طبخة «فوزية الدستورية»

ومن أخطر ما صدر في هذه الفترة هو لائحة الجزاءات الصحفية التي أصدرها المجلس الأعلى للإعلام وتبناها بقوة، رجل النظام وكل الأنظمة، الصحفي مكرم محمد أحمد.

 

مشاهد متناثرة تحيط بي جعلتني أتذكر «فوزية»، المشهد الأول لائحة جزاءات للصحفيين، المشهد الثاني انتهاك حقوق أصحاب المعاشات، المشهد الثالث تدخل السيسي لإنصاف أصحاب المعاشات، المشهد الرابع الاستعانة برموز حكم مبارك وعلى رأسهم فتحي سرور رئيس مجلس الشعب فترة حكم حسني مبارك وفوزية عبد الستار في تمرير التعديلات الدستورية، المشهد القاتل، معذرة، أقصد المشهد الخامس أول أبريل (نيسان) الاستفتاء على التعديل الدستوري الذي يتيح للجنرال الاستمرار الأبدي على كرسي الحكم.

«فوزية الدستورية» هي فوزية عبد الستار عضو الأمانة العامة للحزب الوطني الديمقراطي ورئيس «اللجنة الدستورية التشريعية» بمجلس الشعب فترة حكم مبارك، وترجع شهرتها في الوسط الصحفي أنها كانت صاحبة التخريجات الدستورية العجيبة لتمرير مواد القانون 93 لسنة 1995 بشأن تغليظ العقوبات في قضايا النشر، وهوالقانون الذي تسبب في معارضة ومواجهة شديدة من الصحفيين آنذاك، وأطلق الصحفيون على فوزية عبد الستار اسم «فوزية الدستورية»، وأصبحت مثار انتقاد إعلامي واسع، ولهذا عندما تذوقت طبخة النظام الحاكم الآن تذكرت طعم طبخة «فوزية الدستورية»، وإن كان للطبخة الآن مرارة لاذعة.

شعرت بأنني تذوقت هذه الطبخة من قبل فنكهتها ليست غريبة علي، فأطلقت رأسي باحثا في صفحات دفتر الذاكرة لعلني اكتشف أين ومتى تذوقت هذه الطبخة من قبل.

ذكريات صحفية

البداية التي اختارتها ذاكرتي للتفاعل مع هذه الطبخة كان مسيرة في يوليو 2006 بدأت من نقابة الصحفيين لمجلس الشعب احتجاجا على عقوبات الحبس في جرائم النشر الخاصة بالتشكيك في الذمة المالية للمسؤولين الحكوميين، وكانت المسيرة ضمن الفعاليات التي انتهت بتدخل المخلوع حسني مبارك والاتصال هاتفياً برئيس المجلس فتحي سرور ومطالبته بـإلغاء عقوبة الحبس في جرائم القذف الخاصة بالذمة المالية ومضاعفة العقوبة المالية عوضاً عن ذلك.

وما بين ساعات تغير موقف نواب الحزب الوطني فقد كانوا في الجلسة الصباحية يخوضون حربا شرسة داخل البرلمان لتأكيد عقوبة حبس الصحفيين بحجة حماية الحياة الخاصة، وما بين الجلستين الصباحية والمسائية كان اتصال «مبارك» برئيس مجلس الشعب، فتحول موقف النواب من الشراسة الصباحية إلى وداعة مسائية وقدموا الورود للصحفيين المتابعين للجلسة!

تعتبر مصر واحدة من 13 دولة تعاقب بالحبس في جرائم النشر، وهو ما استبدله حسني مبارك بتوجيهاته لرئيس مجلس الشعب باستبدالها بغرامة تصل لـ80 ألف جنيه، ولكن الملاحظة المهمة أن إلغاء عقوبة الحبس واستبدالها بالغرامة اقتصر فقط على جرائم القذف الخاصة بالذمة المالية، بينما استمر القانون في تطبيق عقوبة حبس الصحفيين في مواطن أخرى منها «تعمد إهانة مسؤولين أجانب»!!، مع استمرار الغرامات الباهظة التي غالبا ما يعجز الصحفي عن سدادها فيكون مصيره الحبس.

وكانت لعبة الإلهاء والإرباك هي اللعبة التي يجيدها رجال نظام مبارك والتي تستنفر الرأي العام بقرار وتصعد به غاضبا في اتجاه، ثم تتنازل عنه وتمرر ما هو أصعب في اتجاه آخر.

الحقيقة أن علاقة مبارك بالإعلام والصحافة كانت علاقة عدائية متشابكة تتشابه إلى حد كبير مع علاقة النظام الحالي بالإعلام والصحافة والفرق الوحيد في شراسة وغشومية وبجاحة النظام الحالى، ورجعت بي الذاكرة أكثر إلى عام 1995 عندما كانت الجماعة الصحفية تخوض حربا شعواء في مواجهة القانون93 لسنة 1995 والذي أطلقت عليه الجماعة الصحفية اسم قانون اغتيال الصحافة فقد كان يحمل موادا قانونية تغلظ العقوبات في قضايا النشر وتقيد حرية الصحافة.

ورغم أن مواجهة 1995 لم تكن المواجهة الأولي بين الحكومة المصرية والجماعة الصحفية التي كان قدرها الخلاف الدائم مع النظم الحاكمة المتوالية وخاصة بعد 1952. إلا أنها كانت المواجهة الأشرس لأسباب تتعلق بظروف خاصة بوعي الجماعة الصحفية آنذاك.

المواجهة

وظلت المواجهة شرسة بين الجماعة الصحفية ونظام حسني مبارك الذي كان يصف الصحفيين بأنهم «لبط»، واشتركت الكثير من طوائف المجتمع مع الصحفيين في المواجهة وخاصة القانونين منهم، وقررت الجمعية العمومية للصحفيين تشكيل لجنة صحفية قانونية لإعداد مشروع لقانون الصحافة واشترك معها مركز المساعدة القانونية وهو أحد المراكز الحقوقية الأهلية، وشهدت الجمعية العمومية حضورا مكثفا غير مسبوق واعتبرت نفسها في حالة انعقاد دائم لحين انتهاء الأزمة واعتصم الصحفيون في نقابتهم، وانتهت اللجنة الصحفية القانونية إلى مشروع من 65 مادة قانونية طرحوه كبديل عن كل القوانين والمواد القانونية المتعلقة بالصحافة ونصت المادة «38» منه على أن «تُلغي العقوبات المقيدة للحرية في الجرائم التي تقع بواسطة الصحف ويكتفي بعقوبة الغرامة على أن يضاعف الحد الأدنى والحد الأقصى للغرامة المنصوص عليها في مواد قانون العقوبات أو أي قانون آخر»، ورفضت الحكومة هذا المشروع وتقدمت بمشروعي قانونين إلى مجلس الشعب، وافق عليهما وصدق عليهما رئيس الجمهورية ونشرا في الجريدة الرسمية في 30 يونيو (حزيران) 1996 وهما قانون رقم 95 لسنة 1996 بشأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 والقانون رقم 96 لسنة 1996 بشأن تنظيم الصحافة وفقاً للقانونين واستمرت العقوبات السالبة للحريات في قضايا النشر.

استمرت مقاومة الجماعة الصحفية حتى استطاع النقيب «جلال عارف» الحصول على وعد رئاسي عام 2004 من حسني مبارك بإصدار قانون بإلغاء الحبس في قضايا النشر.

واستمر الصراع بين الجماعة الصحفية وقطاع من رجال النظام وفي مقدمتهم رجال الأعمال ورغم أنه تم تحقيق جزئي للوعد الرئاسي عام 2006 إلا أن محاولات رجال الأعمال استمرت بشراسة لتمرير مواد قانونية تستهدف تغليظ العقوبات في جرائم النشر الخاصة بالتشكيك في الذمة المالية للمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال، وتصدت الجماعة الصحفية لهذه المحاولات باستجابة حسني مبارك لضغوط الصحفيين وسحب مشروع تعديلات رجال الأعمال من مجلس الشعب.

وصارت الأمور على ما صارت عليه حتى ارتفعت حدة المواجهة بين النظام والجماعة الصحفية بشكل أكثر شراسة عقب تولي الجنرال الحكم حيث إنه يكن كراهية شديدة للإعلام بل ولمبدأ حرية الراي والتعبير من الأساس، وبدأ الجهاز المحيط بالجنرال اتخاذ تدابير مختلفة الأدوات والوسائل للسيطرة على المجتمع الإعلامي حتى إن  أجهزة سيادية تملكت معظم القنوات والمؤسسات الإعلامية من وراء ستار رجال الأعمال، ومن ناحية أخرى بدأت التضييقات على الإعلاميين وخاصة الصحفيين ومطاردتهم وحصارهم ومحاولات لتمرير قوانين مقيدة للحريات الصحفية بل إنها اتسعت وتجاوزت الصحفيين لتشمل محاصرة المجتمع كله والتضييق على حرية الرأي والتعبير.

ومن أخطر ما صدر في هذه الفترة هو لائحة الجزاءات الصحفية التي أصدرها المجلس الأعلى للإعلام وتبناها بقوة، رجل النظام وكل الأنظمة، الصحفي مكرم محمد أحمد.

والحقيقة أن العلاقة بين نظام الجنرال والجماعة الصحفية تسببت في أصعب ردة للخلف شهدتها الجماعة الصحفية، فرغم ما شهدته علاقة الأنظمة السابقة من توتر مع الجماعة الصحفية إلا أنها لم تكن بهذا الغشم والقسوة والغباوة في ممارسة القمع السلطوية ويكفي أنه بنظرة سريعة للائحة الجزاءات المكرمية تتأكد من أن نية النظام القمعية وهدفة القضاء تماما على أي رؤية أو رغبة في ممارسة حرية الرأي والتعبير، وهي اللائحة التي تم تنفيذ بنودها بعد صدورها بأيام قليلة بإغلاق موقع «المشهد»

لائحة كالأحكام العرفية

صدرت اللائحة وهي تحمل بنودا تجاوزت حدود القواعد والمفاهيم والثوابت أكثر من بنود الأحكام العرفية فترات الاحتلال، فقد أعطت لرئيس المجلس الأعلى سلطات تفوق سلطة القاضي وحق محاكمة الصحف والصحفيين وإصدار عقوبات تجاوزت العقوبات المنصوص عليها في القانون!، كما أنها الغت دور نقابة الصحفيين في محاسبة أعضائها ونصب المجلس نفسه مدعيا وقاضيا على الصحفيين

تجاوزت اللائحة سلطة القضاء وشرع المجلس لنفسه حقوق فرض العقوبات الجنائية والتي وصلت إلى غرامات تصل لخمسة ملايين جنيه والمصادرة والوقف والإغلاق، وتحولت اللائحة إلى مصيدة مفتوحة لاصطياد الصحفيين وخاصة المعارضين للحكومة ووضعهم تحت مقصلة المحاسبة فقد تضمنت اتهامات واسعة فضفاضة يسهل تأويلها وتحويل من تثبت عليه إلى المحاكمة الجنائية مثل:

مخالفة النظام العام والآداب العامة واعتبارات ومقتضيات الأمن القومي، والإضرار بمصالح الدولة وفق ما يقدره المجلس، وإجراء مناقشات أو حوارات تعمم ظاهرة فردية باعتبارها ظاهرة عامة والإساءة لمؤسسات لدولة والإضرار بمصالحها، ونشر مادة تتعرض للأديان والمذاهب الدينية، واستخدام ألفاظ تؤذي مشاعر الجمهور!!!!

الطبخة

إذا ما وضعنا هذه اللائحة بجانب التضييقات المعيشية والمطاردات الأمنية وبعض المشاهد مثل مشهد انتهاك حقوق أصحاب المعاشات ثم تدخل الجنرال لإعادة هذا الحق قبل الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي تسمح له بالبقاء في الحكم يما يتجاوز مواد الدستور القائم، كل هذا يجعلنا أمام مشهد مشابه لمشهد طبخة «فوزية الدستورية» ولكنه أكثر مسخا وتشوها، ورغم ذلك لم تتحرك في مواجهته ربع القوى الشعبية التي واجهت القوانين الباطشة السابقة!!

فهنيئا للنظام طبخة فوزية حتى تستيقظ الأمة ويستيقظ ضميرها الذي تمثله الجماعة الصحفية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه