1000 حلقة من برنامج (يستفتونك)

أتممت في برنامجي (يستفتونك) الذي أقدمه على قناة (مكملين) ألف (1000) حلقة، خلال أربعة أعوام وشهرين تقريبا، وللبرنامج ورحلته قصة ومراحل أحب الحديث عنها، ليس من باب الحديث الشخصي، بل من باب الحديث عن تجربة يحتاج صاحبها وأمثاله إلى النقد والتقويم، والنصح والإرشاد، للتطوير للأفضل، ولتلمس ما يفيد الجمهور المسلم فيما يهمه في دينه ودنياه.

فكرة البرنامج:

لقد اعتملت في رأسي فكرة البرنامج، عندما خرجت من قطر إلى تركيا، وقد كان لي لقاء قبل سفري النهائي من قطر، مع شيخي وأستاذي العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، وطلبت منه النصح، فقال لي: أريد منك أن تركز في المرحلة المقبلة على أمرين مهمين. قلت: ما هما يا شيخنا؟ فقال: أريدك أن تهتم بالفقه، واللغة.

قلت له: اللغة العربية؟! قال: لا، أريدك أن تهتم باللغة الإنجليزية، واللغة التركية، وهي سهلة تستطيع أن تتقنها في شهور قليلة، وقد أتقنت نصفها من قبل من كثرة سفرياتي في الستينيات، فمن المهم لك ولأمثالك من أبنائنا أهل العلم أن يتقنوا اللغة الإنجليزية، وقد كانت تفرق معي كثيرا لو أتقنتها، وأنت في سن يسمح لك بذلك، وأنت تتقن كثيرا منها، لكني أريدك أن تتقنها إتقان المتكلم والكاتب بها، وليس مجرد الحديث العابر.

ثم قال: وأما الفقه فأريدك أن تهتم به، وتعطيه معظم وقتك واهتمامك. قلت لشيخي: اهتمامي بالفقه منذ بداية دراستي الأزهرية، وأنا أحبه وأحب الإطلاع عليه. فقال شيخي القرضاوي: أريدك أن تتعمق أكثر، وتغوص في أعماقه، وبخاصة الفقه السياسي وفقه المعاملات، فالناس الآن تبحث عن علماء فقهاء تفتيهم في أمور دينهم، وبخاصة في مسائل المعاملات التي تجد فيها كل يوم قضية، ولا يجدون فقيها متضلعا، يملا عقولهم وقلوبهم بالفتوى المستندة لعلم صحيح، وقلب نقي.

ودعت شيخي، ونصيحته ترن كثيرا في أذني، ووضعتها نصب عيني، وسعيت جاهدا في تنفيذها، سواء على مستوى اللغة الإنجليزية والتركية، أو مستوى الفقه، كل ذلك قدر استطاعتي.

ثم لقيني الصديق العزيز الأستاذ الصحفي محمد حسين، والقائمون على إدارة قناة (مكملين) وعرضوا علي تقديم برنامج على شاشتهم، وقد كان الاقتراح أن أقدم برنامجا تحت عنوان: (فقه الثورة)، فلم أسترح للعنوان ولا الموضوع، وقلت لهم: إن الناس الآن تحتاج لبرنامج فتاوى، يجيب عن أسئلة الناس، وهناك تسعون في المائة من الشعب المصري والشعوب العربية لا تميل إلى هذا أو ذاك سياسيا، لكنها تبحث عن عالم أو شيخ تستفتيه فيما يعرض لها من قضايا ومشكلات، ولكنهم لا يطمئنون لمشايخ السلطة، وأنا أفكر في برنامج يعالج هذه المساحة، ويحقق هذه الرغبة لدى الناس.

وشجعني أكثر، أني كلما قلبت على مواقع الإنترنت، أو اليوتيوب، وكتبت على موقع البحث: جوجل، أي سؤال، تجد الإشارة إلى أول عشرة مواقع كلها مواقع تمثل اتجاها فكريا معينا، وهو التوجه السلفي، مع احترامي وتقديري له ولمشايخه، لكنه يمثل خطا واحدا، ولا أجد أي إشارة لموقع واحد يشير للفكر الوسطي، وبخاصة بعد إغلاق موقع: إسلام أون لاين، وتوقف برنامج (الشريعة والحياة) لشيخنا القرضاوي من قناة الجزيرة.

البداية

بدأنا من شهر يناير 2015م، وتوكلنا على الله، وظننت أن أول حلقة لن تأتي اتصالات إلا قليلا، وأني سأشرح في أول حلقتين ثم تأتي بعدها الاتصالات، ولكن بعد مرور عشر دقائق من الشرح، فوجئت باتصالات وأسئلة، وبعد ذلك كانت تأتي اتصالات – بحكم أن البرنامج مباشر وليس مسجلا – من أناس يتبعون الانقلاب العسكري، سواء من جهات مخابراتية، أو أفراد متعصبون، يدخلون ليشاركوا من باب السب والشتم لشخصي، لعل ذلك ينال من عزيمتي، أو أفقد ثباتي أمام الشاشة، وكنت أخرج من كل سب أو إهانة بأن أجعله سؤالا مطلوب الإجابة عليه، وأحول الموقف لطرفة، ثم لسؤال وجواب يستفيد منه المشاهد، بعد أشهر قليلة انتهت هذه الظاهرة تماما.

اتخذت منهجا معينا للفتوى في البرنامج، استفدت فيه من منهج شيخنا القرضاوي في فتاويه، في كتابه: (فتاوى معاصرة)، ومن خلال تتلمذي على يديه وعملي معه ست سنوات ونصف، وتتلمذي عليه عشرين عاما، بأن أقول الآراء التي في المسألة، ثم أبين ما هو راجح من وجهة نظري بأدلته إن أمكن الوقت من ذلك، أميل في ذلك إلى أيسر الآراء عندما يكون عليها دليل.

واتخذت طريقة معينة للأسئلة التي لا أعرف إجابتها، فأجمع اتصالات المتصلين، فأجدني أعرف إجابة معظمها، ويبقى سؤال أو سؤالان، يحتاجان مني لمراجعة نص، أو رأي فقهي، أؤجل الإجابة عليهما في الحلقة المقبلة، ظللت أتلقى الأسئلة وأقدم البرنامج وحدي حوالي (370) حلقة، ثم ارتأت القناة أن الأفضل أن يكون معي مذيع يقدم البرنامج، ويتلقى الأسئلة، وقد كان وقدمه معي فعلا بعض زملائي الذين أعتز بهم.

لا شك أن أسئلة كثيرة وجهت إلي، منها ما كان محرجا لي، ومنها ما كان صادما لي، ومنها ما كان مبكيا ومؤلما، فمن الأسئلة المبكية المؤلمة، أن اتصلت بي في إحدى الحلقات إحدى أمهات الشهداء الذين قضوا على يد الانقلاب العسكري، فقالت بصوت باك: يا مولانا الشيخ، لقد استشهد ابني منذ عامين، وابني وحشني قوي، ولم أتحمل فراقه، ويوميا أبكيه، ولما ضاق بي الأمر ولم أستطع التحمل، ذهبت إلى قبره وفتحت القبر، ودخلت كي أراه، ونبشت القبر ورأيت جسده كما هو، هل ما فعلته جائز أم حرام، والله يا عم الشيخ فعلت ذلك غصبا عني، لقد أوحشني ابني كثيرا، وكاد قلبي يخرج من بيني ضلوعي شوقا لرؤيته، كانت المرأة تسأل وصوتها فيه حرقة وألم، وتتساقط الدموع من أعينها. لم أتمالك نفسي معها، فحالها حال كثير من الأمهات والآباء، كان الله لها ولهم جميعا.

كانت هناك أسئلة مفخخة تريد بذلك جري وجر القناة لمساحة تضر بالجميع، كما أرادت ذلك إحدى النساء اللائي يقمن بالبث المباشر، معترضة على إجابة سؤال لي قلت فيها: على كل مظلوم أن يلجأ لكل وسيلة قانونية مشروعة لنيل حقه، ولا يلجأ لأي وسيلة تزيد من مأساته، فخرجت سيدة تهاجمني من أمريكا، أني أدعو للتخاذل، ولا أدري لماذا لا تدعو من مكانها للثورة المسلحة التي تحرض عليها الشباب، وتقوم هي بممارستها، بينما تريد توريطي وتوريط الشباب في مصر. والفقه الإسلامي فيه الرأيان: الثورة السلمية وغير السلمية، ولكل منهما شروط وضوابط، ولكن من تدعو لذلك لا تعرف شروطا ولا ضوابط، إنما تعرف الضباط فقط!

شيوخ الانقلاب

ثم رأيت بعض الفتاوى التي أسبق بها، ويكون فيها رأي مهم ومنفتح، فأجد بعض شيوخ الانقلاب يسطون عليها، أو يسارعون لتقليدها، ومنها فتوى: طهارة الكلاب، وجواز اقتنائها، وفتاوى أخرى، مثل معركة كل عام التي تثار حول تهنئة غير المسلمين بأعيادهم، وحكم الغناء والموسيقى، ومصافحة المرأة، وكنت أرى هجوما أحيانا يكون المراد منه شخصي لا الرأي الفقهي، ولذا كنت أهمل مثل هذه الحملات، لأن أهل العلم تعلم أن ما ذكرته من قول فقهي له مستنده، وأن الجاهل بالفقه والعلم مهما أتيت له بأدلة سيظل متعصبا لرأيه.

وهذه آفة زادت في الفترة الأخيرة وهو ما أسميته: نشطاء الفتوى على الفيس بوك، فهم أشخاص لا علاقة لهم بالدين، بل ترى أحدهم طوال حياته لا علاقة له بالعلم الديني تحديدا، وفجأة ليقترب سياسيا من فصيل معين أظهر التدين، وهذا أمر بينه وبين ربه لا يعنينا، لكن ما يعنينا هنا كيف يتحول – أو تتحول – بين يوم وليلة لمفتي ومفتية، يناقش أهل العلم في قضايا لا علم لها بها، وهو ما ذكرني بكلمة للعلامة الشيخ محمد الغزالي عن أمثال هؤلاء حيث يقول: إن هؤلاء أناس تدينوا في السبت، وقرأوا في الأحد، وأفتوا الناس في الإثنين، ونصبوا أنفسهم أمراء جماعات في الثلاثاء، أخذوا الدين من أوله إلى آخره في أربعة أيام!!!

لقد اكتشفت من خلال برنامجي (يستفتونك) حاجة الناس الملحة لبرامج كثيرة تشبع نهمهم الديني بحقائق الإسلام، ويسر تشريعه، وهو ما أسعد بأي اقتراح أو نصيحة في هذا الباب للبرنامج، بل إن مثل هذه البرامج يمكن أن تفيد طلبة الدراسات الاجتماعية، فيمكن لباحث في علم الاجتماع الديني، أن يأخذ برنامجا كـ (يستفتونك) مثلا، ليعمل إحصائية على نسبة المتصلين من الرجال أو النساء، لينظر أكثر الأسئلة المتكررة، وهل هي في باب الاجتماعيات، أم في باب السياسة، ومن خلالها يستطيع الحكم على تكوين الناس العلمي، وتوجههم الديني، ومدى تأثير الأحداث في أسئلة الناس سلبا وإيجابا، وكذلك دور هذه البرامج، هل ترقت بالناس وبتفكيرها وتدينها، أم ساهمت في تسطيحه؟

وعدت في أول المقال أن يكون الحديث عاما لا شخصيا، وعند الحديث عما يعد ظاهرا شخصيا، أن نخرج به بما يفيد العامة، وذلك من خلال حديثي عن ذكرياتي عن برنامج (يستفتونك) ووصولنا فيه لألف حلقة، أي ألف ساعة تلفزيونية على الهواء مباشرة، أسأل الله أن يتقبل منا ما مضى، وأن يصلح لنا ما بقي، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه