جدا لحياة مفرداتها مختصرة، لكن كان ينشب أحيانا شجار شديد بين بعض الشيوخ وبعض الشباب الجامعي العائد من المدن الكبرى، والمنتمي حديثا للحركات الإسلامية؛ حينما كان يضيف بعض البنود إلى الصيغة المأثورة للقنوت، مثل الدعاء للأقليات، أو لتحكيم الشريعة، أو ترك دعاء القنوت كلية. لم أنس أبدا أنني عرفت تلك القضايا الجديدة من خلال هذا الدعاء القادم من المدينة.

دعاء المدينة

وفي مرحلة الثانوية والجامعة وبعد الذهاب للقاهرة؛ عرف الفتى أن الدعاء أصبح أكثر من دعاء، إنه أيضا تلقين للأفكار والمواقف، وجسر تعبر عليه المعاني السياسية والروحية، وبقدر ما كان الدعاء بيانا في معرفة الشرائع كان مرشدا في فهم الطبائع.

اتسعت معاني الدعاء والقنوت باتساع وقائع الواقع، كانت الأدعية تتضمن تعبيرات تطالب بحجاب النساء وتطبيق الشريعة، والدعاء من أجل المعتقلين والأقليات، والدعاء على الطواغيت والعلمانيين والماركسيين؛ وكلها كانت صدى لمعارك المجال العام المصري، والتي كان يخوضها التيار الديني في ذلك الوقت.

أذكر في تلك الفترة رجْع لفظة “آمين” الرهيب في مساجد التوحيد والعزيز بالله وعمرو بن العاص، فقد كان رجعا يمزج العبادة بالاحتجاج، كنت أشعر بأن الصلاة في عمقها فعل سياسي، فهي تجمد زمن الدولة لصالح زمن غيبي، تنتهي فيه سلطة زمنية لتبدأ سلطة أخرى، كل أجهزة السيادة والسيطرة تفقد جدواها حيث يقع المصلي تحت سيادة أعلى.
وقنوت الصلاة تاريخيا لازم النوازل السياسية والبيئية؛ فقد قنت النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُجن أصحابُه بمكة “ثم تركه (القنوت) لمّا عاد من دعا لهم وتخلصوا من الأسر”  كما يقول ابن القيم، وكان الشافعية وبعض المالكية يعتبرون أن سجن أصحاب الرأي الشرعي  وباء مثل الكوليرا، وكانوا يقنتون ” إذا نزلت بالمسلمين نازلة، كوباء، وقحط، أو مطر … أو حبس عالم في جميع الصلوات المكتوبة”. 

كانوا يبكون بضراوة في تلك الأيام، وكنت أستغرب من ارتفاع حدة الصراخ والعويل في مسجد عمرو بن العاص خصوصا مع دعاء ختم القرآن، حتى ليبدو أن الأمر شبيه بحسينيات ولطْم الشيعة، كنت أفهم أن تلك الأجواء بقدر ما كانت تقوّي نزعة الغضب فإنها كانت أيضا تسهّل تفريغ شحناته.

حصل الشيخ محمد جبريل على شهرة كبيرة بوصفه أحد صناع الدعاء، ويبدو لي أنه كان أول من احترف هذه الصنعة في أدعية التراويح بمسجد عمرو بن العاص؛ حيث كان يجتمع خلفه الآلاف خصوصا في العشر الآواخر من كل رمضان، وقد انتشرت ظاهرة الدعاء تلك في العديد من البلدان العربية. 

وقبل أربع سنوات تقريبا؛ صدر قرار من وزير الأوقاف بمنع الشيخ جبريل من الإمامة والدعاء، فالرجل في عام 2015 كان يردد في وسط الجموع: “اللهم عليك بمن حبس الشباب.. اللهم عليك بمن طغى وتجبر.. اللهم عليك بشيوخ السلطان”. 

كان الشيخ جبريل يظن أن السلطة غافلة عن شفرات الأدعية وقاموسها السياسي والاحتجاجي، وأدوارها التعبوية والتحشيدية، ولعلها المرة الأولى التي يجري فيها تجريم الدعاء، ومحاكمة بعض معانيه بمواد قانون الإرهاب.
وراج في تلك الفترة أن قرارا صدر بتجريم الدعاء المشفّر، حيث كان يلجأ بعض الأئمة إلى الإيهام بالدعاء على الظالمين والفاسقين، وترك فك الشفرات لمقاصد المؤمنين.

الشيخ محمد حبريل
دعاء السوق

في نهاية تسعينيات القرن الماضي  بدأت تحولات تطرأ على عالم الدعوة والتدين، كان توسع الجمهور المتدين وازدياد الطلب على الأدعية والأذكار محفزا لدخول الأدعية عالم التجارة، وبدأت الظاهرة تتحرك بالتدريج من عالم الملصقات -التي كانت تملأ الشوارع والأرصفة- إلى عالم الفضائيات ونغمات المحمول.

وظهر قارئ طبيب اشتهر ببرنامج “دعاء الأنبياء”، وكان يبث عبر بعض القنوات، وهذا الرجل أخذ أسلوب الشيخ جبريل في الدعاء المنغم وهيئته، وأحاله إلى طريقة إعلامية. وفكرة “دعاء الأنبياء” تقوم على تحويل آثار وقصص الأنبياء إلى صيغ من الدعاء المؤثر؛ فيوسف مثلا كانت حلقته في الدعاء حافلة بقصص الغربة والمجد والكمال والجمال وسجود الشمس والقمر.

وتحولت هذه الأدعية إلى فكرة سوقية لها رعاة، وتجارة وأرباح. وكلما كان الشيخ قديرا في خلق أجواء من الشحن والبكاء والصراخ؛ ارتفع الثمن وتضخم رأس المال، وصار الشيخ نفسه يلبي طلبات الحفلات والزيارات، وتثبت الكاميرا أمامه وهو يتجه إلى القبلة عليه عباءة مزركشة وفوق رأسه طاقية لامعة، والحواجب مقطبة، والصوت متهدِّج، ولا تظهر الصلاة إذ تتم مَنْتَجَةُ ما قبل الدعاء من ركوع وسجود، ولا تبقى إلا الحالة المطلوبة.

وإذا كان القرآن حوّل مفهوم التجارة والبيع والشراء إلى مفاهيم دينية قائمة على التجارة مع الله وبيع وشراء النفس والممتلكات؛ فالآن يحدث العكس حيث أصبح الدين نفسه سلعة، وأضحت الأدعية مجالا للبيع والربح والمضاربة ومراكمة الثروة، إنه النقيض من تديين التجارة إلى تسليع الدين.

وقد ذكر المفكر الألماني ماكس أوتو “أن خلاص الروح ليس بالسلعة أو المنحة التي تشترى أو تستعطى، ولكنه تطور تبلغه وتترقى إليه”، وقد حذر ابن الجوزي من وقوع الدعاة والعلماء تحت سيطرة رأس المال وكتب في “صيد الخاطر” مطالبا بضرورة تحرير إرادة العلماء من سيطرة السوق.

الداعية الطبيب صلاح الجمل
الدعاء السياحي

واكب ذلك ظهور نمط جديد من الدعاة، اشتهروا في الأندية والبيوت الفارهة وقاعات الفنادق، عكس دعاة المساجد ذات المنزع الحركي والوعظي، وكان أشهرهم الداعية عمرو خالد صاحب مدرسة “واخدين بالكم يا جماعة”.

كانت أدعيته خليطا بين العامية والفصحى، أدعية غير مسيّسة ولا تجد فيها ذكرا للشريعة ولا الغلاء، لأن خطاب الدعاة الجدد يدرك معنى تضمين تلك المفردات، وأثرها السياسي، وكذلك لا يعادي نهجه النخب العلمانية ولا الليبرالية، بل بالعكس فهو يحاول أن يقترب منها ويكسب صداقتها، وبشكل عام هو ليس ضد الثروة ولا السلطة ولا النخبة.

وقبل عامين؛ فوجئ كثيرون بنمط من الدعاء الرقمي الجديد، فبعد إغلاق المساجد والأندية أمام الدعاة غير الرسميين، كانت الوسائط الرقمية أكثر وفرة، وأثارت طريقة الأستاذ عمرو خالد في بث الأدعية من أمام الكعبة لغطا كبيرا، حيث وقف -في بث مباشر- يدعو للمتواصلين معه عبر صفحته على فيسبوك بنين وبنات: “اللهم إني أقسم عليك في هذه الأيام كل من له على صفحتي طلب أو رجاء أو أمنية لا يأتي العيد إلا وقد أجبت دعاءه. يارب ارض عن كل الشباب والبنات اللي معانا على هذه الصفحة”.

وقد أشار المفكر الفرنسي الكبير ألكسيس كاريل إلى خطورة تحول الدعاء إلى نمط من السياحة والترفيه، وكتب عن تلك الظاهرة التي عايشها في أوربا، وكاريل طبيب وحاصل على نوبل مرتين ويؤمن بالقدرة الشفائية للدعاء.

وقد رأى أنه في العقود الأخيرة (توفي 1944م) تضاءلت كثيرا في بلاده أدوار الدعاء في التجمعات والكنائس، وقال: “لقد غدا الزائرون سياحا مزمعين عجلين عابرين، أجل لقد قلّ الذين كانوا معجبين عاشقين متيمين مؤملين، وما هؤلاء الآتون إلا متنزهون متفرجون مزمعون يبغون استجماما؛ فلا يحظون بشيء”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه