تدليل التطرف في الغرب..!

هذا التطرف هو المصنع الذي شكل وأنتج الإرهابي الأسترالي مرتكب مجزرة المسجدين في نيوزيلندا، وهو ليس الشخص الأول في سلسلة الإجرام ذات المنابع العنصرية والدينية.

يحظى التطرف الفكري في الغرب بالتدليل، وهو تدليل زائد، خارج المحاسبة القانونية، والسياسية، والحزبية، والإعلامية، والمدنية الشعبية، بل تتوفر له منافذ وروافد قوية متعددة داعمة في كل هذه الأذرع، كما يحظى بالاحتضان الشعبي، والمجاهرة بالمساندة من فئات في الجمهور العام ..
ويُترجم هذا الدعم بأصوات في صناديق الانتخابات فيدخل المتطرفون البرلمانات (ألمانيا، هولندا، إيطاليا، فرنسا، وكل بلدان أوربا بلا استثناء)، ويشكلون الحكومات سواء كاملة (إيطاليا)، أو بالتشارك مع أحزاب أخرى أقرب سياسياً لأجندة المتطرفين (النمسا)، ويحققون إنجازاً كبيراً في بريطانيا بالدعوة والحشد الشعبي في استفتاء يونيو 2016 لإخراجها من الاتحاد الأوربي.

مصنع التطرف

صعود تيارات اليمين القومي المتطرف، وإعادة ظهور وبروز التيارات الفاشية والنازية يلف أوربا كلها، وكذلك أمريكا (ترمب وإدارته أيقونة المتطرفين في أوربا والعالم الحر اليوم)، وهذا الصعود يقدم صورة هي الأخطر على العالم بعد نازية هتلر وفاشية موسيليني اللتين قادتا كوكب الأرض إلى الحرب العالمية الثانية المدمرة.

هذا التطرف هو المصنع الذي شكل وأنتج الإرهابي الأسترالي مرتكب مجزرة المسجدين في نيوزيلندا، وهو ليس الشخص الأول في سلسلة الإجرام ذات المنابع العنصرية والدينية (العرق الأبيض المتفوق، والأفكار المسيحية التي تغذيها الصهيونية)، وهو لن يكون الأخير في جمهور منظم كاره للآخر ويمثل خزاناً لانتقال عناصره من التطرف النظري إلى الإرهاب العملي ..
وهذا الغادر سيُسجل في أحد أشد صفحات التطرف الغربي إسوداداً بسبب طبيعة جريمته الشنعاء، وطريقة تنفيذها، ونقلها مباشرة عبر موقع فيسبوك على أنغام الموسيقى مع هتافات فخر لشيطان فاشي يقتل أناس عُزل يصلون لربهم في أقدس مكان لديهم للعبادة.

 المسافة صفر

المسافة بين التطرف والإرهاب صفر، والخط الفاصل بين الظاهرتين المدمرتين شعرة خفيفة لا تكاد تُرى بالعين.

وتحول الفكرة المتطرفة إلى عملية إرهابية مسألة وقت قصير، التطرف هو نفسه الرصاص والقنابل والمتفجرات والسكاكين وسيارات الدهس وكل أدوات القتل المستخدمة في الإرهاب، والفارق أن الأدوات في الحالة الأولى تظل في النطاق النظري والخططي، ومع اتخاذ القرار تتحول إلى النطاق المادي والعملي.

وفي كلتا الحالتين تحدث المخاطر، بالتصويب على المستهدفين أيدلوجياً، ثم التصويب عليهم عملياً، يتم استباحة دمهم في الأولى، وفي الثانية يجري إسالة هذا الدم، وتحويل الجسد إلى أشلاء، ونشر الرعب والترويع العام، وتحويل حياة المجتمعات والجماعات الإنسانية إلى جحيم.

وهذه حالة إرهابي نيوزيلندا، الذي تشكل وتخلق فكرياً وسياسياً ودينياً وعلى مختلف مستويات الثقافة والتعبئة السوداء في ظل انتمائه لتيار التطرف في العالم الحر، وإيمانه العميق بهذا التيار وبرموزه وبالأصول والمنابت الفكرية والتاريخية التي ينهل منها مادة العداء والعنصرية والتعصب الديني والإنساني والتقسيم المجتمعي.

منابع تأسيس الفكر المنحرف

المجرم ليس حالة منبتة الصلة عن البيئة الفكرية المتشددة في مجتمعه الأسترالي، وقد يكون انخرط مع أشباهه خلال السنوات التي عاشها في نيوزيلندا الساحة التي اختارها لجريمته، وأيضاً في تواصله مع اليمين المتطرف في أوربا.

 وزياراته لبلدان أوربية وأسيوية بعينها لم يكن مصادفة، بل معاينة على أرض الواقع لبعض منابع تأسيس الفكر المنحرف، واستلهام زخم هذا الفكر، والاحتكاك بشواهد التاريخ الذي يرتبط بحوادثه القديمة، وقد دون كل ذلك في رأسه، قبل أسلحته، وقبل كتابة بيانه الحربي.

وهو إرهابي قارئ، لكن في الجانب السيء من كتب الثقافة والفكر والتاريخ والدين، وبيانه “البديل العظيم” ينضح بالحقد والدم والرمزيات القديمة مثل معارك وتواريخ وشخصيات بعينها، والرمزيات الحديثة مثل حزنه على هزيمة جان ماري لوبن زعيمة المتطرفين في أوربا، ورئيسة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي طليعة أحزاب التطرف اليميني، ونقمته على ماكرون الذي هزمها في انتخابات الرئاسة الفرنسية (مايو 2017)، وسعادته لفوز ترامب برئاسة أمريكا (نوفمبر2016)، وهو في نظر القوميين زعيمهم الكبير ومثلهم الأعلى.

ترمب ومثلث البؤس

رئاسة ترامب لأمريكا جعلت العالم أسوأ مما كان، فهو يشعل الصراعات، ويؤجج الحزازات، وينمي الكراهيات والعرقيات، ويرفع منسوب العنف والعدوانية، وأمريكا نفسها تقع تحت هذه العجلة المتطرفة كما جرى في أحداث (شارلوتسفيل) الدامية في 12 أغسطس 2017،  ودعمه المضاعف لإسرائيل من منطلقات دينية إنجيلية صهيونية، يجعل الشر مزدهراً، باعتبارها رأس العنصرية والتعصب الديني والإرهاب في العالم.

 وكما يلتف المتطرفون من كل حدب وصوب حول ترامب، فإن حكاماً عرباً ومسلمين يصطفون معهم في هذا الالتفاف إذ يجدون فيه حصناً لهم، ومشجعاً على سياساتهم القمعية ضد شعوبهم، واطمئناناً على كراسيهم، ويكتمل المثلث بانضمام نتنياهو إليه، مثلث أضلاعه هي الأشد بؤوساً، التطرف اليميني(إرهاب)، والتطرف الصهيوني( إرهاب دولة رسمي)، والتبعية( أنظمة عربية وإسلامية، تُوظف قضية التطرف والإرهاب لمصلحتها أكثر مما تحاربها للخلاص منها).

 

حرية .. أم رصاصة للقتل؟

يحصل المتطرفون على الحماية القانونية السياسية والمساندة الشعبية في أوربا وأمريكا، وفي الديمقراطيات حول العالم، ( بولسونارو الرئيس البرازيلي الجديد ينتمي لليمين المتطرف)، بينما لا يحصل هذا الأمر في العالمين العربي والإسلامي.

 في النطاق الأول تدعي البلدان التي تحتضن أصحاب الفكر المتطرف أن من قيم الحرية ممارسة جميع التيارات السياسية والأيدلوجية العمل العام بحرية دون قيود بشرط ألا تخرق الدساتير والقوانين في بلدانها ..
وهذا مقبول، لكن عندما تُحرض ضد المسلمين، وتعادي المهاجرين، وتهين الإسلام في صلبه ورموزه، وتصفه بالدين المسوم والخبيث والشيطاني، وتملأ رؤوس جمهورها بما تسميه الغزو الإسلامي البربري لبلدانهم، وتعارض نمط العيش والثقافة بين المسلم الشرقي وبين المسيحي الغربي، فإن هذه  الدعايات المضللة يعتبرونها حرية في القول والفكر والتعبير!، وليست قنابل للموت، ورصاص للقتل، واعتداء صارخ على قوانين الأخلاق والضمير والإنسانية ورسالات الأديان الصحيحة قبل أن تكون عدوان مؤكد على دساتير وقوانين البشر.

هذا الذي يحدث هو إعلان حرب صريحة على أمة كبرى قوامها مليار وسبعمائة مليون مسلم تُتخذ عدواً بعد الخلاص من العدو الشيوعي الأحمر، والمؤمنون بالإسلام يوجدون في كل بلدان العالم، ولهذا يصبحون هدفاً مباشراً للمتطرفين كما فعل الأسترالي الجبان، وطالما التحريض متواصل، والطعن في المسلم وفي دينه مستمر، فإن (الحرب الصليبية) لم تضع أوزارها بعد، ستظل مشتعلة، حتى لو اتخذت اليوم شكلاً مختلفاً عن شكلها العسكري القديم.

التطرف المرفوض إسلامياً

نعم هناك خطاب تحريضي وعدواني وتكفيري للآخر المختلف دينياً منسوب للإسلام ممثلاً في داعش والقاعدة وأنصار الشريعة وبوكو حرام وجيش محمد وغيرها من هذه التنظيمات، وهي ظاهرة خطيرة لا يجب إنكارها أو التقليل من خطرها، لكن الفارق الأساسي أنها تنظيمات وجماعات لا تحظى بأي شرعية في دولها ومجتمعاتها، تُحارب بعنف لأنها متطرفة، وهي مرفوضة ومدانة شعبياً وسياسياً وإعلامياً ودينياً ومن مختلف المؤسسات رسمية وشعبية، ومحرومة من أي ساحة تنفذ منها للتعبير عن نفسها، ومن يتبنى أيدلوجيتها ويجاهر بها فإنه يقع فوراً تحت طائلة القانون وطائلة النبذ المجتمعي، لا حرية هنا في فكر ومسلك التدمير العلني كما هو في الغرب حيث يوجد المتطرفون، وينشطون بحرية كاملة دون كابح لهم.

الإسلاموفوبيا والازدواجية الكارثية

مجتمع الحريات في العالم الديمقراطي يدلل التطرف اليميني، ويمنحه الفرصة لشن حرب عنصرية استعلائية تحريضية يومية على الإسلام والمسلمين ( الإسلاموفوبيا نشطة جداً)، وهذا يشجع المهووسين فيه على الاستهانة بأرواح الأبرياء.

  وهنا لا دستور أو قانون يتدخل لوقف هذه المسارات الخطيرة على السلام المجتمعي والعالمي، والتعايش الإنساني.

فهل ستظل حكومات الغرب تعيش هذه الازدواجية الكارثية؟، أتصور أنه بات لزاماً عليها مراجعة حساباتها وسياساتها بجدية متناهية بعد إرهاب نيوزيلندا لأن قيم حضارتها مبعث المباهاة لديها تتدنى إلى الحضيض، ولأن المُعتدى عليه مواطن متعايش مندمج، وليس عدواً مقاتلاً؟.

 الجريمة الوحشية يجب أن تصيب الحكومات هناك وحول العالم والطبقة السياسية والحزبية والمدنية بالعار لأنها تسمح بتمرير خطاب مغرق في التحريض الأسود يناقض روح الحداثة والحرية المسؤولة والتسامح والإخاء.

  ألا يُعد تمرير الحكومات لخطابات وممارسات المتطرفين مهما تنوعت مسمياتهم، هو دق لطبول حرب شعواء للأديان والأعراق والثقافات والحضارات؟، ومثل هذه النوعية من الحروب تظل ممتدة عبر الزمن، ولا تنطفئ نيرانها إلا بفناء العنصر البشري.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه