فضيحة سقوط اليمين المتطرف بالنمسا في بحر الفودكا

 

انفجرت الفضيحة المدوية لزعيم حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا “هاينز شتراخه” والتي تعرف “بفضيحة إيبيـــزا”؛ بعد نشر وسائل إعلام ألمانية، لفيديو صور بكاميرا خفية قبل سنتين، يُظهر “شتراخه” وهو يناقش في فيلا في جزيرة إيبيزا، قبل أشهر من انتخابات 2017 التشريعية، مع امرأة يُعتقد أنها مرتبطة بشخصية روسية ثرية، تقديم مساعدات مالية مقابل منحها مدخلا لعقود حكومية مع النمسا. يري المراقبون أن: اليمينين المتطرفين في النمسا، وصلوا بوقاحتهم وغطرستهم إلى نهايتهم السياسية – ولو مؤقتاً، قضية حزب الحرية النمساوي؛ هي إنذار للمحافظين الذين يراهنون على تحالفات مع الأحزاب اليمينية المتطرفة، لأنها تؤكد مجدداً أنهم لا يريدون إصلاحاً حقيقيًا في أوربا، كما يزعمون، بل تدمير الاتحاد الأوربي بشكل منهجي، وأن نموذجهم السياسي، متجذر جزئياً في روسيا، وكذلك في الأفكار الفاشستية والنازية.

إنـــذار أخيـــــر

الفضيحة بددت أحلام التحالف القومي الشعبوي في الفوز بالانتخابات الأوربية، وخلطت كل الأوراق،وهزت الأوساط السياسية العالمية، وبتوقيت جد خطير، للانتخابات المزمع إجراؤها في 26 مايو/أيار الحالي؛ والذي كان يقدم “شتراخه” نفسه فيها نموذجا للمصداقية السياسية، وسلطت الضوء، على أنه لا يمكن عقد تحالفات سياسية مع أناس يصفون الديمقراطيات الغربية بأنها “منحطة” ويمدحون دكتاتوريات على نموذج “بوتين” إن هذه الفضيحة تلقي بظلال ثقيلة على اليمين المتطرف ليس في االنمسا فحسب، بل في كل أوربا، وتعد بمثابة إنذار أخير لكل من يعتقدون في أوربا، بأن بإمكانهم التحالف مع اليمينيين المتطرفين والبقاء كديمقراطيين، “فضيحة إيبيـــزا” ضربة قاصمة لليمين الشعبوي المتطرف؛ والتي اضطر” شتراخه” عن يد وهو صاغر على أثرها السبت 19 من مايو/أيار2019 إلى الاستقالة من كل مناصبه.

ما بيــن ليـلة وضـحاها

في يوم السبت الموافق( 16 ديسمبر/كانون الأول2017 ) قرر الحزب المحافظ واليمين القومي في النمسا، رسميا، إطلاق تحالفه في فيينا، من مكان له أهمية رمزية كبرى هو جبل “كاهلنبرغ”، حيث قال إن هذا المكان شهد “بدء عملية استعادة أوروا الوسطى من القوات العثمانية عام 1683″؛ دأب اليمين المتطرف في النمسا الذي يغالي في معاداة المسلمين والهجرة، على تكريس أفكار عنصرية، وإستخدام “الإسلاموفوبيا” كأداة في السياسة الانتخابية، التي لم تعد تقتصر فقط على الشعارات، والدعاية الإنتخابية؛ “الوطن بديل عن الإسلام”،” الإسلام لاينتمي للنمسا”، وإنما امتدت إلى أجندات الحزب، الأمر الذي جعل المشاعر المعادية للمسلمين تأخذ شكلا أوضح في السنوات الأخيرة، وتعمد على اختيار مكان له رمزية ليغازل ناخبيه، قائلًا: إنها تمثل “استعادة البلاد من المسلمين العثمانيين”.

وفي مساء يوم السبت المهيب (18 مايو/أيار 2019)، وجموع الشعب النمساوي تحدق بأعينها في شاشات التلفاز، ومنصات السوشيال ميديا، يعلن المستشار النمساوي “سيباستيان كورتز”؛ عن إجراء انتخابات مبكرة في بلاده، بعد انهيار التحالف الحكومي، إثر فضيحة تفجرت حول نائبه، الزعيم اليميني، “شتراخه”، وقال كورتز، في كلمة عاجلة ألقاها السبت في العاصمة فيينا: “اقترحت اليوم على رئيس الجمهورية إجراء انتخابات جديدة في أقرب وقت ممكن”!

تسريب دير شبيغل وزود دويتشه تسايتونغ

تداولت المؤسستان الإعلاميتان الألمانيتان العريقتان، مجلة “ديرشبيغل”، وصحيفة “زود دويشته تسايتونغ” مساء الجمعة الموافقة 17مايو/أيار؛ مقتطفات من تسجيل شريط فيديومسرب على مدارسبع ساعات، وتم تصويره بالعديد من الكاميرات الخفية المنتشرة في المكان، ووضعت هذه المعلومات التي نشرتها، الصحيفتان الألمانيتان برفقة مقاطع من الفيديو المذكور؛ مما جعل الائتلاف الحاكم في النمسا في حالة استـنفار.

ومن المعروف سلفًا، أن رئيس “الحزب الشعبي النمساوي” سيباستيان كورتز” هو الذي يترأس “الائتلاف الحكومي” ومعه “هاينزشتراخه” رئيس حزب الحرية نائبًا له، منذ عدة أعوام ماضية تعاظمت قوة الأحزاب النمساوية اليمينية – ففي انتخابات 2017 فازحزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف بالمركز الثاني في الانتخابات البرلمانية وحصل على 26٪ وهو رقم قياسي للمقارنة قبل ثلث قرن من الآن فقد تمكن الحزب بصعوبة من تخطي حاجز الـ5% المطلوب لدخول البرلمان”، وهي المرة الثانية التي تنتهي فيها مشاركة هذا الحزب في الحكومة بشكل بائس، وكان قد انهار أثناء تحالف سابق، شكله، مع حزب المحافظين، بزعامة “ولفغانغ شوسيل” بين 1999 و2002.

لقد أفردت العديد من الصحف الألمانية والنمساوية منذ اللحظات الأولي لنشر هذا الفيديو وعلى مدار الساعة، العديد من  الأخبار والمتابعات وضجت منصات التواصل الإجتماعي بالتعليقات حول هذه الفضيحة الكارثية، والتي ألمت بقيم الحياة الديمقراطية الأوربية، والتي لم تر البلاد فضيحة مدوية كهذه منذ خمسين عاما؛ وتحت عنوان كبيرنشرت صحيفة “كرونين تسايتونغ” الأكثر انتشاراً في النمسا “حزب الحرية انتـهى”، وذكرت صحيفة “دي فيلت” الألمانية المحافظة أن:”فضيحة فيديو “شتراخه” استراتيجية تتقنها المخابرات الروسية، مضيفة أن ما حصل تجاوز الطبيعة الأخلاقية، والسياسية، وأن الروس “أتقنوا تكتيك إنشاء مواد تجرّم الأعداء لإخراجها من الأدراج في اللحظة المناسبة”، أما صحيفة “فرانكفوتر الغماينه تسايتونغ” الألمانية كتبت تقول “ما فعله شتراخه مزيج من الغباء والجنون”، مع ما يظهره الفيديو من تفاصيل؛ رجلان وامرأة يتسكعون في ملابس غير رسمية، شرب وتدخين ومحادثات خارج إطار القانون، والمعايير الأخلاقية، وتساءلت متهكمة، وما هو المسحوق الآخر الأبيض الموجود على الطاولة(!).

فضيــحة إيبيـــزا

هذه المقتطفات من التسجيل المسرب يظهر فيها “شتراخه”؛ رئيس حزب الحرية النمساوي، ونائب مستشار النمسا، برفقة أحد مساعديه المقربين “غودينوس”، وهو رئيس الكتلة البرلمانية الحالية لحزب الحرية؛ وهويناقش عقودا حكومية مع من يزعم أنها ابنة أخ مستثمر، ثري روسي كبير، مقابل دعم انتخابي، في فيلا بجزيرة إيبيـزا الإسبانية؛ ويتعهد بمنحها عقودا، وصفقات في بلاده، مقابل دعمها لحزبه في حملته الانتخابية عام 2017. وقالت لهما في هذا التسريب أيضًا: إنها تتطلع للاستثمار في النمسا، ويبدو الرجلان في الفيديو، وهما يجلسان باسترخاء على أرائك، ويدخنان، ويتناولان الكحول، وعرضت المرأة عليهما شراء 50 في المئة من أسهم صحيفة “كرونين تسايتونغ” النمساوية وتحويلها لصحيفة مؤيدة لحزب الحرية، وذكر”شتراخه” أسماء العديد من الصحفيين الذين يريد “طردهم” من الصحيفة، ووفق نص المحادثة، قال شتراخه إن المستثمرة الروسية “ستحصل على كافة العقود العامة التي تستحوذ عليها ستراباغ”، وهي مجموعة مقاولات نمساوية تحظى بنفوذ واسع في هذا القطاع.

وذكرت شبكة “إيه آر دي” الإخبارية الألمانية أن شتراخه هو الذي”وضع الفـخ لنفسه”، وأن “الشذوذ”؛ الذي أظهره نائب المستشار النمساوي في الفيديو المصور سرًا، هو رمز لتصاعد فساد يكمن تحت الطاولة، في أجندة الكثيرين من هؤلاء المتشدقين بالشعارات الوطنية الكاذبة، وتظهر المعلومات المسربة أيضًا؛ أنه كان مستعدا لبيع دولة القانون، وأضافت الشبكة، أن قرار المستشار”كورتز” بحل التحالف بعد هذا الفيديو أمر حكيم وضروري.

الراقصــــة والسيـــاسي

إن الإشكالية الكبيرة التي تكشفت عنها تفاصيل الفضيحة؛ التي تسببت في انهيار الائتلاف الحاكم وسقوط الحكومة النمساوية، أن نائب المستشار يعتمد نفس الأساليب والممارسات التي تتداول بالعالم الثالث، والتي لاتحفل بالديمقراطيات، ولا تستند إلي الدستور، وتستهين بدولة القانون، وكأن ما كان ينقص المشهد” الراقصة وهي تتمايل لتحصل على الإعترافات” حتى تكتمل الصورة النمطية في قضايا الفساد “في بلاد الموز”، لقد شكل هذا المشهد، صدمة حقيقية للوعي الجمعي النمساوي، وتقاذفت الاتهامات على لسان النواب، والفاعلين السياسيين من الحكومة والمعارضة، وأعاد إلى الأذهان صورا ذهنية، من الفساد السياسي في عصور بائدة،  قُضي فيهاعلى نظم الديمقراطية العريقة، بعد تطويع الاعلام، والحصول على تمويلات من أصحاب الشركات للحزب الحاكم، وتسخير أجهزة الدولة للحصول على منافع ذاتية، والتحايل على الاجهزة الرقابية المالية، وتحويل وجهة أموال الحملات الانتخابية، عبر ضخها في جمعيات كغطاء للفساد، وليست للأحزاب الرسمية. وأوضحت الأحداث، كما لو انّ الحكومة النمساوية “قابلة للبيع”، كما عبرت “دير شبيغل” الألمانية في إحدى تغريداتها عن الفضيحة المزلزلة، وهو ما سيحرك الشكوك والريبة، حول ولاءات وأجندات تلك الأحزاب الشعبوية، التي صعدت في أوربا والغرب، خلال السنوات الأخيرة، لما يحظى به بعضها من علاقات حميمية مع موسكو، ومنظمات أخري أيديولوجية مشبوهة، والتي يفسر لنا بوضوح لوجستية، من قاموا بهذا العمل، وإختيار توقيت نشره، للحد من فوز تلك الأحزاب المتطرفة في الانتخابات البرلمانية 26 مايو/أيار، وإعادة ترتيب أوراق النظم السياسية الأوربية في المستقبل القريب.

سقـوط العـراب في بحر الفودكا

قبل أسبوع من الاقتراع الأوربي، تأتي هذه الفضيحة في توقيت سيء، “لسالفيني” الذي يشغل(منصبَي نائب رئيس الحكومة ووزير الداخلية في ايطاليا)؛ وحليفته الرئيسية “مارين لوبان” رئيسة التجمع الوطني في فرنسا “اليمين المتطرف”، فقد تجمع رئيس حزب الرابطة الإيطالي “اليمين الشعبوي المتطرف”، السبت الفائت، في معقله بميلانو، مع ممثلي أحزاب قومية أوربية قبل أسبوع من الانتخابات الأوربية، في تظاهرة كبيرة؛ أفسدت عليهم الفضيحة التي طالت حليفهم النمساوي “شتراخه” عراب التحالف القوي، أفسدت زخم التجمّع، والذي كان يعد تتويجا، لجهود متصاعدة وحثيثة من تنظيمات “عنصرية” “ونازية”، والذي يعتبره المراقبون نواة لتدشين كتلة برلمانية أوربية شعبوية؛ يعتزم فيها “سالفيني ولوبان” إرساء تحالف، بين 12 حزباً قومياً، تركّز على الهوية الوطنية، رغم تباين مواقف هذه الاحزاب من إشكاليات متعددة تخص الإتحاد الأوربي؛ بينها الانضباط في مستوى الموازنة، وتوزيع المهاجرين الموجودين في دول الاتحاد الاوربي، العلاقات مع روسيا.

 يستهدف سالفيني ولوبان جعل كتلة “أوربا الأمم والحريات”؛ التي تضمّ “الرابطة” و”التجمّع الوطني”، و”حزب الحرية” النمساوي، وحزب “مصلحة الفلامنك” الهولندي، ثالث تكتل في البرلمان الاوربي؛ وتعد هذه التحالفات لتكون مركز صراع في البرلمان الأوربي لإفساده وتقويض جهوده، في الإدماج والانفتاح والعولمة، في منافسة محمومة مع التيار المعارض من “تحالف الديموقراطيين والليبراليين من أجل أوربا”؛ الذي يضم العديد من الأحزاب الليبرالية المحافظة، واليسارية الديمقراطية، والخضر.

وأمام حشد هائل تخطي العشرة آلاف، واصلت الأحزاب القومية المتطرفة الأوربية بقيادة رئيس حزب “الرابطة” الإيطالي ماتيو سالفيني لتجييش مريديه، ضد الملفات الثلاثة المؤدلجة: الهجرة، الإسلام، وبروكسل؛ في تظاهرة كبيرة تظللّها غيوم فضيحة حليفهم النمساوي. لقد شكلت الفضيحة؛ ضربة مؤلمة، للمعسكر اليميني القومي المتطرف؛ الذي يراهن على تحقيق اختراق، في انتخابات 26 مايو/ايار ليصبح ثالث كتلة في البرلمان الأوربي.

هـل ستـؤتي أكـلها؟

بعد مرور بضع سويعات، من إنتشار الفيديوا لملغوم، وإسقاط التحالف، ساد شعور بالإرتياح والاستبشار، لدى العديد من مناهضي هذا الفكر المستبد العنصري، لسقوط واحد من أهم أقطاب التطرف القومي في أوربا، بحسب ما أعلن المستشار النمساوي”كورتز” في مؤتمره الصحافي الذي ذاع صيته تحت عنوان “كفى يعني كفى”، وتوضيح موقفه وحزبه من هذا العبث السياسي، والعلاقات المشبوهة بين”شتراخه” وحزبه مع الحركات الفاشية في أوربا والكرملين. وسارع الرئيس النمساوي” فان دير بيلين” إلى الموافقة على التوجه إلى انتخابات مبكرة في البلاد، ووصف مقطع الفيديو الذي ظهر فيه شتراخه بأنه “مشين للغاية”، معربا عن رأيه “أن هذا المشهد لا ينسجم مع القيم الأخلاقية والموروث الثقافي للشعب النمساوي، وأضاف “ليس من حق أحد أن يحرج النمسا”.

ومن ناحية أخري، رأى العديد من المسؤولين الأوربيين أن الفضيحة التي تهز الحزب النمساوي، قد تشكل تحذيرا للأحزاب التي قد تفكر في التقارب مع اليمين المتطرف.

أعربت المستشارة الألمانية “أنغيلا ميركل” عن إستيائها قائلة: “نحن نواجه تيارات تريد تدمير أوربا وقيمها، وعلينا مقاومتها بشكل حازم”، ودعت ميركل، أوربا للتصدي بكل شجاعة وشفافية، للأحزاب اليمينية المتطرفة، قائلة إن الحركات الشعبوية تريد تدمير قيمنا الأصيلة، مثل مكافحة الفساد، وحماية الأقليات، والتعايش السلمي بين المواطنيين.

أصبح من المؤكد لدى الأوساط السياسية، أن اليمينيين الشعبويين نشيطون، على نحو استثنائي في انتخابات أوربا، ويمكن لكل فرد منا أن يتوقع، ما الذي يعنيه عندما يصبح هؤلاء أقوى من اللازم، لابد أن يستخلص المواطنون في الدول الأوربية”وخاصة المسلمين” النتائج السليمة، والتفاعل الإيجابي، وعدم الإرتكان، للاستسلام والرضوخ، والعمل علي مقاومة هذه الأفكار الممنهجة؛ والتي كشفت النقاب؛ عن الصورة الحقيقية لتلك الأحزاب، والأفكار القيمية الفاسدة ، التي تشوه بها الآخرين، وتستهدف بها المسلمين.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه