منطق “المرافقة دون الموافقة”.. يلغم الوضع في الجزائر

 

 

إصرار المؤسسة العسكرية في الجزائر على التمسك بالمسار الدستوري وتنفيذ خارطة الطريق التي وضعها الرئيس المخلوع، والاحتفاظ بالمسؤولين الذين عينهم، وتركيزها على محاربة الفساد والمفسدين، دونما الاستجابة لمطالب المحتجين، وضع الحراك الشعبي في مفترق الطرق، في مواجهة تحديات عدة لعل أخطرها مستقبل علاقته بالمؤسسة العسكرية نفسها.

بعد “الفلتة” الأولى التي انتقد فيها قائد الأركان الاحتجاجات الشعبية وتخوينه المشاركين فيها، استدرك العسكر الموقف، ورمموا تصريحات قائدهم بإعادة التصويب، وتبني خيار مسايرة الحراك والإشادة به، بموازاة التضييق عليه لإفشاله من الداخل، وتسييره بوعود مرافقته دون الاستجابة لمطالبه. سياسة العصا والجزرة هذه آتت أكلها وكسبت رضا جزء من المحتجين الذين آمنوا بصدق الجيش في تبني مطالبهم. استثمار قائد الأركان في موضوع العداء لفرنسا وتضخيم ما يعرف بالدولة العميقة المتحالفة مع الخارج وسعيها لإفشال الحراك الشعبي، منحه مصداقية إضافية وتعاطفا أكثر.

اعتقال ثلاثي العصابة.. خبطة سياسية!

قائد الأركان يلح في كل خطاباته الأسبوعية على الحل الدستوري وفق المادة 102، المرفوض شعبيا. ويحذر من الفراغ الدستوري، وما قد ينتج عنه من فوضى وانفلات أمني خطير. ويرفض رفضا ضمنيا كل مطالب الحراك بالتغيير الجذري وتنحية رموز نظام بوتفليقة، خاصة رئيس الدولة عبد القادر بن صالح، ورئيس الوزراء نورالدين بدوي. ويفضل أولوية محاربة الفساد ومتابعة المفسدين قبل إقامة دولة القانون والحريات.

التقدم الكبير الذي حققه قائد الأركان على جبهة محاربة الفساد، وضربه بيد من حديد باعتقال رؤوس العصابة: مستشار الرئيس شقيقه السعيد، والجنرالين طرطاق والتوفيق رئيسي المخابرات السابقين، وضع الحراك الشعبي في حرج كبير وعمق خلافاته. لقد كان الإجماع حاصلا على ضرورة استهداف الحيتان الكبيرة في ملف الفساد، وتحدي قايد صالح بمتابعة ما أسماه هو شخصيا برئيس العصابة ومنظمي “الاجتماع المشبوه” أي المستشار والجنرالين..

مخاوف من استنساخ السيناريو المصري

وعندما رفع قايد صالح التحدي واعتقل الثلاثي الخطير، وأُودعوا الحبس المؤقت، تفرق الإجماع بين مشكك في العملية، واعتبارها مسرحية، ومتهم بأنها تصفية حسابات وعدالة انتقائية، ورأي ثالث يعدها صراع عصب لا تعني الشارع في شيء، ولا تكتسي أية أهمية قبل إرساء قواعد دولة القانون.

المشككون في العملية يحركهم التخوف من تكرار السيناريو المصري، عندما اعتقلت القيادة العسكرية الرئيس المخلوع حسني مبارك وأبنائه ورموز نظامه السياسية والمالية، وأحالتهم على العدالة التي حاكمتهم وأدانتهم بأحكام قضائية، ثم سرعان ما تبين أن العملية كانت مجرد مسرحية على الطريقة المصرية، ضحك بها العسكر من أذقان المصريين، فقد أسقطت العدالة كل الأحكام الصادرة في حقهم وبرأتهم من كل التهم.

أما حجة الذين يصنفون اعتقال ثلاثي الفساد ضمن ما يسمى العدالة الانتقائية أو تصفية الحسابات، هي الخلافات الشخصية بين قايد صالح وكل فرد من أفراد ما يسميهم بالعصابة. فقائد الأركان لم ينس لمسؤول المخابرات الأسبق الجنرال توفيق المعروف بـ “رب الدزاير” إحالته على التقاعد لولا تدخل الرئيس الذي أعاده إلى الخدمة واستثمر في خلافه مع التوفيق..

مكافحة الفساد قبل دولة القانون فساد آخر

 كما أن قائد الأركان أراد الانتقام لنفسه من محاولة شقيق الرئيس تنحيته مباشرة بعد تغيير موقفه من الاحتجاجات، لولا أن قواته حالت دون بث التلفزيون العمومي قرار تنحيته، وهي محاولة أكدتها تصريحات وزير الدفاع الأسبق خالد نزار. أما رئيس المخابرات السابق بشير طرطاق فقد أثار حنق قائد الأركان بمشاركته فيما يسمى الاجتماع المشبوه الذي نظمه الجنرال التوفيق مع شقيق الرئيس والرئيس السابق ليامين زروال وضباط أجانب، حسب الرواية المتداولة، للانقلاب على المسار الدستوري بعرض رئاسة المرحلة الانتقالية على زروال الذي رفض العرض وانسحب من الاجتماع.

ويرى أصحاب “نظرية” صراع العصب، أن متابعة الفساد ملف هام وحيوي، وأن المفسدين يستحقون كل الإدانة، لكن لا يجب أن يسبق تغيير النظام وإرساء أسس دولة القانون والحريات، وإلا فإنه سيكون مفسدة أخرى. ويفسر هؤلاء موقفهم بالتأكيد على أن محاربة الفساد مطلب شعبي، لا يمكن أن تشرف عليه جهات ظلت صامتة صمت القبور على عمليات النهب والاختلاس الواسعة النطاق، وكانت توفر الحماية للمفسدين طيلة السنوات الماضية يضيف هؤلاء.

ولا يمكن لقضاء تابع ظل يُسيَّر بالهاتف ويصدر قراراته تحت الطلب، أو تأتيه في قصاصات ورقية فيما كان يعرف بعدالة الليل، أن يتحول إلى قضاء مستقل ونزيه بين عشية وضحاها، ليشرف على عملية تتطلب النظافة والنزاهة والاستقلالية شروطا متأصلة في المشرفين عليها. والحجة على ذلك دامغة إذ لم يكن هذا القضاء هو المبادر بفتح ملفات الفساد ومتابعة رؤوس الفساد، وما كان ليفعل لو لم يأته الإيعاز من قيادة الأركان، ما يعني أن لا شيء تغير لا القضاة ولا العدالة ولا الماشي بنهما.

الجيش.. الحراك الشعبي.. ومخاطر المواجهة

الحراك الشعبي الذي ظل يهادن قائد الأركان يترقب انتقاله إلى تجسيد تعهداته ميدانيا، غيّر لهجته في جمعته الحادية عشرة، برفع شعارات معادية له تصنفه في “خانة العصابة”. بعد أن تأكد من رفض القيادة العسكرية لكل مطالبه السياسية وتطلعه إلى تنحية رموز نظام بوتفليقة وتغيير النظام.. 

هذا التحول كان له وقع كبير، وشكل منعرجا خطيرا في علاقة الحراك الشعبي بقائد الأركان ونقلها من شعار “الجيش الشعب خاوة خاوة”، إلى “الجنود الشعب خاوة خاوة” في إشارة إلى استثناء القيادة. ومن المرتقب أن يتعمق هذا الشرخ خاصة بعد خطاب رئيس الدولة الذي لم يخرج عن توجيهات قيادة الأركان بتجاهل مطالب الحراك جملة وتفصيلا والتركيز على الدعوة إلى حوار شامل لإعداد ترتيبات رئاسيات الرابع من يوليو تموز القادم، التي يرفضها الشعب رفضا قاطعا لأنه يعتبرها عملية تدوير للنظام لا غير.

ناشطو الحراك يرفضون مسعى الحل الدستوري لأنه مخرج رسمه النظام لتجديد نفسه بوجوه جديدة، تحت إشراف رموزه نفسها، رئيس الدولة رئيس مجلس الأمة سابقا، ورئيس الوزراء نورالدين بدوي وزير الداخلية السابق، وبالأدوات القديمة نفسها أي الإدارة التي نبغت في تزوير مختلف الاستحقاقات السابقة…

 العارفون بكنه المؤسسة العسكرية يؤكدون بأن قائد الأركان محاط بمستشارين أذكياء وحريصين على متانة العلاقة بين الجيش والشعب وعلى ألا تظهر المؤسسة بمظهر المعادي لتطلعات الشعب. وسيعمدون كعادتهم إلى ترميم موقف قائدهم قبل الجمعة الثانية عشرة، وفق مبدأ مرافقة الحراك دون الموافقة على مطالبه، بخطاب تهدئة لكسب مزيدا من الوقت، وتفادي وصول العلاقة بين الجيش والحراك إلى طريق مسدود يضعهما على طرفي نقيض، قبيل الرئاسيات التي ببدو أن الجيش مصر على إجرائها في موعدها، ولن يقبل عنها أي بديل آخر..

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه