أنسنة الدولة قبل الأسلمة

 

المقدس عادة لا يزول في أي حضارة بل يعاد انتاجه؛ تظل روحه ثابتة لكن تختلف مظاهره، مع زوال الكنيسة من السياسة ذهب كل مقدسها للدولة، وبنفس أدوات السيطرة، لكنها اتخذت طابعا دنيويا.

ما جرى كان دورانا للمقدس وتحريكا لمفاهيمه، من ناحية السماء الى الأرض. هذا ليس كلامي بل كلام الكثير من المفكرين الغربيين.  يرى ميشيل فوكو أن جذور الفكر اليهودي والمسيحي الرعوي رحلت إلى الحكم الكنسي الذي دمج طقسها المقدس مع البيروقراطية الرومانية، إلى أن سكنت تلك التراتبية في رحاب الدولة الحديثة.

برأيه لم تكن هناك قطيعة وتمزق بين التراث والحداثة في الغرب، الجوهر واحد والأردية مختلفة، فقد كانت السلطة الكنسية تتغيا تحقيق الخلاص في العالم السماوي وأضحت ترانيم الدولة الحديثة تروم خلاصا أرضيا.

 يذهب كارل شميت إلى أن الدولة هي لاهوت دنيوي، أخذت كل أخلاقيات وتقنيات الإله وتم علمنتها، وكل معاني السيادة الدينية أخذت ثوبا دنيويا وقانونية ودستوريا في الدولة الحديثة، لم يعد المسيح هو الرب المجسد في كنيسة تحكم وتسيطر، بل في دولة؛ فالحداثة استبدلت الدولة بالإله كما يقول فوكو، نحن نتكلم عن خبرة حضارية خاصة ورؤيتها للمقدس المجسد.

والدولة القومية الغربية استعارت صيغة واجب الوجود من الله، فهي غاية نفسها ووجودها، وليست وسيلة لغيرها، وهي الصانعة للشعب والقومية والدستور والحدود، وصاحبة العنف المشروع والقوة العادلة والقاهرة. وتمتلك كل أدوات القبض على البشر.

الدولة البستاني

لكننا نحن المسلمين لنا خبرة حضارية مختلفة تماما في الفكر السياسي، فالمطلق في الثقافة الإسلامية ظل غير مادي، لم يتجسد في شخص ولا مؤسسة، ويعبر عنه العلماء بالتوقيع والترجمة والاجتهاد.

 وبالتالي، الدولة في الإسلام لم تحل مكان الله، والسيادة الإلهية ظلت داخل ضمير الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة، كما يقول الحديث الشريف. فلم تصنع الدولة الأمة أو الثقافة أو النظام، بل العكس هو الذي حدث، ظلت الدولة عندنا وسيلة وليست غاية، وظيفية وليست وجودية، بستاني يرعى وينظف ويزرع، ويترك للنبات والأشجار حرية الحركة، ظل الله حصرا هو واجب الوجود.

والدولة الإسلامية القديمة كانت فكرة يعتريها الزوال والتعاقب والتداول وحكم السلالات، وهي ليست في ديمومة الأمة والمجتمع وشريعتهما، كما يقول حلاق، ومؤسسات المجتمع سابقة على الدولة، وليس للدولة من فضل إلا الخدمة والرعاية. 

والدولة الإسلامية كانت لحراسة الشريعة، أما تطبيقها ففي يد المجتمع المدني الرحمي العلمائي، وكان ميراث النبي محققا في المجتمع حيث العلماء هم ورثته وأهل الله وخاصته، وكانت السلطة الفعلية في أيديهم: الإفتاء والقضاء، والوقف، والتعليم والتزكية.

كان العلماء يرفضون التقنين الدولتي، كرفض الإمام مالك فرض الموطأ على الناس، لأن التقنين ينزع الشريعة من يد العلماء ويسلمها الى يد الحاكم، لتخرج من باحة المجتمع إلى ساحة الدولة، ومن الالتزام الاختياري الأخلاقي، إلى الجبر والقهر، ولأن التقنين يعني إلغاء التعدد الفقهي.

فرض الدولة القومية

الملفت أنه في الوقت الذي انتقل فيه فكرنا السياسي بدولته إلى رحاب التاريخ تماما، كان الفكر السياسي الغربي مستمرا في انتقال روحه العامة من الكنيسة إلى الدولة القومية، حتى طقوس التعذيب والاستجواب وتقنيات السيطرة والاعتراف كما يقول فوكو انتقلت من الأديرة إلى الشرطة الحديثة، إلا أن الأمر لدينا بدا مبتورا.

حدث أنه مع الاستعمار تم هدم العالم القديم، وتم استزراع دولة تسمى الدولة القومية الحديثة: شعب وحكومة وإقليم وحدود، وظهر عندنا الإله المتجسد لأول مرة، بل وفي أشد ظهوره خرافة.                                                                              

كان كارل شميت في كتابه “اللاهوت السياسي” يرى أن لحظة الاستثناء وإعلان الطوارئ والقمع العام في الدولة القومية، تشبه لحظة المعجزة والخوارق في الدين حينما يريد الله إثبات إعجازه وقهره للمعترضين، كذلك الدولة عندما تتحرك بمعزل عن الرقابة الدستورية والقانونية، تتصرف كإله مطلق، يكسر القواعد ويخرق الأنظمة.

 وإذا كانت الطوارئ هي الاستثناء في الغرب الديمقراطي، فإنها في الشرق والعالم العربي أساس دائم، أي أن الدولة عندنا هي إله متجل يكسر القوانين والدساتير، إله يدعم وجوده بالقمع والبطشة الكبرى حيث لا تُسأل الدولة عما تفعل وشعبها يُسألون. وبالتالي ليس عندنا إله يحكم نصف الوقت كما في الدول الغربية، بل إله حاضر كل الوقت.

هل الإسلام دين ودولة قومية؟

وصلنا هنا لمفهوم أسلمة الدولة الذي لخصه شعار رفع بعد أن سقطت الخلافة وهو أن الإسلام دين دولة، وظهرت مقولة الدولة الإسلامية، وأن الدولة القومية مجرد أداة محايدة يمكن استخدامها وتوظيفها دون محاولة استيعاب لفلسفتها وروحها وتاريخها.

والإسلام دين ودولة: أي شعب واقليم وحدود ووظائف شاملة، يعني أن الاسلام يحتضن فكرة غريبة عنه، وأنه أُلحق بالإسلام مالم ينتجه أو لا يعرفه، وهذا الإدماج ليس ادماجا لأداة محايدة مثل التلفاز وإنما هو إدماج لجهاز فلسفي وسياسي وتشريعي..

اعتبر وائل حلاق أن هذا الالحاق هو فسيلة مستحيلة تزرع في أرض غريبة، واعتبر رفيق حبيب أن «دولنة» الفكرة الإسلامية و«قومنة» الإسلاميين هما من وجوه العلمنة التي تتم من داخل الفكرة الإسلامية نفسها. وإذا كان حبيب يتفهم وجهة النظر التي ترى إمكانية إجراء إصلاح على الدولة القومية؛ فإن وائل حلاق يرى ذلك من ضروب المستحيلات.

ووجهة نظر رفيق حبيب أن أسلمة الدولة القومية قبل إصلاحها يعني تسليحها الدولة بأقصى درجات البطش، وإدماج السيادة الدستورية بالسيادة الدينية؛ أي إنتاج دولة دينية بمعايير العصور الوسطى تسيطر على المجال الديني والسياسي، دولة توظف أدوات القهر في القبض على مصائر البشر، وولي أمر يجمع السيف مع العقيدة، من حقه أن يقتل ثلثي الشعب من أجل أن يعيش الباقي.

وأسلمة الدولة القومية قبل الاصلاح يعني أن تكون الشريعة في مركز الدولة والسلطة، وتاريخيا تبدو قوة الشريعة في تجليها في نطاق الأمة، وكان الناس يستجيبون لها باختيار وبالتزام اجتماعي، وحتى الآن نجد الأعراف غير المدونة أكثر نفاذا من القانون.

والدول القومية الاستبدادية التي حاولت فرض الاسلام بالقانون وفرض الشريعة من أعلى بسلطة الدولة شهدت صورا من المقاومة ضد منزع الأسلمة السلطوي. وقد حدثني صديق عن مفارقة ازدحام المساجد في تركيا حيث ينبع التدين من أسفل، وفراغها في إيران حيث الأسلمة العلوية، وملاحظات كثيرة شبيهة يمكن الكلام عنها في السعودية.    

إذاً يجب على الإسلاميين أن يقلقوا أكثر من غيرهم من عملية أسلمة الدولة القومية، لأن أسلمة الدولة قبل إصلاحها يدعم سعيها نحو التأله والتسلط، والأمر يصبح أشد قسوة مع الأنظمة الفردانية العربية والإسلامية.

 تفكيك لاهوت الدولة

والحقيقة أن أية أسلمة لا تبدأ بتفكيك لاهوت الدولة القومية، وردع توغلها في حياة الناس، هي أسلمة شائهة، منقوصة، والأسلمة الحقيقية تبدأ بأنسنة الدولة ونعني بها تحرير الدولة من لاهوتها، ونزع السحر والخرافة عنها، وإنزالها من السماء إلى الأرض. أسلمة الدولة إقرار أنها دولة وليست إلها، حارسة وليست شاملة.

وجزء من عملية الأسلمة لن يتم إلا عبر سياسات تحويلية للكثير من صلاحيات الدولة الحديثة لتكون بيد المجتمع المدني «الأمة المعصومة»، والاتجاه نحو إحياء مؤسسات المجتمع المدني والرحمي الذي يعتبر المجسد الأعلى للشريعة الإسلامية بمعناها الأخلاقي والمعرفي والتزكوي والإفتائي والقضائي والوقفي. الدين هو نداء المجتمع وليس رداء الدولة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه